لا توجد كرامة في الموت. على الأقل من وجهة نظر جوليا التي بقيت لوحدها.
كذلك من أجل الأطفال الذين ينظرون إليها بوجوه باكية.
أن لا يموت، تلك هي الكرامة. أن يعود حيًّا ويبقى بجانبها، تلك هي الكرامة. حاولت جوليا أن تبتسم.
كانت مشاعر كهذه لا يمكنها إظهارها أمام إيفلين، التي تمر بمثل هذا الموقف للمرة الأولى.
إذا انهارت إيفلين ، ستنهار العاصمة الإمبراطورية، وإذا استولى سبيلمان عليها، فسينتهي كل شيء. لم يكن من الممكن ضمان حياة رودريك و لـيا أيضاً.
لذلك شدّت جوليا قوتها و وقفت، وجمعت كل ما لديها من طاقة لدعم إيفلين.
وبينما كانت تُجهّز الأطفال، وصلت عربة اللورد بنتلي بهدوء إلى قصر الدوق. كانت عربة من خشب الأبنوس دون شعار العائلة.
“سيدتي الدوقة.”
“لست متأكدة إن كانت هذه هي العربة التي أرسلتها.”
“بفضلها وصلت بسهولة.”
“و ماذا عن زوجة اللورد؟”
“بفضل عنايتكِ، هي الآن تستريح جيدًا. نامت بمجرد أن تحركنا… فقد وصف لها الطبيب منوّمًا.”
“لا بأس، دعوها و شأنها. ماذا عن سيلا؟”
عند سؤال جوليا، أخرجت طفلة صغيرة رأسها من داخل العربة بحذر. كانت تنظر حولها بوجه خائف ثم نزلت بحذر من العربة. ثم انحنت برأسها.
كانت تصرفاتها ناضجة على غير عادة الأطفال. فالوالدان المريضان أحيانًا يجعلون الطفل ينضج بسرعة.
“شكرًا لمساعدتكِ لأمي. أشكركِ نيابة عن أمي.”
ابتسمت جوليا ابتسامة خفيفة. كانت مختلفة عن لـيا التي تتظاهر بأنها سيدة صغيرة.
ترددت جوليا قليلاً، ثم ربّتت على رأس سيلا. كانت طفلة ثمينة أنقذوها من قبضة دوق سبيلمان.
“أرجو أن تعتني بأطفالي، سيلا. رودريك، لـيا، قوما بتحية سيلا.”
“مرحبًا، سيلا. أنا اسمي رودريك. عمري الآن ست سنوات. هذه لـيا. سمعت أننا سنسافر معًا لبعض الوقت. أرجو أن تعتني بنا.”
قال رودريك بوضوح كما تعلم تمامًا. لم يبقَ من ملامح الطفل الذي كاد يبكي قبل قليل شيء.
“تشرفت بمعرفتك، رودريك. أنا عمري خمس سنوات!”
“يمكنكِ مناداتي بأخي من الآن فصاعدًا. سأحميك.”
قال الفتى النبيل ذو الست سنوات، الذي تعلم أن عليه حماية الصغار، بنضج. تمامًا كما قال لإيفلين سابقًا.
عندما تذكرت جوليا ذلك اليوم، ابتسمت دون أن تدري. عندما فكرت بمشاعر إيفلين في ذلك الوقت، شعرت كم كانت مذهولة و عديمة الحيلة.
و مع ذلك، قاومت إيفلين كل شيء بهدوء. إيفلين قوية. و عندما ينهار الشخص القوي، فإن النهوض مجددًا يكون صعبًا جدًا.
كان ذلك ما يخيف جوليا. أن تنهار إيفلين ذات يوم.
لكي تبقى جوليا بجانب إيفلين، كان عليها إرسال الأطفال إلى مكان آمن. لذا كان هذا فراقًا مؤقتًا لا بد منه.
جثت جوليا على ركبتيها لتكون في مستوى أعين الأطفال. تحدثت إلى الدمية ذات الشعر الأصفر المصنوعة من الخيوط، التي كانت لـيا تحتضنها.
“جوبي. ستحرس لـيا عندما تنام حتى لا تخاف، أليس كذلك؟”
“… أوم. جوبي وعد بذلك. سيغني لها أيضًا أغنية لتنام.”
قبّلت جوليا خد ابنتها الممتلئ. ثم قبّلت خد رودريك، الذي كان يتظاهر بالنضج وهو يعضّ شفتيه.
احتضنت الأطفال بقوة ثم أطلقت سراحهم. كان هذا ختام يوم كامل من الاستعدادات لهذا الوداع.
“هيا، اصعدوا بسرعة. علينا الانطلاق مبكرًا لنصل باكرًا. عندما تصلون، ستكون خالاتكم بانتظاركم. ستتصرفون بشكل جيد، أليس كذلك؟”
“نعم.”
أجاب رودريك بشجاعة. و أومأت لـيا برأسها ببطء.
ركبت الأطفال العربة على مضض. و تبعهم فرسان النخبة التابعون لقصر الدوق. كانوا من تركهم ديميتور من أجل جوليا و أطفاله. أرسلتهم جميعًا مع الأطفال.
وقفت جوليا طويلًا تراقب العربة التي بدأت بالتحرك، ثم استدارت.
“… سأقيم لبعض الوقت في قصر ولية العهد، فاستعدوا لذلك.”
“هل ستدخلين القصر بشكل كامل؟”
أومأت جوليا برأسها. كان الوقت الذي يحتاج فيه كل منهما للآخر.
عندما تنظر إلى الماضي لاحقًا، كانت تريد أن تفعل كل ما بوسعها كي لا تندم.
“لذا، ديميتور. أنتَ أيضًا ابذل قصارى جهدك. أياً كان ذلك الجهد. عد حيًّا حتى لو من الجحيم.”
****
في الصباح الباكر.
دخل دوق سبيلمان القصر بوجه هادئ. بينما كان الجميع يترقب بأمل نجاة ولي العهد و الدوق روجر، ويتمنون أن تكون الأخبار السيئة مجرد شائعة، كان هو الوحيد الذي يبدو عليه السعادة.
كم هو بغيض.
لم أشعر بهذا القدر من الرغبة في القتل تجاه إنسان من قبل. أردت أن أقتله. لماذا يجب أن يموت سيرتين؟ الذي يجب أن يموت هو هذا الرجل.
في الآونة الأخيرة، كانت تُعقد اجتماعات النبلاء يومياً. وقبل كل اجتماع، كان يفرض مقابلة منفردة دون إذن حتى جلس أخيراً. أصبحت معتادة على رؤية وجهه.
“زوجة الدوق روجر تغيب عن المجلس في كل مرة، أليس كذلك؟”
يتحدث بدون احترام لأن لا أحد حولنا. دوق سبيلمان ما زال يراني أقل منه.
من الواضح أنه يراني كورقة يمكنه التخلص منها متى شاء. تُرى، ما الذي يدور في رأسه؟
“و أنتَ كذلك دائماً. تدخل دون إذن.”
“أليس هذا هو معنى الأبوّة؟ فكّري، من الذي وضعكِ في هذا المنصب؟ حينها ستدركين ما هو المسار الطبيعي و الطريق الصحيح.”
عضضت على شفتي بشدة. بذلت جهدي للحفاظ على رباطة جأشي. رغم أن النيران كانت تغلي في داخلي، و قد خنقته في خيالي عشرات المرات.
“أتيت اليوم لأوصل لكِ رسالة. كان من الأفضل لو كانت الدوقة هنا أيضاً، للأسف.”
ابتسم دوق سبيلمان برقة ووضع شيئاً على الطاولة.
كان مجرد ظرف رسالة عادي. كُتب عليه اسمي و اسم جوليا بخط منمق. سقط قلبي. لم أكن بحاجة إلى أن يُقال لي ما هو، كنت أعرف.
“هذا…”
“نعم، وصية. من تلك التي تُكتب قبل الذهاب إلى ساحة المعركة. يؤسفني أن أكون أنا من يسلمكِ إياها.”
كان وجه دوق سبيلمان مفعماً بالسعادة. وكان هذا يوضح تماماً سبب بحثه عن جوليا.
بينما كنت أبذل قصارى جهدي لإنكار خبر الموت، كان دوق سبيلمان يبذل قصارى جهده لتذكيري به.
أطبقت على أسناني.
ارتجف ذقني.
تنفست ببطء. كان دوق سبيلمان يملك موهبة فطرية في دفع الناس نحو ظلام لا حدود له.
“يبدو أن لسانكِ الناعم قد تجمد، إيفلين. نعم، هذا هو وجه امرأة فقدت زوجها. تسك، كيف ستديرين شؤون الإمبراطورية بهذه الحالة؟ إن كان الأمر صعباً، فقولي. يمكنني مساعدتكِ كما تشائين.”
الذي يملك لسان أفعى ناعم ليس أنا، بل هو. قبضت يدي بقوة تحت الطاولة.
“اقرئيها.”
“سأفعل ذلك بنفسي.”
“همم، إذن ما رأيكِ بهذا؟”
تظاهر دوق سبيلمان باللطف وهو يمد لي صندوقاً.
“حتى أن ولي العهد ترك لكِ هدية. أليس لطيفاً؟”
اسودّت الدنيا أمام عيني. ارتجف تنفسي. هدية؟
دون إذن، فتح دوق سبيلمان الصندوق. وكان ما بداخله مسدس صغير أنيق الشكل، مناسب لحجم يدي.
“يمكن تفسير هذه الهدية بطريقتين، أليس كذلك؟”
همس دوق سبيلمان بنبرة مظلمة.
“قد تعني أنكِ ستستخدمينه لحماية نفسك.”
ابتلعت ريقي بصعوبة. تمكنت من حبس دموعي أمام دوق سبيلمان. لكنه، مرة أخرى، بذل قصارى جهده لدفعي نحو الهاوية.
“وقد تعني أيضاً، أنكِ لا ترغبين في أن تبقي وحيدة، فتموتين معه، أليس كذلك؟”
كان همساً ناعماً بنهاية مرفوعة.
تبا له.
“مت، أيها الشيطان الحقير.”
خرجت الشتيمة مني دون تحكم. وابتسم دوق سبيلمان كاشفاً عن أسنانه أمامي.
“مع هذا الإطراء، أرغب دوماً في بذل قصارى جهدي.”
نهض بهدوء.
“أتطلع بشوق لاجتماع مجلس النبلاء اليوم. و أنتِ كذلك، أليس كذلك؟”
غادر الدوق الذي هز كياني بالكامل.
التعليقات لهذا الفصل "116"