كما قالت الجدة الكبرى. أمسكتُ بيدهل بإحكام. من المؤسف أن ينهار كل شيء الآن بعد كل ما بذلناه من جهد حتى هذه اللحظة. تنفست ببطء شهيقًا وزفيرًا.
لا يزال التنفس صعبًا. شددت القوة في ساقي المرتجفتين.
أمل ضئيل بأن سيرتين قد يعود.
و متغير صغير يتمثل في أنه لم يُعثر على الجثة بعد.
و تطابق غريب أن ديميتور قد قُتل أيضًا.
كل ذلك جعلني أقاوم. حتى لو كان موته حقيقة، فلا ينبغي أن أنهار الآن.
أردت أن أحمي بكل ما أستطيع ما كان سيرتين يريد حمايته، و ما كان يطمح إلى الحصول عليه.
“…جوليا. شكرًا لكونكِ بجانبي. هل تم التعامل مع أمر الفيكونت بنتلي جيدًا؟”
“حسبما أعلم، قابل الفيكونت بنتلي دوق سبيلمان مساء البارحة و وقع على الأوراق. تم إكمال العقد المزدوج.”
جيد، سار الأمر كما ينبغي.
“هل استلم المال؟”
“نعم.”
“حسنًا.”
الدوق سبيلمان لا يشك في الفيكونت بنتلي.
“أين مورتيغا؟ هايزل، انقلي أمري إلى مورتيغا. ابتداءً من الآن، سيتم إغلاق جميع نقاط التفتيش في الإمبراطورية . سنبقي الطريق المؤدي إلى لاروس فقط مفتوحًا.”
“نعم، صاحبة السمو. لكن قد تكون هناك اعتراضات.”
ضحكت بسخرية.
“لن أقبل أي اعتراض. يوريس هي دولة صديقة لنا، هذا مؤكد . و جوليا، تابعي العمل حسب الخطة. وفي مثل هذه الحالات، سمعت أن سلطتي كقائدة للإمبراطورية أثناء الحرب مطلقة. كما أنه سيكون من الجيد استخدام عذر استدعاء عائلة تشينشيس المتبقية في لاروس إلى المركز.”
أومأت جوليا و هايزل برأسيهما. لم يكن هناك ما قد يتم معارضته من الناحية القانونية. كما أن مسألة عائلة الكونت تشينشيس التي تمتلك الآن سلطة القرار في مجلس النبلاء كانت حساسة.
تأمين سلامتهم كان توجيهًا طبيعيًا في حالة الطوارئ الوطنية. لا أحد سيتمكن من الاعتراض.
“حالما تصل مجموعة الفيكونت بنتلي بأمان إلى لاروس، وتعود عائلة الكونت تشينشيس إلى العاصمة، سنغلق أيضًا الطريق المؤدي إلى لاروس. و بلّغي مورتيغا أن يرسل سرًا رجالًا للبحث. سأمنحهم تصاريح مرور.”
“نعم! صاحبة السمو.”
أجابت هايزل وكأنها مرتاحة، وكأنها تطمئن لرؤيتي أحاول فعل شيء.
كان فرض الحظر أمرًا لا مفر منه. سواء كان سيرتين حيًا أو ميتًا، أردت أن أكون أول من يعرف.
“جوليا، هل لدينا قوات خاصة يمكن تحريكها الآن؟ أظن أن مجموعة الفيكونت بنتلي والأطفال بحاجة إلى حماية في طريقهم.”
“سأتابع الأمر جيدًا، سموكِ. اتركي هذا الأمر لي.”
ابتسمت بخفة.
غادرت هايزل و جوليا الغرفة.
“هل يمكنكِ أن تعطيني قليلًا من الماء؟”
شربت الماء الذي قدمته لي الخادمة ببطء. شعرت وكأن عقلي بدأ يعود تدريجيًا. رغم أنني لا أزال واقفة في مكاني، إلا أن رؤيتي أصبحت واضحة.
“……هل كان دوق سبيلمان هادئًا؟”
“وهل تظنين ذلك؟ كان قبل قليل يحشد أمام القصر، والآن فقط عاد أدراجه. من الواضح ما الذي يريده.”
“وماذا عن الأميرة فيرونيكا؟”
“إنها ترتاح الآن في غرفة أخرى. لقد بقيت بجانبكِ طوال الليل.”
بما أن هايزل و جوليا كان عليهما العودة إلى منازلهما، لا بد أن فيرونيكا تطوعت بذلك.
فكّري، إيفلين.
ما الذي يريده دوق سبيلمان؟ ما أول ما سيفعله؟
أرسلت جوليا إلى الفيكونت بنتلي أولًا ليُجلي أطفال الدوق روجر.
كان الفيكونت بنتلي يستعد للمغادرة بذريعة علاج زوجته. و كان ينوي اصطحاب سِيلا و رودريك ولِيا معه.
ولحسن الحظ، كانت شقيقات جوليا في لاروس الآن. وحين يصلون إلى هناك، سيتلقّى الأطفال حماية من عائلة والدتهم.
إذا كان الدوق روجر لا يزال على قيد الحياة، وحاول فعل شيء، فلن يكون هناك ما يعيقه. و نحن أيضًا سننال حريتنا.
حين يعلم دوق سبيلمان باختفاء الأطفال، سيغضب، لكن بما أنه يراقبني الآن بعينين محتقنتين، فهذه هي فرصتي.
قبضت على يدي بقوة.
ضاق نفسي.
هل من الصواب أن أفعل هذا الآن، في مثل هذه اللحظة، أمام احتمال موت سيرتين، حتى لو كانت هناك بارقة أمل؟ هل أنا أتخذ قرارات عقلانية فعلًا؟
أدرت رأسي وحدّقت في جدتي .
“لا أعلم…… لا أعلم إن كنت أفعل الصواب، جدتي.”
انهار جسدي. عانقتني الجدة الكبرى بإحكام.
“إذا اتخذتُ قرارًا خاطئًا، ولم أقم بما يجب، يجب أن تخبريني.”
أمر واحد أقرره قد يكون له عواقب لا أعلمها. كان الوقت يتطلب الحذر في كل شيء.
منذ البداية، كل ما حصل حتى الآن—لاروس، الفيكونت بنتلي، قرار الحظر—كان ضمن المخطط المبدئي.
والآن، إلى أين عليّ أن أتابع؟
ربما لست قوية بما فيه الكفاية لتجاوز هذا الوضع. سيرتين أخطأ في الحكم عليّ.
بدونه، لا أستطيع…
“إيفلين.”
بعثت الجدة الكبرى الدفء في جسدي. شعرت بحرارة تتسلل إلى جسدي البارد.
“ستنجحين. أنتِ أذكى وأشجع فتاة رأيتها في حياتي. سأبقى بجانبكِ، و سأسير معكِ حتى نهاية الطريق.”
انسابت دموعي مجددًا، ودفنت رأسي في حضنها.
“رأيت حلمًا.”
استمرت الجدة الكبرى بصوت هادئ.
“كان في منتصف الصيف. فصل مختلف عن الآن، فصل حار. كان سيرتين يرتدي ملابس خفيفة ويبتسم و هو يقف و ظهره إلى البحر. كان الزبد الأبيض يتكسر، و سمعت صوتكِ. كان سيرتين حيًا في ذلك الحلم. إنه حي، بلا شك.”
صوتها الهادئ قام بتهدأتي. لمسة يدها على ظهري كانت لمسة ناضجة، مريحة.
“سيعود إليكِ لا محالة.”
أغمضت عيناي ببطء.
“في الصيف، أريد أن أذهب لرؤية البحر. أعتقد أنه لا بأس بالعودة إلى لاروس أيضًا.”
ذلك كان صوتي حين أخبرته.
“هل سأكون وحدي معكِ هناك؟ آمل ألا يكون هناك أي متطفلين.”
ذلك كان صوته اللطيف حين أجابني.
عند سماعي كلمة “الصيف”، انهمرت دموعي كالسيل الجارف. لقد انتهى صيفنا منذ زمن، ومع ذلك لا يزال ملازماً لي. أحياناً بشكل قاسٍ. كنت أفتقد البحر الذي رأيته معه.
*****
خرجت جوليا من القصر الإمبراطوري وتوجهت مباشرة إلى القصر. كان أقرباؤها قد تجمهروا أمام القصر الذي يحرسه فرسان روجر بإحكام، ومدّوا أيديهم نحوها، لكنها تجاهلتهم جميعاً. كانت صيحاتهم تتردد في الأرجاء.
كان أولئك الذين تدافعوا كزمرة من الضباع موجودين ليس فقط في العاصمة الإمبراطورية بل هنا أيضاً.
“إلى متى تعتقدين أن بإمكانكم الصمود هكذا؟ لم يصدر إعلان رسمي، لكن الشائعات عن مقتل الدوق روجر منتشرة على نطاق واسع!”
توقفت جوليا فجأة. انفجرت المشاعر التي كانت تكبتها بشدة في لحظة.
“ألستَ تتمنى أن يكون الأمر كذلك؟ من الأفضل أن تغلق فمك. انتظروا بهدوء حتى يصدر الإعلان الرسمي من العاصمة الإمبراطورية. كفوا عن التلصص على الشائعات بنوايا مظلمة. لو رآكم أحد، لظن أنكم أنتم من دبر موت ديميتور.”
قالت جوليا بسخرية باردة. عبس أولئك الذين لم يُسمح لهم بالدخول من خلف القضبان الحديدية، لكنهم لم يتمكنوا من الرد. لم يكونوا ليجرؤوا على قول إنهم يتمنون موت بطل الإمبراطورية.
“لا تسمحوا بدخول أي أحد. إذا فُتح هذا الباب، فسوف تتحملون أنتم المسؤولية.”
“نعم، سيدتي الدوقة.”
دخلت جوليا مجددًا بسرعة . كان عليها الاستعداد قبل أن تُغلق طرق لاروس.
صعدت جوليا إلى الطابق العلوي، بعد أن أمرت بجمع الأمتعة التي كانت قد أُعدت مسبقاً تحسباً لأي طارئ.
ركض الأطفال نحوها بوجوه قلقة ، و كأنهم استشعروا التوتر السائد، وتعلقوا بها.
“أمي!”
“ماما!”
زفرت جوليا بحرارة و احتضنت الأطفال.
“وردنا أن دوق روجر قد توفيّ. لقد فقد حياته أثناء محاولته إنقاذ ولي العهد. قالوا إنها كانت ميتة مشرفة، سيدتي.”
ميتة مشرفة؟
عضّت جوليا على شفتيها. لا وجود لشيء كهذا.
الموت كله موت عبثي.
‘لو كنتَ ميتًا فعلاً، ديميتور… لن أسامحكَ أبداً.’
ابتلعت جوليا دموعها بالقوة وابتسمت للأطفال.
“سنذهب في رحلة الآن. خالاتكما يردن رؤية رودريك و لـيا.”
ولحسن الحظ، لم يرتجف صوت جوليا.
التعليقات لهذا الفصل "115"