ركضت دون أن أدرك أن حذائي قد خُلع.
من القصر الرئيسي حيث كان الاجتماع إلى قصر ولي العهد، إلى حيث يوجد مورتيغا. لا بد أنه يعرف.
سيخبرني بالحقيقة. سيقول ان سيرتين لم يمت أبدًا، وأنه سيعود! سيقول إنني سمعت خطأ.
“صاحبة السمو ولية العهد!!”
تعالت أصوات الخادمات الحادة. لكن كل ذلك تشتّت ولم يصل إليّ.
وصلت إلى قصر ولي العهد و بحثت عن مورتيغا. و كان جميع المساعدين مجتمعين.
“السيد مورتيغا!”
“…”.
استدار مورتيغا ونظر إليّ. كانت عيناه فارغتين بلا أي مشاعر أو روح.
“كيف لكَ أن تنظر إليّ بذلك الوجه…؟”
ترنحت إلى الوراء. كان جسدي يرتجف كأوراق الشجر في مهب الريح.
وقف المساعدون بوجوه شاحبة في صمت. انحنوا أمامي بحيرة وارتباك.
“يا صاحبة السمو…”
“آه…”
كان صوت البكاء الخافت يتردد من بعيد و قريب في آن واحد. لم أستطع التنفس.
“قل إنه ليس صحيحًا. قل فورًا إنه ليس صحيحًا!! قل إنني سمعت خبرًا خاطئًا، إنني… إنني سمعت ذلك بشكل خاطئ…”
لم أكن أدرك حتى ما أقوله. كان فمي يتحرك من تلقاء نفسه. لم يتبقَ سوى الغريزة.
أمسكت بي الخادمات اللواتي تبعنني و أنا أترنح. انتشر صوت بكاء خافت في الممر.
“لا تبكي. لماذا تبكين أصلاً؟ سيرتين… ما زال حيًا.”
“يا صاحبة السمو…”
ركعت إحدى الخادمات أمامي. كانت تلك الخادمة قد عُينت في جناحي من قبل سيرتين و اعتنت بي منذ ذلك الحين.
سمعت أنها عملت طويلًا في قصر سيرتين. لذلك ظنوا أن ولاءها عالٍ، فكان من المناسب إبقاؤها قريبة.
تلك كانت طريقة سيرتين في الثقة.
“ارتدي الحذاء، قدماكِ تأذّتا كثيرًا.”
لم أكن أعلم حتى أنني ركضت حافية. الحديقة، رغم أنها يتم الإعتناء بها، لا تخلو من الحجارة الصغيرة والأغصان. كانت قدماي ملوّثتين ببقع العشب والدم. لم أشعر بأي من ذلك الألم.
كانت يد الخادمة التي تمسح قدمي بمنديل ترتجف أيضًا. لم أستطع التنفس. حدقت في المشهد بشرود.
“سيعود حيًا. أليس كذلك؟ لقد تم إرساله عدة مرات، و في كل مرة كان يعود، أليس كذلك؟”
“يا صاحبة السمو…”
انفجرت دموع الخادمة التي كانت تحبسها.
“إنه سيرتين. لقد وعدني. قال إنه سيعود بالتأكيد، قال إنه سيعود إليّ، لقد وعدني. إنه أقوى من أي أحد…”
“يا صاحبة السمو…!”
اسودّت الرؤية أمام عيني. لم أعد أستطيع التنفس حقًا. عالم بلا سيرتين، لم أتخيله ولو للحظة واحدة.
كان هو عالمي.
*****
انتشر خبر سقوط إيفلين كالنار في الهشيم في العاصمة الإمبراطورية.
وقفت فيرونيكا و إليزابيث حارستين أمام قصر ولية العهد.
أُغلِق الباب بأختام إيفلين و ولي العهد وحتى ختم الإمبراطور، بأمر من الأميرة إليزابيث.
وقف فرسان سيرتين الذين تركهم لحماية قصر ولية العهد أمام الباب.
لم يمرّ يومٌ كامل منذ انتشار الخبر المؤلم، لكنه انتشر في العاصمة بأسرها.
كما يقال، “الكلمة الطائرة تقطع ألف ليّ”، لم يكن هناك من لا يعرف بموت سيرتين.
القلق و التوتر خيّما على العاصمة.
ولم يُعلن الحداد رسميًا لعدم صدور بيان من القصر، لكن صوت البكاء كان ليتجاوز جدران القصر.
وكان هناك من تحرك بسرعة أكبر من الجميع.
وقف سبيلمان و رجاله أمام قصر ولية العهد في مواجهة مع الفرسان.
“هل يعقل أن لا أحد يعلم أنني والد صاحبة السمو؟! هذا أمر لا يُصدق! هل تدركون أمام من أنتم تقفون الآن؟”
“لقد كانت هناك أوامر صريحة من سمو الأميرة إليزابيث بعدم السماح لأي أحد بالدخول.”
أطلق الدوق سبيلمان ضحكة ساخرة، وكان صدى ضحكته الحادة يتردد عند باب القصر.
“عادت تلك الثعلب العجوز لتجعل الأمور مرهقة. لو كانت تعرف الوقت المناسب للموت، لكان ذلك من الفضائل.”
صرّ الدوق سبيلمان على أسنانه. كان يظن أنه يزيح العقبات واحدة تلو الأخرى، لكن أمورًا غير متوقعة ما زالت تعترض طريقه.
كان يعتقد أن إليزابيث ستنقطع أنفاسها في يوريس. حتى أنه سمع مؤخرًا أنها كانت في حالة حرجة.
ومع ذلك، ها هي تعود حية، هكذا وببساطة.
“تلك اللعينة.”
ارتسمت على شفتي سبيلمان ابتسامة باردة. و الأسوأ من ذلك أن فيرونيكا كانت بالداخل أيضًا.
جميع من يحملون دم العائلة الإمبراطورية المباشر، و كل من يمكنهم التأثير على العرش، كانوا هناك بالداخل.
برد قلب سبيلمان فجأة.
“إذاً لا مفر. لكن بلّغوا سمو الأميرة هذا: هذا الباب سيفتح عاجلاً أم آجلاً!”
استدار الدوق سبيلمان ببرود.
وكانت إليزابيث، الواقفة عند النافذة، قد شاهدت كل ما جرى. تنهدت إليزابيث، وكان وجهها المجعد الممسوك بيدها يبدو غارقًا في الظلام.
“أنا واثقة أن سيرتين ما زال حيًا.”
رأت مؤخرًا حلمًا عن سيرتين، كان قبل انطلاقه بقليل.
كان يرتدي قميصًا مريحًا و بنطالًا، يبتسم باتجاه البحر.
سمعت صوت إيفلين، و سمعت ضحكات بريئة.
كانت إليزابيث على يقين من أن سيرتين سيعود سالمًا.
لم تذكر حلمها خشية أن تزعجهم بكلام لا طائل منه. ربما لم يعلم سيرتين، لكن إيفلين كانت تعرف بشأن أحلامها السابقة.
“هل أخطأ الحلم؟”
عَضّت إليزابيث شفتيها.
“أو ربما هذه إشارة اخرى… تدل على أن سيرتين… لا يزال حيًا.”
كان هذا التفسير أسهل للفهم.
فموت سيرتين مع ديميتور معًا يعني عدم وجود فرسان يوقفون مملكة بايرود بعد الآن.
“سموكِ، صاحبة السمو.”
نادتها جوليا بوجه شاحب.
التفتت إليها إليزابيث ونظرت إليها.
“صاحبة السمو قد أفاقت. و هي تطلب رؤيتكِ.”
“…هل أنتِ بخير؟”
ابتسمت جوليا ابتسامة باهتة، لكن وجهها كان لامرأة منهارة تمامًا.
كانت تلك الابتسامة تحمل ثقلًا لا يُحتمل.
فتحت جوليا فمها بصوت خافت
“سأحاول أن أكون كذلك. إن غبت، أو إن انهرتُ… فسيخسر أطفالي ولي أمرهم.”
كان شعورًا مفزعًا كأن ما بداخلها ينهار كله دفعة واحدة.
“منذ الفجر، بدأ أقاربي يطرقون باب بيت الدوق.
يتطوعون ليكونوا أوصياء على أطفالي الصغار.
يا لشفافيتهم المكشوفة!”
امتلأت عينا الأم التي لا تستطيع البكاء بدموع شفافة. من الواضح أنها لم تأكل شيئًا منذ وقت.
“عليكِ أن تعودي بسرعة أيضًا. كما قلتِ، الأطفال بحاجة إلى من يعتني بهم.”
“لا، جئتُ لأقابل سمو الأميرة وأناقش بعض الأمور.”
أومأت إليزابيث برأسها مع تنهيدة.
على الأقل، كان من حسن الحظ أن إيفلين استعادت وعيها.
تحركت إليزابيث و جوليا معًا. وكان الهدوء الثقيل يسود أرجاء القصر.
جلست إيفلين على الأريكة بدعم من الخادمة.
“…جدتي. لقد أتيتِ.”
“وماذا عساي أفعل في شيخوختي غير هذا؟
على الأقل عليّ أن أكون ذات نفع في مثل هذه الأوقات.”
ابتسمت إيفلين ابتسامة خفيفة لكلام إليزابيث المازح.
“…كأنه حلم. حلم… غير منطقي تمامًا….”
انحدرت دمعة من وجهها الشاحب النحيل.
“ما زلتُ عالقة في الجحيم.”
كانت إيفلين تعبث بملابسها المرتجفة بيديها، بدت قلقة ومضطربة.
جلست إليزابيث بجوارها وأمسكت بيدها بإحكام.
“إيفلين.”
نظرت إيفلين إلى عيني إليزابيث.
“لا تتسرعي في الحكم على شيء. ألم يقولوا إنهم لم يجدوا جثة بعد؟”
“لكن، جدتي…”
“لا تصدقي شيئًا. حتى ترَيْه بعينيكِ.”
“…هل تقولين إن سيرتين قد يكون حيًا؟”
“لا أستطيع الجزم بذلك أيضًا.”
مسحت إليزابيث دموع إيفلين.
“لكننا لم نعثر حتى على جثته. لا أريد أن نُسلب كل شيء من قبل أولئك الأوغاد.”
عضّت إيفلين شفتيها بقوة.
التعليقات لهذا الفصل "114"