“ما ذلك الشعور؟”
رمق سيرتين ديميتور بنظرة جانبية وهو يركب حصانه مقتربًا منه.
كان ديميتور ينظر إليه بتعبير غريب. بعد مغادرتهما للعاصمة الإمبراطورية، بدا و كأنهما استعادا هدوءهما و حرية الماضي.
“ألم تكن في طريق عودتك من لقاء ولية العهد؟”
عودة سيرتين حدثت قبيل انطلاق الحملة العسكرية مباشرة. وقد تم إخفاء الحقيقة كلها عن أولئك الذين أبدوا قلقهم بسبب غياب القائد.
حين قرر ديميتور المغادرة دون سيرتين، عاد الأخير فجأة، و هو يحمل على وجهه تعبيرًا مرتبكًا.
كان وجهه يبدو كوجه صبي في الثالثة عشرة يعاني من الحُبّ الأول و لا يعرف ما يفعل. لكن الآن، لم يعد لذلك التعبير أثر على وجهه الوسيم.
أما وجه ديميتور، الذي شهد ذلك بعينيه، فقد امتلأ بفرح طفولي.
“لم أرَك تغادر بهذه العجلة من قبل. ولم أرَك يومًا تتخلى عن الجيش، رغم عدد المرات التي خضنا فيها الحملات العسكرية. سواء أكانت من أجل سمو الأميرة أو جلالة الإمبراطورة…”
“يكفي.”
قال سيرتين بحزم، بينما ديميتور يبتسم ابتسامة دائرية. كما لو أن الريح الباردة التي عصفت بينهما طيلة تلك الفترة قد تلاشت.
أولئك الذين تبعوهما من الخلف اعتقدوا أن لديهما حديثًا جادًا حول الحرب. بسبب أصوات حوافر الخيول، لم يتمكنوا من سماع ما يقولانه بوضوح.
“كفى؟ حسنًا، قل لي ما ذلك الشعور.”
تنهد سيرتين و ألقى نظرة جانبية على ديميتور.
“أخيرًا، بدأت أراك كإنسان. لطالما اعتقدت أن الدم لا يجري في عروقك، بل الجليد.”
“……لا تتفوه بالحماقات.”
“حتى من أجل سمو ولية العهد، عليكَ أن تنهي كل شيء و تعود بسرعة. فشتاء ليكسيا قاسٍ جدًا لتتحمله وحدها في العاصمة.”
عضّ سيرتين على شفتيه.
كان الخريف قد نضج، و ها هو الشتاء يقترب.
حين عاد من يوريس، كان في مطلع الخريف. أما الآن، فقد كانت الأغصان العارية تتدلى فوق رؤوسهم.
“لنذهب لمشاهدة أوراق الخريف العام المقبل. هناك الكثير من الأماكن في ليكسيا التي لم أزرها بعد، سيرتين.”
“مهما كان الصيف حارًا، أعتقد أنني سأتحمله إن كنتُ معك. ما أقصده الآن هو أنني أريد رؤية البحر. هل تفهم ما أعنيه؟”
إيفلين كانت امرأة تذيب حتى أشعة الشمس الحارقة في الصيف.
كانت تهمس له بالكلام الجميل قائلة انها لا تريد أن تبتعد عنه حتى في أكثر الأيام حرارة، وتقترح عليه أن يذهبا لرؤية البحر سويًا.
نظر سيرتين إلى السماء من خلال الأغصان المتشابكة.
تلك اللحظات التي كانت تهمس فيها بدت وكأنها حدثت البارحة، لكن ها هو الشتاء على الأبواب.
ابتسم سيرتين بمرارة.
كان يشتاق لتلك العيون المستديرة الصافية باللون الأخضر الفاتح. اشتاق لنظرتها الجميلة التي تشبه براعم الربيع حين تتفتح.
لو كان عليه وصف ذلك الشعور، فسيقول
“أشتاق إليها.”
“ماذا……؟”
أغلق سيرتين شفتيه بإحكام. تبعه ديميتور بوجه مذهول.
بدا أن مسيرة الجيش هذه المرة أكثر كآبة و تواضعًا من لحظة انطلاقها.
*****
كان الفيكونت بنتلي، كما في السابق، ينتظرنا في بنك ريموند.
كان الجميع يعلم أن الفيكونت بنتلي، الذي يحتاج إلى المال، يكثر من التردد على البنوك، لذا لم يشك أحد في سلوكه.
قيل ان الفيكونت بنتلي قضى الأسبوع الماضي و هو يتردد على المزيد من البنوك لخداع سبيلمان.
“مرّ أسبوع منذ آخر لقاء، أيتها القمر الصغير. لتحلّ البركة على طريقك.”
“شكرًا لك. يبدو وجهك أفضل مما كان عليه في السابق.”
“لأنني لم أضطر لإرسال سيلا… تحسّنت صحة زوجتي قليلًا. وكل هذا بفضل سمو ولية العهد.”
“لكني لم أفعل شيئًا بعد.”
“أحيانًا، الأمل الصغير يمكن أن يكبر ليصبح رجاءً عظيمًا.”
حتى على وجه الفيكونت بنتلي الصارم، ظهرت ابتسامة خفيفة.
في الحقيقة، كان الفيكونت بنتلي لفترة طويلة من الزمن يزيل آثار أفعال دوق سبلمان. و خلال تلك الفترة، تورّط في الكثير من الأعمال غير القانونية.
بالنسبة للبعض، كان الفيكونت بنتلي هو الشرير.
“ولا تنسَ ما وعدت به سابقًا.”
أطبق الفيكونت بنتلي شفتيه و أومأ برأسه.
“بعد أن تنتهي كل هذه الأمور، قلت إنك ستتنازل عن ممتلكاتك و لقبك و تعود إلى مسقط رأسك، أليس كذلك؟”
“أتذكّر ذلك، سمو ولية العهد. وأنا أنوي الوفاء بذلك الوعد. لقد أدركت الكثير من الأمور من خلال هذه التجربة. من يؤذي الآخرين، لا بد أن يلقى الجزاء. سأتحمل كل الذنوب وأرحل.”
“…من الجيد أن نيتك لم تتغير.”
هذا كان مضمون الاتفاق الذي تم التوصل إليه الأسبوع الماضي. أما اليوم، فقد رافقتهم جوليا عن قصد.
لإخفاء الأمر عن دوق سبيلمان، تقرر استخدام اسم دوقية روجر من خلال إعداد وثائق مزدوجة.
سيلا ستُسجَّل مؤقتًا كابنة بالتبني لدوق روجر.
“أنا من أعدّ الوثائق بنفسي.
“شكرًا لكِ، سيدتي الدوقة.”
بالنسبة لجوليا، لم يكن إعداد مثل هذه الوثائق بالأمر الصعب.
تولت عائلتها أيضًا تقديم الوثائق والتعامل معها بسرّية تامة. و لحسن الحظ، كان هناك أشخاص بجانبي يمكن الاعتماد عليهم عند الحاجة.
كل ما كنت أتمناه، أن يكون هناك أيضًا مثل هؤلاء الأشخاص إلى جانب سيرتين.
حتى لو كانت الأقدار قاسية عليه، آمل أن يكون هناك من يقوده إلى الطريق الصحيح. حتى يتمكن سيرتين من العودة إليّ.
رغم أنني رأيته فجر اليوم، اشتقت إليه مرة أخرى.
بدرجة مزعجة.
انتظرت بصمت حتى انتهت جميع المعاملات الورقية. ترى، إلى أين وصل سيرتين الآن؟ كم تبقّى له؟ بماذا يفكر؟ هل يشعر بالخوف؟
في الحقيقة، في القصة الأصلية كان يُصوَّر كأنه مختل نفسي تقريبًا. أشبه بقاتل بلا إحساس يقتل الناس بلا رحمة.
و ربما هذا كان أفضل الآن. ليت الأمر لم يكن مخيفًا أو محزنًا على الإطلاق.
لكن بالطبع، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك.
تنهدت تنهيدة طويلة، فهزّت جوليا ذراعي بحذر.
“آه.”
“بماذا كنتِ تفكرين؟”
“لا شيء، جوليا. هل تمّ كل شيء بنجاح؟”
“نعم.”
أومأت جوليا برأسها.
سعلت قليلًا وعدّلت جلستي. حين أبدأ بالتفكير في أمور أخرى، لا يكون لها نهاية. ثم قلت للفيكونت بنتلي بابتسامة متكلّفة
“أود استلام الوثائق التي وعدتني بها.”
“نعم، يا صاحبة السمو. لقد كان لي صلة بلوكاس منذ طفولته. و السبب الوحيد الذي يجعله مخلصًا لدوق سبيلمان الحالي هو الدين. إنه مدين لدوق سبيلمان.”
“دين؟”
أملت رأسي بتساؤل و أنا أراجع الوثائق. وكلما قلبت الصفحات، كانت الديون تتزايد.
“هناك من يمارسون الفوائد. والإمبراطورية لا تفرض عليهم أي قيود. حتى و إن سدّدت ديونك، فإنها تستمر في التزايد، ويبدو أن دوق سبيلمان كان يمنع ذلك عنه. ويقال إنه سدد جزءًا من الدين عنه أيضًا. ولكن من وجهة نظري…”
“كل هذا مجرد حيلة من دوق سبيلمان؟”
أومأ الفيكونت بنتلي بحذر. من المؤكد أن هؤلاء قد بالغوا.
فائدة بنسبة ٤٩٪؟ هل جنّوا؟ لماذا لا تتخذ الإمبراطورية إجراءات ضدهم؟ هل وزارة الاقتصاد نائمة؟
شعرت و كأنني تلقيت ضربة قوية على رأسي.
“الآن، باستثناء الماركيز ريموند، فإن جميع البنوك القوية بما يكفي لتعمل باستقلالية قد وقعت تحت سيطرة سبيلمان. وزارة الاقتصاد أصبحت عمليًا في قبضة دوق سبيلمان.”
“هاه.”
ضحكت بسخرية.
لقد استُخدم سيرتين في الحروب مرارًا وتكرارًا، والإمبراطور ترك الأمر على هذه الحال، بينما كان دوق سبيلمان يبتلع الساحة السياسية تدريجيًا.
“يا إلهي.”
تنهدت جوليا كذلك.
“المشكلة تكمن في الوثائق التي وقّع عليها لوكاس مع أولئك الأوغاد، يبدو أنه قدّم حياة شقيقته كضمان. إذا لم يُسدَّد الدين في موعده…”
” فسيتم أخذ شقيقته؟”
لم يكن من الصعب تخمين ذلك.
التعليقات لهذا الفصل "111"