استدرت مباشرة و احتضنت سيرتين. سأجن حقاً. إنه رجل يجعل الناس يفقدون عقولهم حقاً.
“ظننت أنكَ ستذهب دون أن أراك. ظننت أنكَ سترحل ببساطة. ظننتُ أن ذلك اليوم كان الأخير.”
لم تستطع السيطرة على دموعها. كانت تفهم تماماً كل ما يحدث، و تفهم ما يجب عليه فعله في المستقبل.
و مع ذلك، كان قلبها ينهار. في الليالي التي لم يكن فيها قادراً على العودة، كانت تتجول بلا هدف في الغرفة قبل أن تغفو في وقت متأخر.
“ظننتكَ …..ستذهب دون حتى أن أقول لكَ وداعاً.”
مع أنها كانت تعلم أن سيرتين ليس مخطئاً، خرج بكاؤها ممزوجاً ببعض الإستياء.
ما هذا، إيفلين؟
هل أصبحتِ طفلة حقاً؟
ما هذا التصرف أمام شخص سيرحل؟ إنه سيرتين من سيذهب إلى ساحة المعركة. لا بد أنه أكثر من يشعر بالخوف.
“ألا يمكنكَ ألا تذهب؟ ألا يمكنكَ فقط البقاء بجانبي؟ لا تحتاج لأن تكون وليًا العهد. فقط، فقط كن زوجي، أليس هذا كافياً؟”
العقل و المشاعر لم يكونا في انسجام. لم يعد فمها تحت السيطرة.
انفجرت المشاعر كالسد المنهار، تطايرت في كل اتجاه. احتضنت سيرتين بشدة، و دفنت وجهها في عنقه و صدره و كتفيه. شعرت بدموعها تبلل ثيابه.
احتضنها سيرتين بصمت. درجة حرارته ، التي كانت تشعر بها دوماً كحرارة مشتعلة، بدت الآن باردة.
“فقط… فقط… ابقَ بجانبي…”
في أسوأ لحظاتها، تخيلت أسوأ السيناريوهات. ماذا لو لم يعد سيرتين حياً هذه المرة؟
الأحداث انحرفت كثيراً عن القصة الأصلية. فقد سيرتين العديد من صفاته التي كانت محددة له.
لن يعادي الدوق روجر بعد الآن، و لن يذهب إلى موتٍ عبثي. لن يكون على رودريك و سيلا و بقيـة الأبطال الانتقام منه.
لم يعد سيرتين شخصية مظلمة، بل أصبح إنساناً عادياً. لا، بالنسبة لها، أصبح البطل الأكثر تميزاً.
لكن بالمقابل، فقدت القصة الأصلية حتى فرصة أن تبدأ.
ماذا لو أن القدر لم يعد بحاجة إلى سيرتين؟ ماذا لو كان يخطط لقتله؟ وصلت بها الأفكار إلى هذا الحد.
أنفاسها و دموعهـا التي كانت تخرج بدفء مؤلم.
“ألا يمكنكَ البقاء بجانبي؟”
كلماتها، المشوهة بالدموع، لم تكن واضحة. صدى أنفاس سيرتين تردد في أذنيها.
رغم قربه منها، رغم تمسكها به بهذه القوة، بدا وكأنه شخص بعيد جداً.
“ألا يمكنكَ البقاء؟”
“…إيفلين.”
رفعها سيرتين فجأة بين ذراعيه.
تمسكت به بشدة، غير راغبة في الانفصال عنه، كما لو كانت نبتة متسلقة. استمرت دموعها في الانهمار.
“أشعر بالضيق. أنا غاضبة جداً. لماذا أنا فقط… فقط أنا من أشعر بهذا الحزن… و أنتَ لا تشعر بشيء… فقط أنا التي أعاني…”
“لا بأس.”
همس سيرتين بصوت منخفض، ثم جلس على الأريكة و هي لا تزال في حضنه، و أمسك بخديها.
رأت وجهه من خلال رؤيتها الضبابية.
عيناه الياقوتيتان، التي لا يكف الناس في الإمبراطورية عن الإشادة بها، بدأت تتضح تدريجياً. مسح دموعها بإبهامه.
ثم، تنهد و قبّلها.
اندفعت مشاعرها الساخنة، المتأججة أصلاً، أكثر فأكثر. طعم الدموع كان واضحاً.
تمسكت به بشدة، غير راغبة في الانفصال عنه، وهو لم يمنعها.
“لا تبكي، أرجوكِ.”
كان صوته مفعماً بالحنان و الارتجاف.
“عندما تبكين، أرغب في البكاء معكِ.”
كان صوته يبتلع الكثير من المشاعر أيضاً. غيّر اتجاهه، و قبّل خدها. شعرت بأنفاسه تلامسها .
تمسكت بيده الكبيرة وفتحت عينيها على وسعهما لتمنع نفسها من البكاء.
عندها، قبّل سيرتين طرف عينيها.
“…عد بسرعة.”
قبّل سيرتين أنفها.
“عد أسرع مما ذهبت.”
قبّل طرف عينيها مجدداً. و سقطت دموعها المخزنة.
قبّلها مرة أخرى بلطف.
آه، سأجن حقاً.
هذا الرجل يحولني إلى طفلة. جعلني شخصاً لا يستطيع فعل أي شيء بدونه.
“لابد أن أعود.”
شبك أصابعه مع أصابعها. و ألبسها خاتماً دائرياً.
كان خاتماً لم تره من قبل. خاتم ماسي يشع بضوء شفاف، مرصع بأحجار وردية صغيرة.
امتلأ إصبعها الرابع، الذي كان دائماً خاليًا حتى بعد الزواج، حتى فاض. قبّل سيرتين أطراف أصابعها وهمس:
“سأعود. إلى جانبكِ.”
وعلى إصبعه الرابع كان خاتم بسيط الشكل، مرصع بحجر وردي صغير مثل خاتمها.
تساقطت دموعها مجدداً. الخاتم الذي بدا وكأن قلبها بداخله، كان يلمع. و كأنه يشهد على الوعود التي تبادلوها.
وهكذا، رحل سيرتين عن جانبها. وترك لها حباً وذكريات لا تُنسى.
****
“…هل أنتِ بخير؟”
ناولَت هايزل ملعقة الشاي المبردة. حتى هنا، حين تتورم العينان يضعون الملعقة لتبريدها، تمامًا كما نفعل نحن.
شعرت بقليل من الإحراج وأنا أضعها على عينيّ كلتيهما.
على عكسي، كانت جوليا بوجهٍ هادئ تمامًا.
“……تورمت عيناي لأني أكلت طعامًا مالحًا ليلة البارحة ثم نمت. ليس بسبب البكاء.”
“سمعت أن سمو ولي العهد، الذي كان قد غادر في مهمة قبل الاستعداد للانطلاق، قد عاد قبل لحظات من الرحيل. لكن سموكِ لم تذرفي دمعة واحدة.”
قالت جوليا بنبرة بريئة.
أنزلت ملعقة الشاي و حدّقت بجوليا بعينين متورمتين. ابتسمت جوليا برقة وهي تنظر إليّ.
ثم وضعت منشفة ملفوفة على الثلج البارد على عينيّ و قالت:
“سيعود سالمًا. كما كان دائمًا. حتى في اللحظات التي خلت أنه لن يعود فيها، كان يعود دائمًا. ديميتور، و سمو ولي العهد كذلك.”
واسَتني جوليا بصوتها الهادئ.
“سيعود حتمًا هذه المرة أيضًا.”
“هل أنتِ بخير، جوليا؟”
“……لا يهم كم تكررت الأمور، لا يمكن التبلد تجاهها. في البداية بكيت كثيرًا. كنت أتساءل لماذا تزوجت إن كانت الأمور ستكون هكذا. ديميتور أصبح بطل الإمبراطورية، و الناس يمدحونه، لكن ذلك لم يسعدني أبدًا. شعرت أنني أفقد زوجي.”
ابتسمت جوليا ابتسامة صغيرة. رغم أنني لم أراها بوضوح، كنت أعلم أنها تحمل تعبيرًا مرًّا.
“كلما ازدادت شهرة زوجي، شعرت بالحزن أكثر. أصبح الوقت الذي أقضيه وحدي أطول. ساحة المعركة كانت بعيدة عني جدًا، و ظهر لديّ أطفال يجب أن أحميهم.”
“……كيف تمكنتِ من تجاوز ذلك؟”
“لم أتجاوزه بعد، سمو الأميرة.”
سرّحت جوليا شعري بلطف. شعرت بلمستها بكل وضوح.
“أنا فقط أتحمل الأمر بالقوة.”
عضضت على شفتيّ.
“ومع الوقت، تصبحين ماهرة في التظاهر بأنكِ بخير.”
هل سأصبح مثلها؟ إلى متى ستتكرر هذه الحروب؟ لا أعتقد أنني أستطيع الاستمرار هكذا.
“اليوم، توقفي عن البكاء و ركّزي على إزالة الانتفاخ.”
غيّرت جوليا الأجواء.
“لا يمكنكِ الذهاب لمقابلة اللورد بنتلي بهذه العيون.”
ضغطت المنديل بقوة أكبر على عينيّ.
من المدهش حقًا. رغم اندلاع الحرب، و رغم أن الشخص الذي يجب أن يكون بجانبي قد رحل، فإن الحياة اليومية لا تزال مستمرة. لم يكن اليوم يوم انطلاق سيرتين فقط.
بل كان أيضًا يوم انطلاقي أنا. و كان الفيكونت بنتلي بداية تلك البداية.
التعليقات لهذا الفصل "110"