لقد انتهت المحادثة مع الفيكونت بنتلي بشكل جيد. ولحسن الحظ، قبل الفيكونت بنتلي اقتراحي دون تردد في نفس اللحظة.
“من المؤكد أن دوق سبيلمان لن يبقى ساكناً. حتى لو قلت إنني سأقبل عرض صاحبة السمو، فسيقوم بشد حبل عنقي!”
“لم أقل لكَ أن ترفض عرض دوق سبيلمان.”
“…ماذا؟”
“افعل ما تشاء. فقط سلمني ابنتك.”
“صاحبة السمو!”
“أليس الأمر بسيطًا فقط عن طريق كتابة الأوراق بنسختين؟ انقل سجل الآنسة سيلا إلى مكان آخر أولاً. و بعد ذلك، حتى لو قبلتَ عرض دوق سبيلمان، ستكون تلك الوثائق مجرد أوراق مزيفة، أليس كذلك؟”
“…أه، هكذا؟”
“و تأكد من أن تأخذ المال من دوق سبيلمان أيضًا. اعتبره مكافأة تقاعد عن المعاناة السابقة التي عشتها بسببه. إذا وافقت ، فاتصل بي مجددًا بعد أن تكون جاهزًا. وأعتقد أننا يمكن أن نلتقي في هذا المكان مرة أخرى بعد ذلك.”
“ش، شكراً جزيلاً، صاحبة السمو!”
بهذا حصلت على الفيكونت بنتلي. وقد حصلت أيضًا على أكثر مما توقعت.
بما أن الفيكونت بنتلي خدم طويلاً كأداة في يد سبيلمان، فقد عرف الكثير من الأسرار التي يجهلها الآخرون.
“…سأفعل اي شيء أستطيع فعله. إذا كنتِ بحاجة إلى شيء…”
“أحتاج إلى قوة تزعزع اعمال سبيلمان الحربية. ولأجل ذلك أحتاج إلى الوكيل القانوني لوكاس.”
“تقصدين… لوكاس؟ أعتقد أنني أستطيع مقابلته، صاحبة السمو! أنا من جلب لوكاس إلى عائلة الدوق!”
اتفقنا أنا و الفيكونت بنتلي أن نلتقي في هذا المكان مجددًا بعد أسبوع بالضبط.
مع استعادة ذكريات ما حدث اليوم، شعرت بتحسن كبير.
كانت الشوارع كما كانت سابقًا. الناس تجمهروا أمام القصر وهم يحملون لافتات، والمنشورات الدعائية للحرب تتناثر على الأرض مثل أوراق الخريف.
رأيت أشخاصًا أغلقوا محالهم وخرجوا إلى الشوارع يتجولون بوجوه يعلوها القلق.
كانت نفس المشاهد الكئيبة كما من قبل، لكن مشاعري كانت مختلفة. شعرت و كأن هناك ضوء شمس يخترق هذا الكآبة.
“يا إلهي، صاحبة السمو! إنها تمطر، أليس كذلك؟”
كما قالت هايزل، كانت أمطار خفيفة تتساقط بهدوء.
فتحت النافذة و مددت يدي. تساقطت قطرات المطر الباردة على راحة يدي.
من المؤكد أن سيرتين يرى هذا المطر أيضًا في هذه اللحظة. اشتقت إليه. رغم أنه بقربي، كان دائمًا يشعرني و كـأنه بعيد.
ظننت أنني أمسكته بيدي بالكامل، لكنه، كالمطر الخفيف، يتسرب و يهرب.
في تلك الظهيرة، علمت الخبر عبر جوليا.
أن سيرتين سيغادر العاصمة بعد أسبوع.
****
أسبوع.
مر الوقت بسرعة بالنسبة لسيرتين. كان سيرتين يلتقي بالنبلاء والفرسان ويشجعهم، وقدم مكافآت مالية من القصر لأولئك الذين استجابوا للتجنيد المفاجئ.
زود الفرسان بأسلحة جديدة من إنتاج أعمال سبيلمان الحربية، وعلى الرغم من قصر الوقت، كان عليه أن يشرف أيضًا على تدريبهم.
لم يكن يكفيه حتى جسد واحد.
اختار مورتيغا أن يبقى في القصر بدلاً من مرافقة سيرتين. لقد كانت اختياره الشخصي.
و كان يتولى نقل كل المهام التي كان سيرتين يباشرها سابقًا إلى إيفلين.
“الآن بعد أن فكرت في الأمر.”
لقد مر أسبوع كامل منذ رأى ذلك الوجه الذي يشبه حصى بيضاء صغيرة.
ومضى نفس القدر من الوقت منذ أن رأى تلك الابتسامة المتلألئة تحت الشمس.
ضغط سيرتين على عينيه المثقلتين. الشعور بالحنين كان أثقل من الإرهاق الذي ينهكه.
“…كم من الوقت بقي حتى موعد الانطلاق؟”
انحنى تشيستر برأسه. كان الشخص الذي تولى خدمة سيرتين بدلاً من مورتيغا.
و كان جيمس يقف بجانبه. جيمس و مرتزقته تم التعاقد معهم أيضًا من قِبل سيرتين للانضمام إلى الجيش.
كان من المقرر أن يعمل جيمس في الخفاء داخل ساحة المعركة.
“…بقي حوالي ثلاث ساعات.”
رغب سيرتين أن يكون انطلاقه بصمت.
عندما أُعلن عن خروج سيرتين و ديميتور إلى ساحة القتال، امتلأت الشوارع بالناس الذين هتفوا وذرفوا الدموع. لقد كانوا رمزًا للنصر الموعود.
لم يكن سيرتين يرغب في أن يتجمع الناس بلا داع.
الحرب ليست شيئًا يستحق الهتاف.
الحرب، هي أشبه بقصر من الرمل يُبنى فوق دماء من نزفها أحدهم.
“أحضر لي ديميتور للحظة.”
“نعم، سموك.”
غادر تشيستر وبقي جيمس في مكانه.
“جيمس، خذ رجالك الآن و تحركوا أولًا. يجب أن تسبقوا الجيش، و تراقبوا الأوضاع و تنقلوها لي. كما يجب أن تميزوا بين الأمراء الذين سيقدمون لنا العون و الذين لن يفعلوا. هل تستطيع؟”
انحنى جيمس برأسه وعلى وجهه ملامح الذهول.
عندما قرر أن يتعاون مع سيرتين، لم يكن يتخيل أبدًا أنه سيُكلف بأمر بهذه الخطورة. التوتر كان يعصر معدته.
“أخطر ما في الحرب هو الانقسام الداخلي. أن تتلقى طعنة في الظهر ممن تثق بهم. حياة جيشنا قد تعتمد على حكمك.”
أغلق جيمس عينيه بشدة. شعر و كأن الأرض اختفت من تحت قدميه ثم عادت.
‘هكذا أكفّر عن خطاياي.’
كلمات سيرتين لم تكن سؤالاً. بل كانت ضغطًا بضرورة الإنجاز. أجاب جيمس بوجه مملوء بالتوتر.
“سأنجزه حتماً. سأكون عيناً نافعة للحلفاء! لمجد ليكسيا ، ولأجل مستقبل الشمس الصغيرة، المجد فقط!”
أجاب جيمس بجمود ثم خرج من الخيمة.
أطلق سيرتين الذي بقي وحيداً تنهيدة خفيفة. لم يكن لديه وقت. الوقت الذي يمر بسرعة كان يجعله يشعر بالقلق.
وبينما لم يستطع سيرتين التحمل أكثر ونهض من مكانه، دخل ديميتور إلى الداخل.
“السير تشيستر. إن اقترب أحد في حدود عشرة أمتار ، فلك أن تقطع رأسه. احرس الخارج.”
“نعم، سموك!”
تلاقى نظر ديميتور و سيرتين. لوهلة، كانا يتبادلان نظرات باردة، ثم سرعان ما خفّت تعابير وجهيهما.
كانا يتواصلان عبر وسيط طوال الفترة الماضية، و هذه كانت المرة الأولى منذ زمن التي يتواجهان فيها مباشرة.
“يبدو أنكَ تبدو بحالة جيدة. سمعتُ شائعات كثيرة، يقولون انكَ تعيش حياة زوجية سعيدة.”
“وأنتَ أيضاً… سمعت أنكَ مررت بالكثير. كيف كان الأمر بجانب دوق سبيلمان؟”
“كانت رائحة الدم منتشرة بكثافة. و ما زلت واقفاً وسطها حتى الآن.”
هز ديميتور كتفيه.
“…هل كتبتَ وصيتك؟”
أخفض سيرتين صوته.
قبل الذهاب إلى المعركة، يكتب القادة وصاياهم و يسلمونها للقيادة العسكرية. لم يكن سيرتين و لا ديميتور استثناءً من هذه القاعدة.
إذا قُتلوا، يتم إيصال وصاياهم إلى ذويهم.
“و أنتَ؟”
“لقد كتبتها بالفعل. في الواقع، دعوتكَ لأن لدي طلباً.”
همس سيرتين في أذن ديميتور. ومع تراجع أصواتهم حتى لا يسمعهم أحد، امتدت ظلالهم أكثر فأكثر.
“…هل يمكنكَ فعل ذلك؟”
أومأ ديميتور برأسه. ثم سأل بصوت ممزوجٍ بتنهيدة:
“ألن تندم؟”
ابتسم سيرتين ابتسامة حزينة. ثم نظر إلى الوقت مرة أخرى.
“…تبدو متوتراً.”
“لدي مكان يجب أن أذهب إليه. ديميتور، سأعود قبل الانطلاق. لذا…”
“عد بسرعة.”
لم يسأله ديميتور شيئاً أكثر من ذلك. فقط ربت على كتف سيرتين، الذي كان يبدو أوسع من أي وقت مضى.
استدار سيرتين و غادر الخيمة أولاً، و كان ظهره يبتعد شيئاً فشيئاً.
أطلق ديميتور تنهيدة منخفضة. عيناه المرتجفتان كانت تلمعان بينما كانت يداه تمسكان وصية لا تزال فارغة.
كان سيرتين مستعداً للموت.
****
تسللت برودة الليل.
بقي لسيرتين ساعتان فقط قبل أن يرحل.
كنت أحدق إلى الخارج طوال الليل، لم أغمض عيني لحظة. كنت أعتقد أنني إن فعلت ذلك، فسيعود إليّ.
كنت أظن أنه سيفتح الباب فجأة، ويناديني باسمي.
و سيأتي بلطف.
وسيعانقني…
“أرجوك، سيرتين.”
أمسكت الستارة البريئة بقوة. كان قلبي ينبض بعنف من القلق. و لكي لا تنهمر دموعي، عضضت شفتي بقوة.
كان الفجر القاسي يقترب.
“آه…”
في النهاية، هذا هو. سيرحل هكذا، دون أن أراه مرة واحدة.
وفي اللحظة التي أغلقت فيها عيني بشدة و انهمرت دموعي، انجذبتُ إلى أحضان شخص ما.
“إيفلين.”
استنشقت رائحة الفجر.
لقد كان هو ، كان سيرتين.
التعليقات لهذا الفصل "109"