بعد أسبوع، بدأ نظام الطوارئ الحربي بشكل جدي.
أعلنت بايرود الحرب على ليكسيا، وسرعان ما وصلت الأنباء بأن الجيش بدأ بالفعل بالتقدم نحو الجنوب.
دوق سبيلمان، الذي بدا و كأنه تراجع للحظة، اندفع الآن بلا هوادة وكأن ما حصل لم يكن سوى خداع.
عاد بوجهه المتغطرس إلى العاصمة الإمبراطورية، وبدأ بالتدخل في الحرب، محرضًا النبلاء التابعين له.
أدى خبر الحرب الذي هز العاصمة إلى اشتعال الحماسة في المجتمع الراقي بدلاً من الخوف.
فهم كانوا بعيدين عن ساحة المعركة، و كانوا يعتقدون أن ليكسيا لن تخسر الحرب و لن يصل العدو إلى العاصمة.
وفقًا لما نقلته جوليا، فإنهم تبلدوا بسبب السلام حتى تصلبت أذهانهم.
كان من الطبيعي تمامًا بالنسبة لشعب ليكسيا أن يتحدثوا كما لو أن سيرتين و ديميتور سيشاركان في الحرب.
ومع انضمام وسائل الإعلام إلى هذا التيار، احتشدت جماعات السلام أمام القصر الإمبراطوري.
مررنا بجوارهم على متن العربة.
[صاحب السمو ولي العهد سيرتين ، بطل الإمبراطورية! أجب نداء شعبك!]
[أعِد الأمل مرة أخرى إلى ليكسيا!]
[النصر!]
كانت أغلب اللافتات تحمل شعارات مماثلة.
رغم عدم صدور إعلان رسمي بعد، فقد تقرر في اجتماع النبلاء الطارئ الذي عقد البارحة بشكل عاجل، مشاركة سيرتين و ديميتور في الحرب.
“حتى والدي قال انه لا مفر من ذلك. لا يمكن مخالفة مشاعر الشعب.”
قالت هايزل وهي تسحب ستارة العربة بعناية كما لو أنها لاحظت أنني أراقب ما يجري.
هذا يعني أن الماركيز رايموند وافق أيضًا على هذه الحرب.
وبما أن الرئيس المؤقت للاجتماع كان الكونت تشينشيس، قام بالموافقة القرار، فلا بد أن سيرتين وافق أيضًا.
“لا تزعجي نفسكِ بمشاهدة تلك الأشياء المحزنة.”
قالت هايزل وهي تعبس. هايزل كانت أصغر من جوليا، وربما لهذا السبب كانت أكثر تعبيرًا عن مشاعرها.
“لست حزينة أبدًا، هايزل.”
بقيت جوليا في العاصمة الإمبراطورية استعدادًا لأي طارئ.
من بين الفرائس التي كنت أستهدفها، كان أول من استجاب الطُعم هو الفيكونت بنتلي.
نحن الآن في طريقنا إلى بنك ريموند.
“… صاحبة السمو تبدين قوية حقًا. سمعت أن زوج أختي سيشارك أيضًا في هذه الحرب. أختي تأتي كل يوم إلى والدي و هي غارقة في البكاء.”
“الدموع لا تستطيع حماية سيرتين.”
“يا إلهي.”
تمتمت هايزل بتأثر وظهرت ابتسامة سعيدة على وجهها.
كانت نظراتها نحوي مليئة بالود.
وبينما كنا نتحدث على مهل، توقفت العربة في زقاق على مسافة قريبة من بنك ريموند.
رتبت القبعة التي اختارتها لي جوليا و نزلت من العربة. كان شعري الوردي لافتًا للنظر.
دخلنا من الباب الخلفي للبنك كما أرشدتني هايزل. تمكنا من الدخول إلى مكتب فارغ دون أن نلفت أنظار الآخرين.
قيل إن هذا المكتب يستخدمه الماركيز ريموند عادة.
استجمعت تركيزي و نظمت في ذهني الحوار الذي سأجريه اليوم.
*****
في تلك اللحظة.
كان اجتماع النبلاء، الذي كان يُعقد مرة كل شهرين، يُعقد الآن بشكل شبه يومي.
من يدفع، ومن يتحمل المسؤولية، ومن سيخرج إلى الحرب — كانت هذه المواضيع تتكرر يوميًا.
كان هناك من يثرثرون عن المكافآت التي يمكن الحصول عليها من دولة العدو في حال تحقيق النصر في هذه الحرب.
لكن لم يكن من بينهم من يتحدث عن الهزيمة أو عن الموت.
تفحّصهم سيرتين بنظرة باردة.
بالطبع، كان هناك من يملكون عقولًا واعية.
أولئك الذين خاضوا الحرب بأنفسهم.
رفاقه الذين حملوا السلاح وجالوا ساحة المعركة رغم أنهم نبلاء.
كان ديميتور أحدهم.
تلاقت عيونه بعيني سيرتين لبرهة.
كان يحدق به بعينين غارقتين في الظلام.
كانت إيفلين تهمس دائمًا بأنها تؤمن بديميتور حتى النهاية.
لشدة ما كانت مخلصة لفكرتها هذه، شعر سيرتين أحيانًا بغيرة غير مبررة.
ابتسم سيرتين بخفة.
ومع ذلك، كان يفهم ما تريد إيفلين قوله.
على الأقل، عليه أن يثق في الأوقات التي واجها فيها الموت جنبًا إلى جنب.
إيفلين أيقظت مشاعر كان على وشك نسيانها.
أدار سيرتين نظره بهدوء.
كان الكونت كارما يجلس في ركن من القاعة بوجه أسود شاحب.
روزالينا غادرت بالأمس.
قيل إنها تلقت تدريبًا مكثفًا في الأيام الماضية.
ربما ستعيش بسلام هناك إن خففت من حدتها قليلًا.
“صاحب السمو ولي العهد.”
فتح دوق سبيلمان فمه بوجهه المصقول. كان يتحدث بثقة كأنه يسيطر على كل شيء.
من دون أن يعرف ما الذي يحدث من خلفه.
كانت زوجته أذكى مما توقع. وكان هذا الاجتماع اليوم أيضًا وسيلة لصرف انتباه دوق سبيلمان و أتباعه.
“إن ما يحدث مؤلم جدًا. وإذا غادر صاحب السمو منصبك، فلا بد من شخص يقود شؤون الإمبراطورية. بما أن الدوق روجر سيغادر أيضًا، فربما يمكن أن…”
“زوجتي هي من ستتولى إدارة الإمبراطورية. بعد رحيلي، ستكون إيفلين من تجلس على هذا المقعد.”
تصلب وجه الدوق سبيلمان قليلًا. هل لم يخطر بباله هذا الاحتمال؟
لقد كان تصريحي واضح الهدف منذ البداية. لا بد أنه ظن أن لا أحد غيره يمكن أن يملأ هذا المنصب.
خاصة بعد ذهاب الدوق روجر حتى إلى الحرب، فكان دوق سبيلمان يعتقد أنه المرشح الطبيعي للمنصب.
لكن الوضع الحالي لم يكن كالوضع العادي الذي يمكن أن يحل فيه مورتيغا محله.
“صاحبة السمو لا تعرف شيئًا عن الحرب. قد تفتقر إلى الحكم السليم حول الأولويات، وما هو مهم حقًا.”
“سيساعدها مستشاري. وأنتَ أيضًا ستساعدها، أليس من الطبيعي أن تقوم بذلك بصفتك من عائلة إيفلين؟”
انفجر دوق سبيلمان ضاحكًا.
“هذا صحيح أيضًا. سأخدمها… بإخلاص كامل.”
كان هناك الكثير من الأمور الأخرى التي ينبغي مناقشتها. أغلب من حضروا هنا لم يعرفوا سوى الجدل النظري العقيم.
كان عليهم أن يدركوا أن الحرب لا تُخاض بالأقلام.
و في ذلك الاجتماع، تقرر تاريخ الانطلاق إلى ساحة المعركة.
*****
كان الفيكونت بنتلي ذا جسد نحيف ووجه شاحب. رغم طوله، كان انطباعه العام كئيبًا.
“… لقد أتيت اليوم من أجل صفقة مع بنك ريموند. لا أعلم من تكونين، سيدتي، ولماذا أنتِ هنا.”
تمتم الفيكونت بنتلي بصوت متشكك.
“اللعنة. مرة أخرى يستخدمونني للعب…”
“يعتمد الأمر على من يلعب بك، أليس كذلك؟”
نزعت قبعتي. فسقطت خصلات شعري المموج بشكل طبيعي.
تلاقى بصري ببصر الفيكونت بنتلي، وفتح فمه بدهشة.
كان من أتباع دوق سبيلمان. لا بد أنه زار القصر مرارًا، فلا يمكن أن لا يعرفني.
“صاحبة السمو! كيف لي… أن أتشرف برؤية القمر الصغير للإمبراطورية!”
“هل يجب أن أقول مضى وقت طويل؟ كيف كانت أحوالك مؤخرًا؟”
“… لا أفهم سبب دعوة سموكِ لي إلى هذا المكان. هل هو بأمر من والدكِ؟…”
“ظننت أن الجميع يعرف أن علاقتي بوالدي ليست جيدة.”
تنهد الفيكونت بنتلي.
“ما الذي تريدينه؟”
“ولاءك و قلبك، وأرغب في الفيكونتية أيضًا.”
اهتزت عينا الفيكونت بنتلي. بدت لمحة من الخوف في زوايا عينيه المتجعدتين.
لقد عاش طوال حياته تحت ظل دوق سبيلمان. وكان يعرف جيدًا أي نوع من الأشخاص هو. بل تولى تنظيف الكثير من فوضاه.
“لنعتبر أنني لم أسمع…”
“عليككَ أن تنقذ زوجتكَ، و تحمي ابنتك.”
تردد الفيكونت بنتلي وهو يحدق بي. رأيت التردد واضحًا في عينيه. لقد أصبتُ تمامًا ما كان يريده.
“سأمنحكَ المال. مبلغ يكفي لإنقاذ زوجتك. ألا يعني عدم تسجيل الآنسة سيلا لدى سبيلمان حتى الآن أنكَ كنتَ تريد حمايتها؟”
كان دوق سبيلمان يضعه في موقف يجبره على الاختيار بين زوجته وابنته.
“سأمنحكَ فرصة للاحتفاظ بكلتيهما.”
همست في أذن الفيكونت بنتلي.
“لذا، امنحني الفيكونتية.”
ابتسمت بأقصى درجات اللطف. وكأن الأمر لا يحمل أي خطر.
رغم أنني كنت أعلم أن هذا خطر أيضًا.
ربما كانت جدتي الكبرى محقة. ربما أنا أيضًا بدأت أشبه سيرتين.
وكان ذلك شيئًا مبهجًا حقًا.
التعليقات لهذا الفصل "108"