“ماذا تقصد؟”
دق.
نهض إينوك بحماس، فاهتزّت الطاولة قليلاً.
لكن الإمبراطور السابق وضع كأس الماء وواصل تناول الطعام بهدوء.
“قبل بضع سنوات، رأيتُ السجلّات التي تحدّثتَ عنها في غرفة الكاهن الأكبر.”
“لمَ يمتلكها الكاهن الأكبر…؟”
“ألم تعلم أنّه من رجال الدوق؟” “!” اتّسعت عينا إينوك، وغطّيتُ فمي بيدي. “مندهش؟ لا عجب، حتّى أنا عشتُ سنوات دون أن أعلم.”
“لكن، أبي، هل هذا ممكن؟ المعبد لا يتدخّل في السياسة…”
نظرتُ إلى إينوك بحذر، فلوى الإمبراطور السابق شفتيه.
“أليس الكاهن الأكبر بشرًا؟ لديه طمع ورغبات، فتحرّك لصالح من يلبّي احتياجاته.”
لم يكن يجب أن يصل إلى هذا المنصب أصلاً.
نقر الإمبراطور السابق لسانه، واتّكأ على ظهر الكرسي.
“سمعتُ أنّه هرب من المعبد قبل أيام، حاملاً كلّ ما يمكن أن يُدرّ المال.”
“… إذن، هل تعتقد أنّه أخذ سجلّات ظهور قوة ريانا وابنة الدوق؟”
“نعم. وبما أنّك تبحث عنها، يبدو أنّها وثائق يمكن أن تُوقع بالدوق، فما الذي يُدرّ المال أكثر منها؟”
طق، طق، طق.
طرق الإمبراطور السابق ذراع الكرسي ببطء، وتحرّكت عيناه الرماديّتان الباهتتان من إينوك إليّ.
“ماذا كُتب فيها؟” “…”
“مؤخرًا، تهتمّين بالشائعات القديمة، أليس كذلك؟ مثل أنّ ابنة الماركيز أظهرت قوة خارقة، تلك الشائعات البالية.”
“… يبدو أنّك وضعتَ أذنًا ذكيّة بجانبي.”
ردّ إينوك بصوت منخفض، لكن الإمبراطور السابق لم يجب، بل حدّق بي طويلاً، ثم رفع أدواته.
“كما قلتِ أمس، حتّى لو أمسكت بضعف الدوق، لا يجب أن أتحرك بتهوّر. ليس أنا فقط من يحتاج هذا الحديث. ”
“؟”
كنتُ سأعضّ السكين، لكن نظرته الثابتة جعلتني أضعها ببطء.
“قد تتأذّين إن أخطأتِ.”
“أعلم.”
“لا تقول إنها لن تفعل، من أين أتت هذه العناد؟”
هزّ رأسه بنزعاج، وواصل تناول الطعام.
نظرتُ بينهما، ثم رفعتُ السكين بحذر.
كادت أكمامي الزرقاء الفاتحة تلامس الطبق.
لمَ توجد ملابس نسائيّة عصريّة في مكان غير مأهول؟
تذكّرتُ الخادم الذي أعطاني الملابس بشحوب، وحاولتُ إمساك الأكمام، ثم فتحتُ فمي.
“آه.”
صحيح، جوهرتي.
الجوهرة التي أخذتها من منزل إليشا كانت في كمّي!
تذكّرتُ ذلك فجأة، فكأنّها مفتاح، تدفّقت ذكرى غريبة في ذهني.
[“الآن، هذه القوة ليست لكِ، بل لابنتي. هل فهمتِ، ريانا؟”]
“ما هذا…؟”
توقّفتُ فجأة، ورأيتُ إينوك والإمبراطور السابق ينظران إليّ بدهشة، لكن لم أستطع تحريك عينيّ.
ذكريات غريبة تدفّقت كحبر مذاب في الماء.
[“إنّها لابنتي. لم تُظهري أيّ قوة منذ البداية!”]
أصبح الصوت الطنّان أوضح، وتجلّت ملامح الوجه.
عيون زرقاء كالبحر في ليلة صيفيّة صافية، وملامح فاخرة.
كان أصغر سنًا، لكن…
“الدوق هيرينغتون؟”
رغم لقائي به مرة واحدة، كان وجهه واضحًا، يمدّ يده بعبوس.
[“إن سكتِّ، ستكون ابنتي بطلة النبوءة، وستصبح إمبراطورة البلاد. لذا، ريانا، اسكتي.”]
“-آنا.”
رمشتُ مرة، كأنّ صوتًا دافئًا اخترق الذكرى، لكنّني ركّزتُ على يد الدوق الممدودة.
‘ما هذا؟ هلوسة؟ لا، إنّه أكثر…’
إنّه حقيقي أكثر من هلوسة.
“آه.”
رمشتُ مجدّدًا، مدركة فجأة.
‘هل هذه ذكريات ريانا؟’
لمَ عادت فجأة؟ لمَ ظهرت ذكريات كانت فارغة؟ عبستُ بعدم فهم، فأمسك يدي شيء قويّ.
“ريانا!”
“؟”
استيقظتُ من شرودي، ونظرتُ إلى إينوك يمسك يدي الصغيرة بقلق.
“ما بكِ؟ هل أنتِ بخير؟”
“لا، ليس هذا…”
بدوتُ كمن تجمّد فجأة، فلا بدّ أنّه قلق.
ربتّ على يده، وتحسّستُ كمّي.
شعرتُ أنّني أعرف لمَ ظهرت هذه الذكرى فجأة.
بحثتُ في ملابسي، ثم عبستُ بنزعاج.
‘صحيح، لقد غيّرتُ ملابسي.’
نظرتُ إلى السكين بحسرة، ثم ناديتُ الإمبراطور السابق.
“جلالة الإمبراطور السابق، أقصد… أبي.”
“ماذا؟”
“هل يمكنني الذهاب أوّلاً؟” * * * “غريب، أنا متأكّدة أنّني وضعتها هنا.”
عدتُ إلى الغرفة، حاملةً حلويات في خدّيّ كالسنجاب، وقلبّتُ ملابسي التي كنتُ أرتديها أمس.
كنتُ أرتديها صباحًا، فهل أسقطتها ليلاً؟
بحثتُ على الأرض، عندما سمعتُ صوتًا عميقًا.
“عن ماذا تبحثين؟”
“يا إلهي!”
عدلتُ ظهري، ونظرتُ إلى إينوك.
“لمَ صعدتَ؟ لم تكمل طعامك.”
“لأنّكِ صعدتِ.”
“كان هناك الكثير من الطعام اللذيذ، اكمل أنتَ.”
هرعتُ لألحق بذكرى طارئة، لكن فكّرتُ بالحلويات الشهيّة، فداعبتني شهيّتي.
ضحك إينوك، ومدّ يده ليمسح فمي.
“إن أردتِ، عودي وكلي. الطاولة لم تُرفع بعد.”
كانت فتات الطعام على فمي، فأخذها إينوك إلى فمه.
سمعتُ صوت الفتات تتكسّر، ومسحتُ فمي بحمرة.
“لا، يجب أن أجد شيئًا.”
“تجدين شيئًا؟”
“نعم، أخذتُ شيئًا من منزل الدوق قبل هروبي… غريب، أين ذهب؟”
واصلتُ تقليب الملابس، وأمالتُ رأسي، فظهرت يد إينوك المغلقة.
“ماذا؟”
أمالتُ رأسي مجدّدًا، فانحنى إينوك وفتح يده ببطء.
“هل هذا؟”
“آه…؟”
“هل تبحثين عنه؟”
كان هناك جوهرة صغيرة في يده.
“لمَ هذا معك…؟”
رمشتُ بدهشة، وعبستُ قليلاً.
هل رأيتُ خطأ؟ طعنتُ الجوهرة بظفري، فتدحرجت في يده.
أصدرتُ صوتًا، ونظرتُ إلى إينوك.
“ألا يبدو لونها غريبًا؟”
“آه…”
تنهّد إينوك وهو يرى يدي تطعن الجوهرة.
“ما زلتِ لا تتذكّرين؟”
“لا.”
أومأتُ بثقة، فظهرت دهشة في عينيه الرماديّتين. لكنّها تلاشت، ورفع حاجبًا، وأخرج شيئًا من جيبه مع صوت حفيف.
مغلّف أبيض مكتوب عليه اسم المرسل والمستلم فقط.
ورقة رسالة أحملها دائمًا، تتأرجح أمامي.
“لمَ هذا معك؟”
“حقًا.”
تنهّد إينوك، وأخرج محتويات المغلّف.
“أمس، أنتِ من أعطيتني إيّاها.”
“أنا؟”
“نعم، الجوهرة والورقة، أنتِ من أعطيتني إيّاهما.”
ماذا؟ هل أعطيته كلّ شيء في سكرتي؟
كان يجب أن أعطي شيئًا أفضل! هززتُ رأسي للأمس، ونظرتُ إلى إينوك بدهشة وهو يضع الورقة في يدي.
“إينوك، لمَ تفتحها؟ لا يوجد شيء مكتوب.”
“حسنًا.”
تبعتُ نظرته، فارتجفت أهدابي بدهشة.
“آه؟ إينوك! انظر! ظهرت كتابة!”
كانت هناك كلمات على الورقة، مكتوبة بحبر أحمر يرقص كالنار، كأنّها انتقلت من الجوهرة الباهتة.
كلمات تحمل ذكريات ريانا الطفوليّة، كفيلم أبيض وأسود.
بينما كنتُ أنظر إلى الجوهرة والكتابة، تذكّرتُ صوتي المخمور الليلة الماضية.
[“واه! إينوك، انظر! الكلمات تظهر على الورقة من تلقاء نفسها!”]
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 50"