طقطق.
رنّ صوت تصادم الأدوات في الهواء الهادئ.
استمرّ الصمت المزعج لفترة، حتّى فتح الإمبراطور السابق فمه أوّلاً، وهو يقطّع اللحم المتشرّب بالدماء.
“حدث نادر، أن تستجيب لدعوتي للعشاء. هل تشتاق للإجابة لهذه الدرجة؟”
“لا شيء نادر. هذه أوّل مرة تدعوني فيها للعشاء.”
“حقًا؟”
“نعم، هكذا كان.”
أجاب إينوك بلا تعبير، ومسح فمه بمنديل.
“انتهيتَ بالفعل؟”
“متى ستجيب على سؤالي؟”
“عندما أفرغ طبقي، سأخبرك.”
“أبي…!”
لم يتحرّك حاجب الإمبراطور السابق رغم نبرة إينوك المتذمرة، وواصل طعامه بهدوء.
‘ما الذي يفكّر فيه؟’
منذ وفاة أمّه، كان والده يتجنّب التواجد معه في مكان واحد، فما الذي جعله يتصرّف هكذا فجأة؟
[“بسببك، بسببك ماتت ليتريشا! اخرج، اختفِ من أمامي الآن!”]
تذكّر إينوك كلمات اللوم الرنّانة، فشعر ببرودة حول قلبه.
كان الموقف مزعجًا.
لم يكن متأكّدًا من أنّ والده عبث بالسجلّات، بل جاء فقط ليرى إن كان سيحصل على شيء.
“أضعتُ وقتي.”
مدّ يده بحركة معتادة ليفكّ ربطة عنقه من الضيق، لكنّ يده تجمّدت عند كلام الإمبراطور السابق.
“إذن، عندما زرتَ أرشيف السجلّات، لم تجد سجلّات ظهور قوة الدوقة والماركيزة الصغيرة؟”
“هل كنتَ تراقبني؟”
“مراقبة؟ أنا لستُ الوحيد الذي يراقب إمبراطور الإمبراطوريّة.”
“لستَ الوحيد، بالطبع.”
تحرّكت حواجب إينوك بقوّة، مشحونة بالعاطفة.
“لأنّ كلاب الدوق منتشرة في كل مكان.”
ضحك الإمبراطور السابق بجفاف، وابتلع قطعة لحم مقطّعة بدقّة.
“هل تضعني في نفس مستوى ذلك الرجل؟”
“أليس كذلك؟ كنتَ دائمًا إلى جانب الدوق.”
“جانب الدوق… لا، أنا لا أنحاز لأحد. أقف فقط مع من يقوّي السلطة الإمبراطوريّة.”
“يا للأسف، سيشعر الدوق بالإهانة.”
نظر الإمبراطور السابق بحدّة إلى يد إينوك، حيث لمعت قفازاته الجلديّة السوداء تحت ضوء الثريّا، ثم أشاح بنظره.
“لستُ أنا.”
“ماذا تقصد؟”
“لم أعبث بسجلّات الظهور.”
“… حقًا؟ فهمتُ.”
“لكن، لمَ تبحث عن تلك السجلّات فجأة؟”
“وهل يجب أن أخبرك بالسبب؟”
ردّ إينوك بنفس كلمات والده، ونهض من مقعده.
عندما استحضر ذكرى قديمة، بدأت ذكريات أخرى تتسلّل إلى ذهنه.
قصر الإمبراطورة المجمّد بالبياض، صراخ والده الممزوج باليأس.
كلّما تذكّر ما لا يريد، شعر ببرودة تغزو جسده، كأنّ هيجانًا يبدأ.
قبض إينوك يده بقوّة ليخفي مظهره البائس، ونهض.
“سأغادر الآن.”
منذ أن استيقظ خوفه المدفون، كلّما ارتعش جسده كأنّه معطل، كان هناك شيء واحد يفكّر فيه.
“ريانا.”
ذلك الدفء، الحنان، الطمأنينة. في لحظة اشتياقه الشديد لها،
بوف.
مع صوت ناعم لا يتناسب مع الأجواء الحادّة، امتلأ حضنه بدفء.
“… ريانا؟”
هل أثّر كأس النبيذ الذي شربه؟
نظر إينوك إلى عينيها الخضراوين المتلألئتين، فتحرّكتا بخجل، وتفحّصتا المكان، ثم أضاءتا فرحًا عند رؤيته.
‘كالأرنب.’
في الواقع الغريب، حرّك إينوك جفنيه ببطء.
كانت أعصابه مشدودة إلى أقصاها قبل لحظات.
“هل هذا حقيقي…؟”
نظر إلى عينيها المتحرّكتين بتفكير، ومدّ إصبعه بحذر.
ستعرف إن لمستها.
لكن شفتي ريانا انفتحتا أوّلاً.
“واه، كدتُ أموت من الخوف! إينوك، لن تصدّق ما سمعته- مهلاً! لمَ وجهك هكذا؟ هل أزعجك أحد؟ من هو…؟”
كيف يمكن لتعبيراتها أن تكون بهذا التنوّع؟
اتّسعت عيناها عندما رأت الإمبراطور السابق في المقعد الرئيسي.
“مهلاً، ليس شخصًا… أقصد… أبي…؟”
* * * ‘آه… أريد أن أختفي.’
نزلتُ من حضن إينوك، وجلستُ على الكرسي، ومسحتُ عرقًا باردًا.
“أبي”؟ كيف خرجت هذه الكلمة؟
في هذا الموقف المربك، صدمني شحوب وجه إينوك، ثم صدمتني رؤية الإمبراطور السابق الشبيه به، فتحرّك فمي من تلقاء نفسه.
“أبي”؟ حقًا…!
‘كان من الأفضل أن يقبض عليّ كارهيل…’
على الأقل لم أكن لأقول هراء. تراجعت عيناي بخجل.
كنتُ بالفعل في حيرة، وتعبير إينوك غامض، ووجه الإمبراطور السابق ليس وديًا.
في الصمت المخنوق، لم أستطع الحركة، وشعرتُ بكتفيّ تتقلّصان.
لو لم يصرّ الإمبراطور السابق بعبوس على دعوتي للطعام، لكنتُ هربتُ فورًا.
بينما كنتُ أريد تمزيق شعري من الحيرة، بدأت الأطباق الساخنة تملأ أمامي.
حتّى في هذا الوضع، كانت رائحة الطعام مغرية، فابتلعتُ لعابي، ونظرتُ إلى الإمبراطور السابق.
لقد دعاني للجلوس، لكن…
‘يا إلهي، انظر إلى تعبيره. كيف أتناول الطعام مع هذه النظرة الحادّة؟’
كان يمكن أن يتركني أغادر. أبي… لا، جلالة الإمبراطور السابق.
عبستُ وأنا أعبث بالشوكة، عندما…
كررر.
كسرت معدتي عديمة اللباقة الصمت فجأة.
“آه!”
بعد دقائق من الخروج من موقف محرج…
ضغطتُ على بطني بدهشة، لكنّ صوتًا صاخبًا رنّ مجدّدًا.
“كفّي عن الإزعاج.”
“نعم…”
أجبتُ بصوت خافت من الخجل، وحدّقتُ في الطعام بنظرة حادّة.
كلّ هذا بسبب رائحة الطعام الشهيّة. لو كانت أقلّ، لما كان هذا الصوت.
تنهّدتُ بخفّة.
فهمتُ عبوس الإمبراطور السابق. من سيأتي فجأة، ويصدر أصواتًا كمن جاع أيامًا؟
أيّ انطباع أوّل هذا… لحسن الحظ، لم يسأل لمَ ظهرتُ فجأة؟
‘يجب أن أخبر إينوك.’
أردتُ إخباره بحديث إليشا وكارهيل، لكن عيني الإمبراطور السابق الرماديّتان، الأغمق من عيني إينوك، بدتا كأنّهما لن تتركاني حتّى أفرغ الطبق.
“آه، سأأكل بسرعة وأغادر.”
استسلمتُ نصف استسلام، ورفعتُ ملعقة حساء كبيرة، لكن الإمبراطور السابق فتح فمه في اللحظة المناسبة.
“بالمناسبة، ماذا قلتِ للتو؟”
“لمَ لم تسأل قبل أن آكل…! آه، ساخن!”
كنتُ أحتفظ بالحساء في فمي، وكان ساخنًا أكثر من المتوقّع، فلم أستطع ابتلاعه بسهولة.
بينما كنتُ أغطّي فمي وأتخبّط، رفع الإمبراطور السابق حاجبه بشكل مائل.
“أبي؟”
“بف!”
شعرتُ أنّ الأمور تسير بسلاسة، لكنّني سعلتُ من الذعر وحاولتُ ابتلاع الحساء.
“هل أنتِ بخير؟”
كنتُ أبحث عن منديل ووجهي محمرّ وعيناي دامعتان، فمال إينوك نحوي.
“أنا بخير، *سعلة*. سأفعل، *سعلة*.”
“ابقي هادئة.”
حاولتُ انتزاع المنديل من إينوك، الذي يمسح وجهي بنفسه، لكن السعال المستمرّ جعل الأمر صعبًا.
أخيرًا، بعد مسح فمي وإعطائي كأس ماء، أشار إينوك إلى خادم عند الجدار.
“ليس ساخنًا جدًا، أحضر شيئًا باردًا.”
رغم قولي إنّ بإمكاني تبريده، عاد الطعام إلى المطبخ.
نظر الإمبراطور السابق إلى المشهد بتعبير غريب، كأنّه رأى شيئًا عجيبًا.
“مبالغة. ظننتُ أنّ الشائعات مبالغ فيها، لكن هذا…”
لكن إينوك لم يلتفت إلى والده، ومدّ يده إلى طبقي الذي يحتوي على لحم الضأن.
“؟”
كنتُ أمسح أنفي بعد توقّف السعال، وأمسكتُ الطبق غريزيًا.
“هذا… لي.”
قرّرتُ الأكل بحماس، فلمَ يأخذه…؟
“أعلم.”
“طبق جلالتك هناك…”
غيّرتُ الاسم لأنّني أمام الإمبراطور السابق، لكن إينوك عبس وأخذ الطبق.
عندما رأيتُه يقطّع اللحم بمهارة، أدركتُ نيّته، ولوّحتُ بيديّ.
“سأفعلها بنفسي!”
“اللحم قاسٍ، لن يكون سهلاً.”
لكن اللحم يُقطّع بسهولة كالبودينج!
نظرتُ إلى اللحم، ثم إينوك، ثم الإمبراطور السابق، وارتجفتُ كتفيّ.
أمسكتُ يد إينوك، التي كانت تتحرّك كنغمة، فنظر إليّ بعينيه الرماديّتين متسائلاً.
“سأفعلها بنفسي. انظر إلى تعبير جلالة الإمبراطور السابق.”
ماليتُ نحو إينوك، وأشرتُ بعينيّ إلى وجه الإمبراطور السابق المتقلّب.
“آه.”
نظر إينوك إلى والده بسرعة، وابتسم كأنّه لا يبالي. “لا تهتمّي، وجهه دائمًا هكذا.”
“لا، ليس كذلك.”
لأنّ تعبيره أصبح أكثر حدّة بعد كلامك.
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 46"