ناداني أحدهم محاولًا إيقاظي. كنت لا أزال غارقة في نعاس ثقيل، فاكتفيت بتجاهل الصوت وتقلبت على الجهة الأخرى.
“هممم…”
“ميليارا، افتحي عينيكِ.”
لكن نبرته بدت عاجلة هذه المرة.
“هل أنت متأكد أنها ليست تلك العدوى؟! هل أجريت تشخيصًا سليمًا؟!”
تبع ذلك صوت غاضب.
“إنها تعاني فقط من دوار بسيط، هذا هو التشخيص المؤكد، إنها ليست مصابة بشيء خطير.”
“فلماذا لا تفتح عينيها إذًا؟!”
فتحت عينيّ وسط هذا الصخب. ومع انقباض جفوني بسبب الضوء، بدأت رؤيتي تتضح تدريجيًا، فرأيت جمعًا من الناس يحيطون بسريري.
“ميليارا!”
كان الصوت الأعلى ضجيجًا منذ البداية، صوت ليندن نفسه.
توجه نحوي، غاضبًا على ما يبدو من الرجل الكهل بالرداء الأبيض بجانبه.
“هل استيقظتي ؟”
“ما الذي يحدث…؟”
كنت نائمة نومًا عميقًا لدرجة أن صوتي خرج مبحوحًا عند استيقاظي.
“كيف تشعرين؟ هل تجدين صعوبة في التنفس؟”
“أنا بخير، في الواقع…”
نظرت حولي نحو الوجوه المحيطة بي،
ليندن، والطبيب كما يبدو، وكيلبر، وتانما، وليخت.
ما هذا؟! لمَ كان الجميع يراقبني وأنا نائمة؟!
مررت أصابعي سريعًا بين خصلات شعري لأصفّفها، ثم مسحت وجهي بحثًا عن آثار لعاب جاف أو إفرازات نوم.
كان ليخت يراقبني بتمعّن، وكأنه يفحص كل حركة أقوم بها.
“أهمم… ما الأمر؟”
لا بد أن هنالك سببًا يجعل الجميع يتكدّسون في غرفة نائمة ثم يوقظونها بهذه الفوضى.
تنهد ليندن براحة حين سعلت وسألته مجددًا.
“هاه… لا تصدمي كثيرًا، فقط استمعي إليّ.”
كنت في الحقيقة قد صُدمت مسبقًا لمجرد استيقاظي لأجدهم جميعًا يحدقون بي، لكنني أومأت دون أن أعلّق.
هل هنالك ما هو أكثر إدهاشًا من هذا المشهد؟
“هناك وباء ينتشر الآن في القرية.”
“ماذا…؟”
أسحب كلمتي.
نعم، هنالك ما هو أكثر إدهاشًا.
***
“ثلاثون في المئة من سكان القرية قد أُصيبوا؟! أليس هذا خطيرًا للغاية؟!”
بدا الوضع كارثيًّا من تفاصيله.
المرض المعدي الذي انتشر في القرية كان ينتقل عن طريق اللمس، وكانت أعراضه تبدأ ببقع بنية داكنة على الجلد، ثم تتحول إلى بقع حمراء تشبه الطفح الجلدي.
ومع اشتدادها، يبدو أن الجلد يُحرق من الداخل، فتفشل الرئة تدريجيًا ويبدأ السعال المصحوب بالدم.
لحسن الحظ، لم تكن نسبة الوفاة عالية، لكنها لم تكن معدومة كذلك.
والأعراض نفسها كانت مروّعة، مما جعل الوضع معقدًا للغاية.
“أعتذر… بما انه أنتِ، أردت إخراجك على الأقل أولًا…”
قال ليندن وهو يحاول أن يُخفي عبوسه.
“ها؟ لا، لا.”
لوّحت بيدي سريعًا.
“عليك الالتزام بالتدابير التي فرضتها. ولا أريد أن أكون الوحيدة التي تحظى بمعاملة خاصة.”
كان ليندن قد استعمل سلطته كأمير ليعزل القرية.
فهمت حينها أنه مرض معدٍ، وأن علينا بكل وضوح أن نمنع انتشاره.
لم تمرّ سوى ثلاثة أيام فقط على بدء ظهور الأعراض، والقرية كانت تقع في أطراف الإمبراطورية ، قليلة الحركة والتواصل مع باقي المناطق.
لو أُصيب أحد هنا، لربما استطعنا منع وصول الوباء إلى العاصمة.
لكن المشكلة أن القرية أُغلقت بالكامل، ونحن أُغلق علينا معها.
“لو كنت أعلم أن الأمور ستؤول إلى هذا، لكنت تجنبت المرور من هنا وتوقفت في مكان آخر.”
“لقد توقفنا في الأصل لأنني شعرت بدوار. ولو كنت أُجبرت على متابعة الطريق عبر هذه القرية، لكنت انهرت داخل العربة.”
كان ليندن لا يزال يشعر بالذنب، فابتسمت لطمأنته.
“وفوق ذلك، بفضل توقفنا القصير هنا، عرفت بوجود هذا الوباء، وتمكنت من التعامل معه، أليس كذلك؟ إذًا، بل إنّ الأمر مبشّر.”
في داخلي، كنت أشعر بالحيرة، إذ لم يُذكر شيء من هذا في الرواية الأصلية.
الرواية كانت تركّز فقط على قصة الحب بين البطلين، ولا تُعير باقي التفاصيل أي اهتمام.
فلو كان هذا الحدث أساسيًا، لربما جُعل محورًا لأحد الفصول، لكن من كونه غائبًا، أدركت أنه ليس من الأحداث الكبرى… وهذا ما أشعرني ببعض الارتياح.
في تلك اللحظة تمامًا، رنّ جهاز التواصل الخاص بليندن.
“عذرًا، عليّ أن أجيب على هذا الاتصال مجددًا.”
“اذهب بسرعة.”
وعندما رأيته يعاود إظهار ملامح الاعتذار على وجهه، ابتسمت ابتسامة مبالغًا فيها ودفعته برفق من ظهره.
“لا يمكنني أن أستحوذ على وقت كلّ من لديه أعمال عاجلة.”
فرغم أن ليندن كان شبه مجهول لدى العامة، وهو من ظل يترقّب الفرص في صراع النفوذ على العرش، إلا أنه يظل أميرًا في نهاية المطاف.
وصحة وسلامة شعب الإمبراطورية على المحك، لذا كان يتولى هذه القضية بصفته كبير الأطباء.
وبعد رحيله، أعدت نظري نحو الساحة العامة للمدينة.
الساحة التي كانت في السابق تعجّ بتفاصيل الحياة اليومية وأحاديث الناس العادية، والأنماط المتشابكة المنحوتة على أرضها، باتت الآن مكتظة بالمرضى.
ولأجل تقليل الاختلاط بين المصابين والأصحّاء، قرر ليندن جمع جميع المصابين في مكان واحد. ولأن القرية صغيرة للغاية، وكان عدد غرف العلاج في العيادة محدودًا، اختار ساحة المدينة الفسيحة بدلًا من ذلك.
فأصبحت الساحة الآن مملوءة بأناس ممددين على أسِرّةٍ مغطّاة بالأغطية، وآخرين ما زالوا قادرين على الحركة، وآخرين ينتظرون على أطراف الساحة أملًا في تعافي أحبّتهم.
وقبل أن يبدأ الفرسان بتوزيع الأغطية التي جلبوها… دخل ليخت في مجال رؤيتي.
“ماذا قال الأطباء؟”
“كما توقعتِ، من الصعب معالجته بالأدوية.”
كان الجواب الذي جاء من ليخت، الذي ذهب ليبحث عن علاج للوباء، لا يزال كما سمعته أول مرة.
“وهل عرفتم على الأقل السبب؟”
“لديّ فرضية، لكن…”
نظر ليخت إلى الساحة من حوله، ثم توقفت كلماته عند منتصفها.
“سأتولى ذلك بنفسي.”
وكان ذلك منطقيًا. فما يهم الآن ليس معرفة أصل المرض، بل كيفية إيقافه.
وحين أومأت برأسي علامة على الفهم، نظر ليخت إلى الأغطية المكدسة بين ذراعيّ وتحدّث مجددًا.
“ألم أخبرك أن تستريحي؟ هل خرجتِ لأداء المهام مجددًا؟”
“القرية كلها تعاني، فكيف لي أن أجلس في غرفتي وكأن شيئًا لا يحدث؟ سيكون ذلك متصنّعًا أكثر من اللازم.”
“ألستِ مريضة أيضًا؟”
هاهاها… إنه مجرد دوار بسيط… هناك من يتقيأ دمًا حولنا.
لقد أصبت فقط بدوار حركة كان أشد قليلًا، لكن يبدو أن ليخت يراني كفتاة واهنة متداعية.
“الطريقة الوحيدة لنواصل طريقنا سريعًا هي أن يهدأ الوضع سريعًا.”
لم أكن أساعد بدافع النُبل أو الأخلاق الفائقة، بل ببساطة، لأنني لم أكن أستطيع النوم في وسط هذا الاضطراب والفوضى.
“عمومًا، بما أنه مرضٌ يعجز الأطباء عن علاجه…”
بدّلت الموضوع قبل أن يطيل ليخت في تقريعه.
“ألا يجدر بنا التواصل مع المعبد؟”
وعندما فكرت في الأمر، بدا لي غريبًا بعض الشيء.
‘لو كان الأمر متعلقًا بمرضٍ لا يُشفى إلا بقوة المعبد، فلابد أنه ذُكر ولو لمرة واحدة في الرواية الأصلية.’
لكنني بالطبع لم أكن أحفظ الرواية عن ظهر قلب، وربما فاتني ذكره إن كان عابرًا.
وأثناء ترددي في تحديد ما إذا كان الأمر ذُكر فعلًا أم لا، تابع ليخت الحديث.
“حتى وإن لم تتواصلي مع المعبد…”
واتجه بنظره نحوي.
لكن كلماته توقفت مجددًا عند منتصفها.
كان ليخت رجلاً يقول ما يريد ببساطة ووضوح، لذا أدهشني أن يتلعثم بهذا الشكل.
‘حتى هو… هنالك أوقات يُساوره فيها التردد.’
نظرت إليه بفضول، وكانت عيناه المتلاقيتان بعينيّ تتأملان ملامحي بتمعّن. وكأنّه يتردد بين أن يُفصح عمّا في قلبه أو لا.
“ما الأمر؟ هل لديك حلّ…؟”
“اللعنة، أيها الأوغاد!”
وقبل أن أتمكن من سؤاله ما إن كان هناك سبيل ما، دوّى صوت غاضب شقّ الأجواء.
وحين استدرت بدهشة، رأيت ليندن على مقربة، يقذف جهاز التواصل في وجه أحد الفرسان بجانبه، ويعبث بشعره في غضب.
حدّقت فيه بعينين مستديرتين.
فـليندن، ذاك الأمير الذي لطالما تزيّن بابتسامة هادئة أمام الجميع، كونه سياسيًّا يستغل وداعته لمآربه، لم يكن يُرى على هذا النحو الحادّ كثيرًا.
“ما الذي حدث؟ ما الذي لا يسير على ما يرام؟”
اقتربت منه وسألته بقلق، إذ بدا الوضع كارثيًا حتى أغضبه بهذا الشكل النادر.
“أوه، ميليارا.”
سرعان ما غيّر تعابير وجهه حين رآني، فارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة بعيني هلاليتين.
لكن بعد أن رأيته غاضبًا، لم أستطع أن أتناسى الأمر بهذه البساطة.
“ما الذي حدث؟ ألم يكن الطرف الآخر في المكالمة القصر الإمبراطوري؟”
“هاه… إنه برج السحرة الإمبراطوري. لكن أولئك الحمقى قالوا إنهم لا يستطيعون إرسال أي دعم.”
وعاد ليندن ليمرّر يده بشعره، الذي بدا فوضويًا أكثر من أي وقت مضى.
كانت خصلات الشعر المتناثرة أكثر من تلك المربوطة.
“ألم يدركوا مدى خطورة الموقف؟”
“شرحت لهم بالفعل. لكنهم قالوا إنهم لا يستطيعون تخصيص موارد لأمور ‘تافهة’.”
أناس يجهشون بالدعاء والتوسل من أجل شفاء إخوانهم، آبائهم، أبنائهم، أحبّتهم.
إن كان هذا يُعد أمرًا تافهًا، فما الذي يجب أن يحدث ليُعتبر أمرًا جللًا؟
“أن يستمروا بلعب أدوار السياسيين حتى في هذه اللحظة…”
لم يكن من الصعب فهم سبب موقف برج السحرة المتخاذل. فببساطة، لأن من تقدّم بالطلب… كان ليندن.
كان برج السحرة الإمبراطوري، الذي خدم الأباطرة جيلًا بعد جيل، يُعدّ بطبيعة الحال دعامةً راسخة لولي العهد.
بل إنّ ليندن قد أصبح من القوة بما يكفي ليُهدّد مكانة سيد البرج الحالي، حتى أنّ أكثر من نصف محاولات الاغتيال التافهة التي تعرّض لها، كانت مدبّرة من طرف برج السحرة ذاته.
“مهما بلغ كرههم لك، فهذا أمر يتعلّق بسلامة مواطني هذه الإمبراطورية.”
“وليس الأمر وكأن الموقف قد يُلحق ضررًا بسمعة برج السحرة أو يُضعف شعبية أخي.”
“إنهم حقًا… الأسوأ.”
تمتمت بامتعاض وأنا أقرع لساني.
“ولِم لا تتواصلين معهم؟”
“لا أظن أنهم سيُصغون. ألم تنسَ كيف فُسخت خطبتي في مشهد فاضح أمام الملأ، حتى باتت حديث الحي بأسره؟”
“آه…”
كأنّه نسي ما قال لتوه، إذ التفت ليندن إليّ بنظرة مترردة.
“عذرًا… لم أقصد أن ألمس جرحك بهذا الشكل…”
كان منظره، وهو ينظر إليّ بتلك العينين الواسعتين، أشبه بطفل أذنب في لحظة طيش، فلم أتمالك نفسي من الضحك.
“دعك من ذلك، لا داعي للقلق.”
لم أكن أدري إن كان ينظر إليّ ليراقبني، أم يراقب ردة فعلي، لكن في كلتا الحالتين، لم يكن للأمر وزن عندي، فقد كانت حقيقة أن الخطبة لم تُؤذِني أصلًا.
“على أية حال، إن لم يكن برج السحرة مجديًا…”
كان هنالك خيار آخر مطروح أمامنا، وهو طلب العون من القصر الإمبراطوري، لكن للأسف، كان هذا الخيار عسيرًا علينا كلينا.
فالإمبراطور قد أدار ظهره لليندن ليظهر دعمه لولي العهد، أما كبرياء ليندن، فلم يكن ليسمح له بأن يُحنِي رأسه لذلك الإمبراطور طلبًا للمساعدة.
أما أنا، فكنت مترددة في التوجّه بطلب إليه، خاصة بعدما أدرجني مؤخرًا في قائمته السوداء بسبب ما حدث.
“لم يبقَ لنا إلا المعبد… هل نذهب؟”
فمن بيدهم حلّ هذه الكارثة ليسوا الإمبراطور أو أعوانه، بل القديسون والكهنة.
لكنّنا، أنا وليندن، كنّا نؤجّل التواصل مع المعبد حتى آخر لحظة.
“أظن أنهم، حين يسمعون بما سنقوله، سيفضّلون أن أموت بالطاعون بدلًا من أن يقدّموا يد العون.”
فلم تمضِ سوى أسابيع قليلة منذ أن حاولت تسميم قدّيستهم.
“أي هراءٍ مرعب هذا الذي تتفوهين به؟”
“إنه واقع. من وجهة نظر المعبد، أظنني على رأس قائمة ‘أول من يرغبون بطعنه حتى الموت’.”
حاول ليندن أن يواسينني، لكنني اكتفيت بابتسامة محرجة وخدشت خدي بخفة.
“قد يكون هناك بعض الكهنة الذين يضعون حياة الناس فوق كل اعتبار، لكن حتى أولئك سيظنون أنّ ما يحدث الآن مجرد مسرحية جديدة من حبكاتي.”
تعكّر وجه ليندن وتعقّدت ملامحه عند سماعه جوابي.
فتمتمت بامتعاض وأنا أقرع لساني مرة أخرى، فالعجز عن التصرف كما يجب كان يثير غضبي.
“على أي حال، لا يحق لي الشكوى، فقد كنت السبب فيما حدث…”
زفرة طويلة انطلقت مني دون تفكير.
“إنه لأمرٌ مؤلم حقًا، أن يتمادى كلٌّ من برج السحرة ومعبد حاكم الشمس بهذا الشكل، فقط لأنهما احتكرا أمل الناس بأكمله…”
هممم…؟
وبينما كنت أتحسّر على تغوّل البرج وسطوة المعبد، فجأة، تذكّرت حقيقة بالغة الأهمية.
“ليس الأمر وكأن في الإمبراطورية معبدًا واحدًا فقط…”
“هاه؟”
لم يسمع ليندن همسي، فأعاد سؤاله، لكنه لم يكن مستعدًا للجواب الذي سمعه.
صرخت بحماس.
“الإمبراطورية لا تؤمن بديانة واحدة!”
كأن الضباب الذي خيّم على ذهني انقشع دفعة واحدة.
“ما الذي تقولينه…؟”
وعيناه، اللتان كانتا معقودتين في حيرة، اتسعتا فجأة كما لو رُفِع الستار عن سرّ دفين.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات