“من فضلك، التزم الأدب في حضرة جلالته، ملك الشياطين.”
ورغم أنّ تانما قد نبهه صراحة، لم يزد الرجل على أن أطلق ضحكة خفيفة.
“اليوم، يبدو أنّ عدد الأوغاد الذين يتبعونك قد قلّ من اثنين إلى واحد، أليس كذلك؟”
همس بتلك الكلمات القاسية في رفق. كان صوته عذبًا لدرجة أنّه قد يسحر كل ضعيف القلب في طرفة عين. غير أنّ نبرة لاسعة، مناقضة تمامًا لذلك، خرجت من فم ليخت.
“ليس خافيًا عليك أنّ التدخل في شؤون البشر من غير إذن أمر محرّم بشدّة.”
كان صوته حادًّا إلى درجة لو كان خنجرًا لشقّ خصمه نصفين.
“ماذا تظنّ سيحدث إن لامس البشر عقاقير يعجز حتى الشياطين عن احتمالها؟ ولحسن الحظ أنّه كان مخفّفًا، وإلّا لما قاد إلى غير الموت.”
لقد كان منبع هذا الوباء بئرًا ملوثًا. تأكّد ليخت أنّ ماءه يحوي مادة مشهورة بخطورتها حتى على الشياطين.
لم يكن ذلك أمرًا طبيعيًّا، بل صُنع عن قصد بيدٍ خفيّة. ولمّا كان عقارًا لا وجود له في عالم البشر، علم ليخت على الفور أنّ أحد الشياطين هو من تدخل.
اكتفى الرجل بهز كتفيه تجاه كلمات ليخت.
“آه~ لمَ يتصرّف أخي الصغير بكل هذه الجديّة مرّة أخرى؟”
قهقه وكأن الأمر يثير دهشته.
“ألا تعلم أنّ طلب المتعاقد يُستثنى من تلك القاعدة؟”
اقترب من ليخت خطوةً إثر أخرى، وهمس بصوتٍ بدا كأنّه عازم على إغواء خصمه. كانت الأفعى ذات الرؤوس الخمسة تزحف بدورها متزامنة مع خطى مستدعيها. ارتجف تانما وهمّ بأن يستلّ سلاحًا من مخزونه السحري، لكنّ إشارة يد من ليخت أوقفته.
بدأت ملامح الرجل الذي وقف أمام ليخت تتجلّى تحت ضوء القمر المتسرّب من مدخل الزقاق. شعرٌ أسود من جذوره ثمّ أبيض عند أطرافه، وقرنٌ وحيد نصف مكسور يبرز من بين خصلاته ثنائية اللون. وبشرته شديدة البياض، حتى ليُرتاب المرء أهو حيّ حقًّا، شُقّت بندبة تبدأ من جبهته وتقطع عينًا حتى عظم وجنته.
“بما أنّ أخي الصغير هو ملك الشياطين العظيم، أفلا يجدر بي أنا، بوصفي الأخ الأكبر، أن ألتزم بالقواعد التي حُظر علينا خرقها؟”
لقد دار حول الحدّ ولم يتجاوزه.
“لتفكر أنّك تثير سؤالًا بديهيًّا كهذا… أَوَقد ضلّ ملكنا المبجّل عن القوانين منذ أن غاب عن عالم الشياطين زمنًا طويلًا؟”
ارتسمت ابتسامة على شفتيه وهو يميل بجسده العلوي نحو ليخت. ولو كان مخاطبه بشرًا، لكان مجرد انحناءة عينيه كافية ليفقد عقله.
“ولهذا قلت لك. سأرعى ذلك المقام نيابةً عنك إلى أن تعود.”
“لقد تجاوزتَ الحدّ، يا فرودي.”
التفت بصر فرودي ببطء نحو تانما الذي قاطع كلامه، لكنّه سرعان ما تجاهله وعاد باهتمامه إلى ليخت.
“كلّ ما في الأمر أنّ ذاك العرش لا ينبغي أن يبرد كثيرًا، فلنقم بتسخينه قليلًا. ما رأيك؟”
راحت هالة الإغواء تتراقص وتغشى المكان من حولهم، كانت قدرة فرودي الفريدة، ‘الإفتان’، التي بلغت من شدتها أنّ تانما ــ الذي عاش آلاف السنين ــ قد اضطرب واضطر لصرف بصره.
لكن حين بدت تلك الذيل الخفيّة كأنها تتحرك في رفق، تجمّدت ملامح فرودي فجأة.
“أوغـه…”
بدأ وجهه يتشنّج شيئًا فشيئًا، كأنما يختنق.
شششششش!
وما إن أدركت الأفعى المستدعَاة الموقف، اندفعت نحو ليخت كاشفة أنيابها في رؤوسها الخمسة.
دوّي!
غير أنّ غمد ليخت ضغطها إلى الأرض، فلم تستطع أن تتحرّك قيد أنملة، لا هي ولا سيدها فرودي.
“لعلّك نسيت، لأنني غبتُ عن ذاك العرش طويلًا.”
انتشرت طاقة سوداء مهيبة أثقلت الأجواء وأرهبت المكان. ولم تلبث تلك الهالة أن تلاشت تمامًا بلا أثر.
“لكن، ألا تتذكر كيف جلستُ على ذاك العرش أوّل مرة؟”
“آااه…!”
تلوّن وجه فرودي الأبيض بالأحمر والأزرق.
رمقت عينان هادئتان رهيبتان قرني فرودي. نصف قرن خشن، كأن أحدهم قد كسره بعنف. أمعن ليخت النظر فيه برهة قبل أن يعيد عينيه إلى وجه فرودي.
“أنا لا أمزح.”
“…”
كانت تلك الكلمات البسيطة تحمل وعيدًا واضحًا جليًّا. فسكن الصمت طويلًا.
“كـه… آاه…!”
وفي النهاية، حين قبض فرودي على طوق ليخت برجاء، خفّف ليخت قبض طاقته التي خنقت المكان.
“كح! كح!”
تراجع فرودي على عجل وهو يسعل بعنف، فيما رفع ليخت غمد سيفه عن الأفعى.
ششش…
عاد خادم فرودي إلى حجمه الصغير، يزحف صاعد ساقيه ويلتف حول خصره في غريزة للبقاء.
وبينما كان لا يفعل سوى التمسك بعنقه المجهد، لبث فرودي زمنًا طويلًا حتى استعاد أنفاسه.
رفع رأسه فقط، وهو منحنٍ بجسده، وألقى نظرة ثابتة على ليخت. وفي عينيه حياة تومض، لكنّ ليخت أجابه بوجه هادئ وكأنّ تلك الأحقاد أمر اعتاده.
“لا تجعلني أندم على أوّل فعلٍ من أفعالي التي أسميتها ‘رحمة’ .”
غادر ليخت الزقاق، تاركًا وراءه كلماته الثقيلة. بيد أنّ أثر ملك الشياطين ظلّ حاضرًا فيه.
“أيها الوغد، لقد نجوت بمفردك حتى الآن.”
ضغط فرودي على أسنانه وهو ينفث ما تبقى من طاقة ليخت بطاقته هو.
‘تبًّا… لو أنّني كنت أوّل من وجدها في ذلك الوقت.’
ما جرى منذ مئة عام لا يزال يؤرّقه.
أخذ العقد الذي يتدلّى من عنقه يطنّ فجأة. بدا أنّ متعاقده يستدعِيه. أمسك فرودي بالعقد وحدّق ببرود نحو الجهة التي اختفى فيها ليخت.
“سنرى إلى أيّ مدى ستظلّ ترفع أنفك وتحتقرني.”
لم يكن قد سلّم بعد بنتيجة المعركة التي جرت منذ مئة عام.
***
استغرقت عملية ‘إغاثة’ القرية وقتًا أطول مما كان متوقعًا. ولكن تلك الليلة وحدها كانت كافية لشفاء الوباء. وكان ذلك كله بفضل جهود الكهنة الثلاثة الذين أقسموا لي أن أثق بهم.
غير أنّ سبب طول الإغاثة كان ما تلا ذلك. إذ تولّى أطبّاء القرية وحدهم معالجة ما خلّفته العدوى الجلدية من جراح، وما أحدثه تقيؤ الدماء من حموضة مؤلمة.
ولم يكن ثمّة بدّ من أن يستغرق العلاج وقتًا طويلًا، إذ لم يكن في القرية سوى طبيبين اثنين. وعلى أيّ حال، ولأنني لم أكن منشغلًة بغير ذلك، ذهبت أساعد الطبيب بما وسعني.
استمرّ العلاج ثلاثة أيام. وبعد أن جُلت مع الطبيب ليلًا ونهارًا، نلت راحة في اليوم الرابع. ونمت أربعًا وعشرين ساعة كاملة. كان نومًا عميقًا حتى لم أرَ فيه حلمًا.
“أونغ…”
ربّما كان كيلبر قد ظلّ إلى جانبي طول فترة نومي، إذ ما إن أفقت حتى اقترب مني ملوّحًا بذيله برفق.
“همم، لقد استيقظت.”
خرج صوت أجش من فمي.
“آه…”
“هينغ… أونغ.”
“لا، لست مريضة. إنما جائعة.”
داعبت رأس كيلبر الظريف وزحفت من السرير. ورغم أنّني ضيّعت يومًا كاملًا في النوم، ما زال التعب يثقلني.
‘آه، كم أكره ان أكون مريضة…’
تأوهتُ بسبب تيبّس كتفيّ وساقيّ.
‘لن أفعل شيئًا بعد الآن.’
لقد ساعدت الأطباء لأنني لم أستطع أن أقول ببساطة: “أترك الباقي لكم!” بعد أن كنت شاهدة على اندلاع الأزمة. لكنّ الوضع قد هدأ الآن.
‘أرجو فقط أن أولئك الكهنة المتعصبين لم يتحدثوا عنّي…’
كلما كانت المحنة أشدّ، قويت التعلّقات الدينية. خصوصًا إذا كان الجميع قد ‘أُغيثوا’ بيد كهنة القمر. الشكر والودّ بقدرٍ مقبول نعمة، أما الحبّ المهووس فعبء ثقيل.
‘ها… لا يصلح لي أن أرهق جسدي هكذا في سبيل سلام الآخرين.’
نقرت بلساني وخرجت من الغرفة بجسدي المكدود. وما إن فتحت الباب حتى انتفض كتفي دهشة. كنت فخورة أنني لم أصرخ من المفاجأة.
“ما… ماذا تفعلون هنا؟”
كان جمع من الناس أمام بابي مباشرة. ليخت متكئ على الجدار أمامه، وكبير الخدم تانما واقف بجواره شامخًا، بل وحتى ليندن جاثٍ بالقرب منه.
“هووف!”
كيلبر الذي خرج معي دفعني باتجاه ليخت. غير أنّ أحدهم اعترض طريقي قبل أن أصل إليه.
“ميليارا!”
قفز ليندن من مكانه وأمسك بكتفي.
“هل أنتِ بخير؟ ألستِ مريضة؟”
“أنـ، أنا بخير، سوى أنّني أشعر بالوهن بعد نوم طويل.”
“حقًّا؟ ألستِ مصابة بحمّى؟”
وضع ظهر يده على جبيني، كأنّه لم يصدّقني.
“ما عدا جوعي، فأنا بخير فعلًا.”
“هل من يشعر بالعافية ينام طوال هذا الوقت؟”
“ذلك…”
لم أعلم أنّ خبري سينتشر هكذا…
“لقد كنتُ مرهقة أصلًا بسبب دُوار السفر، وأظنّ ما جرى قد تلاحق دون أن ألتقط أنفاسي.”
بالفعل، لقد كانت عشرة أيام عاصفة. بعد أن فُسخت خطبتي ونُبذت من عائلتي، غادرت القصر ولقيت ليخت وليندن، وصادف أن توقّفت في قرية تفشّى فيها وباء بسبب دُواري. ثمّ ظهر الكهنة فجأة. وبعدها، هرولت مع الطبيب لعلاج الناس. لم يكن هنالك ساعة، ولا حتى لحظة راحة.
‘العجيب أنّنني لم أفقد الوعي من قبل من فرط الإجهاد.’
لو أنّ الكهنة لم يأتوا لشفاء الوباء، لربّما نزفتُ من أنفي. ارتعشت كتفاي من هول تلك الصورة.
‘أوه صحيح، ليندن…’
شعر ليندن باهتزازي، وما زال قابضًا على كتفي.
“انظري، لا بدّ أنّك لست على ما يرام.”
حدّق بوجهي بقلق والدموع في عينيه. صدقًا، كان شحوبه أشدّ إقلاقًا من حالي.
“المسألة فيك أنت، لا في الآخرين.”
تمتم بأسى.
“ليتني كنت أعلم سحر الشفاء…”
هززت رأسي سريعًا أمام تلك الكآبة التي كادت تبتلعه.
“انسَ الأمر، أيّ شفاء وأيّ همّ! أنا قويّة!”
رفعت ذراعيّ لأستعرض عضلات غير موجودة.
كان سحر الشفاء من الفنون التي تعمّد ليندن ألّا يتعلّمها. إذ ظنّ أنّه لو اكتشف موهبته السحرية أبكر، لكان تعلّم الشفاء وأنقذ أمّه من السم. لكنّ تلك الحادثة شوّهت قلبه تمامًا.
بدلًا من أن يندفع إلى تعلّم الشفاء خشية تكرار المأساة، آثر أن يُعرض عنه ليمحو غصّته القديمة.
وعلى أيّ حال، لم تستطع أمّه النجاة. فكان هذا عزاءه الوحيد. كلمات كهذه لم تكن إلا نبشًا في جراحه، فسارعت إلى مواساته.
“لو كان الأمر ضروريًّا لتكفّل به الأطباء والكهنة، أليس كذلك؟”
لم يكن من اللائق أن أثير صدمته لمجرد أنّني كنت أعاني.
“ذاك…”
“إنه مجرّد تعب. أليس يصيبك الإرهاق حين تفرط في العمل؟ الأمر كذلك.”
شرحت مرارًا أنّني لست مريضة. ومع ذلك، ظلّ وجه ليندن يعكس قلقًا. لقد بدا مقنعًا إلى درجة جعلتني أرتاب أهو خداع منه ليستدرجني، أم أنه جاد بالفعل؟ كما فعل تلك الليلة حين توسّل أن أُريه المزيد من قوتي الإلهية.
‘إنه ببساطة بارع جدًا في التمثيل…’
حين قرأت ذلك في الرواية فقط، استغربت وقلت: “كيف يصدق الناس هذا وهم يعلمون أنّه يستغل جماله؟” أما الآن فقد فهمت. فليس جماله وحده، بل عيناه وتعابيره وحركاته… كل ذلك كان أسرًا كاملًا يجذبني إلى شباكه.
“أنا بخير. صدقني.”
أردت أن أبتعد قليلًا لأتنفّس، لكن يده لم تفكّ قبضتها عن كتفي. رفعت يدي لأفصله عنّي، غير أنّ يدًا أخرى أمسكت بمعصمي فجأة.
كانت يدًا دافئة، أزاحت ذراع ليندن عني وجذبتني نحوها. لم تكن قوّتها شديدة، ومع ذلك انجرفت جسدي معها كما يجرف الماء.
بلوب—
وسقطت في عطرٍ مألوف لي. كان العناق واسعًا وحنونًا، أكثر راحة من أي بطانية غطّيت بها يومًا. وصوت عميق عذب، قادر على إذابة كل تعب، همس في أذني:
“لا تجهدي نفسك.”
لم تكن عبارة نادرة، لكنّها، إذ غُمست بدفء المشاعر، انسابت إلى قلبي رقيقة.
“إن كان الأمرُ صعباً، فلا بأسَ أن تتذمّري.”
ثومب… ثومب… ثومب…
قفز قلبي حتى كاد يخرق السماء.
إن كان الأمر فوق طاقتك، فلا بأس أن تشكي.
لقد كانت عبارة تمنّيت سماعها منذ طفولتي، ولم يقلها أحد قطّ.
“حتى وإن كنتِ أنتِ، فلا بأس.”
وفي تلك اللحظة، انفجرت دموعي التي لم أعد أحتمل حبسها، وانهالت بغزارة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات