ظلت إيفيريا تحدّق فيه مطولًا قبل أن تمسك مجددًا بأدوات الطعام.
لم يكن الجوّ المحيط بها، المليء بالأنظار الموجهة نحوهما، مريحًا على الإطلاق. والأسوأ أنها لم تعد قادرةً على الحفاظ على هدوئها واتزانها كما في العادة.
كان لديها شعورٌ قوي بأنها إن بقيت هنا أكثر فستقع في خطأ لا يمكن التراجع عنه. فقررت أن تُنهي طعامها بسرعة وتعود إلى غرفتها فورًا.
لكن خططها تلك انهارت بكلمةٍ واحدة غير متوقعة من إيرميت.
“لو كان عليكِ أن تختاري بين أمرين…..فماذا ستختارين؟”
…..ما الذي يقصده بحق؟
رمقته إيفيريا بنظرةٍ حادة تحمل بضع ذرات من الضيق. أعصابها المشدودة أصلًا كانت تزداد توترًا كلما أشعل إيرميت نارها بمثل هذه الأسئلة.
في الأوقات العادية، لاعتبرتها مجرد مزحةٍ ثقيلة الظل، لكنها الآن لم تستطع إلا أن تُحمّل كل كلمةٍ منه معنًى مبطنًا. فشعرت بالغثيان يتصاعد في صدرها.
أيعقل أنه يريد الانفصال عنها؟ هل لهذا السبب يطرح عليها مثل هذه الأسئلة العبثية؟
رفعت يدها اليسرى لتدلك صدغها.
رأسها كان يؤلمها بشدة، وعيناها توشكان على الانفجار من الإرهاق. منذ أيام وهي بالكاد تنام خوفًا من أن تنفلت طاقتها الذهنية إن فقدت السيطرة عليها.
وبصوتٍ خافت خالٍ من الانفعال، انطلقت من شفتيها جملة لم تدرك حتى كيف خرجت،
“…..أريد الانفصال.”
ساد صمتٌ قصير.
يا إلهي…..ماذا قلتُ للتو؟
اتسعت عيناها قليلًا وهي تحدق في إيرميت، فرأت في عينيه البنفسجيتين بريق دهشةٍ ممزوجًا بارتباكٍ واضح. و لم تنعكس مشاعره في صوته، لكن الرطوبة في عينيه قالت كل شيء.
لقد كانت كلماتها قاسيةً كفاية لتُحدث جرحًا.
حتى لو اختار هو الانفصال في مثل هذا الموقف، فستبقى هناك فهوّةٌ عاطفية بينهما. فأن تختار الانقطاع بدل الاستمرار يعني الكثير.
كان من المفترض أن يغضب، لكن إيرميت اكتفى بابتسامةٍ هادئة.
فبحثت إيفيريا عن كلماتٍ تدعم ما قالته، وكأنها تحاول تبرير اندفاعها.
وضع يده تحت ذقنه وأصغى إليها دون مقاطعة، وكأنه يمنحها فرصةً لتفسير ما تعنيه. فواصلت هي بتوترٍ ظاهر،
“أما الخطوبة أو الزواج…..فهي أمورٌ يعرفها الجميع، يجب أن يعرفها الجميع. لكن الانفصال يمكن أن يحدث بهدوءٍ بين شخصين، ثم ربما يعودان بهدوءٍ أيضًا..…”
ضغطت بأطراف أصابعها الباردة على الطاولة. و كان صوتها يرتجف ويتقطع في بعض المواضع، لدرجة أنها نفسها وجدته بائسًا.
ومع ذلك ظل إيرميت صامتًا.
ما الذي عليها فعله الآن؟ هل تعتذر؟ هل تبرر أنها لم تكن تقصد ما قالته؟
كانت مشوشةً كما لو واجهت مسألةً لم ترَ مثلها في حياتها من قبل، بل أشدّ ارتباكًا من ذلك.
فتحت فمها لتقول شيئًا، لكن إيرميت سبقها بصوته الهادئ،
“…..هل نغيّر المكان قليلًا؟”
أغمضت عينيها بإحكام، وقد شحب وجهها تمامًا، ثم فتحتهما ببطء.
لم تعرف كيف خرجت من المطعم. فقد شعرت وكأنها تتحرك داخل حلمٍ ضبابي لا تميّز فيه بين الواقع والخيال.
انتقلا معًا إلى غرفة سيد برج السحر في أكاديمية لاكانيل. و كانت غرفة الأبحاث تلك أكثر الأماكن أمنًا وتحصينًا في الأكاديمية بأكملها.
ظاهريًا لم تختلف كثيرًا عن باقي القاعات والمختبرات، لذلك حتى لو سأل أحدهم عن سبب دخولهما إلى هناك، لكان من السهل القول أنهما دخلا أي غرفةٍ فارغة في المبنى.
صحيحٌ أن العذر بدا واهيًا، لكنه على الأقل لم يمنح أحدًا ذريعةً واضحة للشك.
ومع ذلك، حتى الشكوك البسيطة قد تصبح خيوطًا تربط أشياء أكبر.
تساءلت إيفيريا إن كان من الصواب أن تلتقي سيد البرج بهذه الطريقة، ثم قطّبت حاجبيها كارهةً لنفسها.
دخل الاثنان إلى المختبر. وقد كانت التعويذات التي وضعها سيد البرج لا تزال فعالة.
جلست إيفيريا على أحد المقاعد دون أن تفكر حتى في إضاءة الأنوار. و كان رأسها يؤلمها بشدة حتى شعرت بوخزٍ خلف عينيها.
ثم أشعل إيرميت بضعة مصابيح صغيرة وجلس بجانبها.
كان أمامهما مقعدٌ آخر على الطرف المقابل للطاولة، فلماذا اختار الجلوس إلى جوارها بالذات؟
ارتجفت إيفيريا لا إراديًا وتراجعت قليلًا بجسدها. فأطلق إيرميت تنهيدةً قصيرة، ثم كسر السكون بصوته الهادئ الذي بدا هادئًا على نحوٍ غريب مقارنةً بالموقف.
“سألتكِ عن الخيارين لأنني كنت مترددًا حقًا.”
“…….”
“هناك طريقةٌ يمكنها أن تُخمد كل الكلام السيئ الدائر.”
طريقة؟ بدا في صوته ما لا يُبشّر بالراحة. فرفعت إيفيريا نظرها إليه، تحدق في عينيه المرتجتين بلون البنفسج الداكن. لم يكن فيهما أي أثرٍ للمزاح، وذلك ما أرعبها.
تابع كلامه بنبرةٍ عادية، كأنما يتحدث عن أمرٍ يومي تمامًا،
“أعتقد أن بإمكاني صنع شائعةٍ واحدة لتغطية أخرى. أليس هذا أكثر كفاءة؟”
كانت نبرته خفيفة، لكنها لم تكن مزاحًا.
وبمجرد أن سمعت تلك الجملة، تذكرت إيفيريا أقوى وأغرب شائعة كانت قد سمعتها عنه من قبل. شائعة خطوبته من الأميرة.
اتسعت عينا إيفيريا قليلًا، وتمنت في داخلها أن تكون قد أساءت الفهم.
إن كان إيرميت ينوي فض شائعة خطوبته من أجلها، فالعواقب حتمًا ستمتد إلى أسرة الدوق نيسبيروس.
لقد توسلت إليه من قبل ألا يتورط لأجلها حتى لا يُثقل كاهله وكاهل أسرته، فلا يمكن أن يكون جادًا.
لكن نادرًا ما كان حدسها يخطئ، وابتسامةٌ خفيفة على وجه إيرميت الذي كان ساكنًا حتى الآن أكدت ظنونها.
فأكمل بنبرةٍ هادئة،
“لقد حصلت على موافقة الطرف المعني، وأنا راغبٌ بذلك أيضًا، فلا مشكلة في الأمر.”
ما الذي يقوله هذا الإنسان الآن؟
شعرت إيفيريا بأن ضغط دمها يرتفع فجأة، فنهضت من مكانها بعنف، وما إن فتحت فمها لتتكلم حتى دار بها العالم.
تأرجح جسدها للحظة قبل أن يمسكها إيرميت بسرعة.
و ارتجفت، ورفعت عينيها فرأت في عينيه البنفسجيتين بريقًا يلمع تحت الضوء الخافت.
تأمل وجهها قليلًا ثم تحدّث بصوتٍ مشوبٍ بالقلق،
“إيفيريا، من الأفضل أن تجلسي.”
جلست كما لو أن جسدها قد انزلق إلى المقعد.
لم تجلس لأنها أرادت الاستماع إليه، بل لأنها شعرت أنها ستسقط إن لم تفعل.
ورغم إنهاكها الشديد، ظل عقلها يعمل بحدة غريبة، وكأنها بدأت تدرك أخيرًا السبب الذي جعله اليوم يطرح عليها ذلك السؤال الغريب بين خيارين.
كان ذلك إما لحمايتها تمامًا، أو لقطع صلتها به كليًا.
فإن هو ألغى خطوبته من الأميرة وهو على علاقةٍ بها كما الآن، فالسهم الذي سيُطلق عليه سيصيبها أيضًا.
فإيفيريا، في وضعها الحالي، ليست سوى فتاة من العامة، لا مكانة لها ولا سند. لكن إن أصبحت خطيبته رسميًا، فستنال حماية اسم دوقية نيسبيروس، ولن يجرؤ أحدٌ على المساس بها.
وإن لم يفعل، فعليه أن يضمن بوضوح ألا تُربط باسمه حين تنكسر تلك الخطوبة الملكية.
كانت كل هذه مجرد افتراضات، لكنها بدت لها منطقية أكثر مما أرادت أن تصدق.
وأيًا كان الخيار، فكلاهما متهور وسخيف.
فتحت إيفيريا شفتيها المرتجفتين و تحدّثت بصوتٍ خافت،
“لا، يا سيد. أرجوكَ، لا تفعل شيئًا.”
“لماذا؟”
سألها إيرميت، وكان مجرد صدى سؤاله كافيًا ليجعل رأسها يؤلمها أكثر، لكنها وجدت نفسها مضطرةً لتفسير الموقف.
لم تر بعد أي خبر رسمي عن خطوبته من الأميرة، أي أنه لم يرتكب بعد ما لا يمكن التراجع عنه. و ما زال بالإمكان إيقافه.
حاولت التفكير بهدوء في الأسباب التي تمنعه من كسر تلك الشائعة، لكن أنفاسها راحت ترتجف، وأفكارها تشتبك ببعضها كخيوطٍ متشابكة.
كان رأسها يضج بالدوار، وكأنها لو فقدت السيطرة لحظة واحدة لانفجر صراخها.
أما إيرميت فظل يحدق بوجهها الذي ازداد شحوبًا في الأيام الأخيرة. كل ما كافح ليغذيه ويعيد له بعض الحيوية اختفى في فترة وجيزة.
وبينما كان يهم بإشعال الأضواء الكاملة في الغرفة، سمع صوتها الواهن،
“هذا بلا معنى. ما لم تُمحَ المشكلة من جذورها وتُدحض الشائعة نفسها، فكل ما تفعله سيكون عبثًا يا سيد، وأنتَ تعلم ذلك.”
“ولمَ هو بلا معنى؟”
قال ذلك وهو يعود للجلوس أمامها، بنظرةٍ صافية لا تحمل إلا الفضول الحقيقي، فشعرت إيفيريا بوخزٍ غامض في صدرها.
بلى، كان للأمر معنى ما — كتمويهٍ مؤقتٍ فقط — لكنه لم يكن يستحق التضحيات التي سيتكبدها هو من أجلها.
أخذت نفسًا مرتجفًا وحاولت تهدئة صوتها. فإن حافظا على هدوئهما، كما في العادة، ربما سينتهي الحديث بسلام.
“يا سيد، هذا ثمنٌ باهظ لحلٍّ مؤقت.”
شعرت بانقباضٍ في صدرها، فدفعت بقوة موجة الطاقة الذهنية التي كانت تتصاعد داخلها، وأجبرتها على التراجع.
صحيحٌ أن الغرفة كانت محميةً بسحر سيد البرج، لكن وجود إيرميت بجوارها جعلها تخشى إظهار أي اضطراب روحي أمامه.
كانت حركتها في تمشيط شعرها خشنة على غير عادتها. فراقبها إيرميت مليًّا، ثم تحدّث بنبرةٍ هادئة،
“أنا لا أفعل هذا لأنني لا أفهم العواقب، إيفيريا.”
“بل كأنكَ لا تحسبها إطلاقًا! احسبها، أرجوكَ، فقط هذه المرة!”
ارتفع صوتها على غير إرادتها.
كانت تحاول أن تحافظ على هدوء نبرتها، لكنها لم تستطع — و صوتها تصاعد شيئًا فشيئًا رغم إرادتها.
ومع أنها لم تصرخ فعلاً، إلا أن هذا القدر وحده من الانفعال كان نادرًا في حياتها.
وبعد أن أنهت كلامها، احمرّ طرف عينيها وعضّت على شفتها السفلى، تكاد تنفجر بكل ما كبتته من شعورٍ ومرارة.
نظر إليها إيرميت بعينين متسعتين قليلًا، وما إن التقت نظراتهما حتى ارتجفت بخفة.
ثم رسم ابتسامةً دافئة على شفتيه و ردّ بهدوء،
“على أية حال، سأحرص ألا تتضرر عائلة الدوق من هذا.”
لم تستطع أن تفهم. كيف يمكن أن ينفصل هو عن دوقيته، وهو وريثها المباشر؟
شعرت وكأنها تصطدم بجدارٍ لا يمكن تجاوزه.
كل خسارة يتكبدها إيرميت ستنعكس على دوقيته لا محالة، ومع ذلك كان يتحدث وكأن الفصل بينهما ممكن!
وكأنه قرأ أفكارها، واصل حديثه،
“الخطوبة أمرٌ شخصي بين فردين…..لم أُخلّ بوعدي لكِ يا إيفيريا.”
حدّقت به، وقد تلاشى كل أثرٍ للتعبير من وجهها.
‘هل تسخر مني الآن؟’
الخطوبة أمرٌ شخصي؟ هذا غير معقول. حتى هي، وهي ليست من النبلاء، تعرف كم ترتبط زيجاتهم بالسياسة والمصالح.
فتحدّثت بصوتٍ جامد يحمل يقينًا،
“سؤالكَ لي في البداية عن الخيارين…..كان من أجل هذا، أليس كذلك؟”
صمت إيرميت ولم يجب، واكتفى بابتسامةٍ صغيرة. وكان الصمت بحد ذاته اعترافًا. فتجمدت إيفيريا في مكانها، وارتسمت الدهشة على وجهها.
إن كانت علاقتها به قد أصبحت رسمية، ثم ألغى خطوبته من الأميرة، فإن العبء كله سيسقط على كاهله وكاهل أسرته.
كيف يمكنه أن ينطق بهذه الأفكار المتهورة دون أن يفكر في العواقب؟
شعرت بصداعٍ حاد يمزق رأسها، وانكمش وجهها ألمًا، غير قادرةٍ حتى على التفكير بوضوح.
______________________
تكفون تهاوشوا وقولوا يبي لنا وقت نفكر وكذا بس الا الانفصاااال حركات الدراما ينفصلون الحلقة 11 ذي مابيها
المهم ياعمري يا ايفيريا 😔 ايرميت صدق مجنون مسوي مايفهم
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 97"