حياة إيفيريا لم تكن سيئةً تمامًا في ظاهرها، لكنها كانت تسوء بثباتٍ وهدوء.

تأجّلت المباريات، ووجّه المتضررون من ذلك سخطهم نحو إيفيريا. فيما قلّةٌ من الناس صبّوا غضبهم على باتريك فارما الذي أثار الاعتراض منذ البداية.

لم تفهم إيفيريا كيف تحوّل المجرى على هذا النحو، لكنها كانت تعلم أن الناس حين يتكبدون الخسائر يبحثون دائمًا عن شخصٍ يلومونه.

لحسن الحظ، كان الوضع لا يزال قابلًا للتحمّل. و كانت تؤمن أنها ما دامت لم تتعرض لضررٍ ماديٍ أو مباشر، فبإمكانها الصمود إلى ما لا نهاية. فالمعاناة بسبب الشائعات تختلف عن العجز عن الاحتمال.

لكنها بدأت تسمع بعض الأحاديث السيئة تطال ريبيكا ريسفين، تلك التي كانت قد ساعدتها من قبل.

قالت لها ريبيكا ألا تهتم، لكن كيف يمكنها تجاهل أن أحدهم تضرر بسببها؟ كان ذلك مستحيلًا.

لحسن الحظ، خمدت الأقاويل حول ريبيكا سريعًا، ومع ذلك قررت إيفيريا ألا تطلب مساعدة أحدٍ ما لم يكن الموقف يسمح لها بتوضيح الحقيقة من جذورها. و حتى لو عرض أحدهم المساعدة، كانت تنوي رفضها.

في وقتٍ لم يكن فيه أحدٌ يمكن الاعتماد عليه، ولم يكن مسموحًا لها بالاتكاء على أحد، لم تُظهر إيفيريا أي علامةٍ تعب أو انهيار.

و كانت سينثيا، التي تلاحظ أدقّ التغيّرات فيها عادة، مشغولةٌ إلى حدٍّ لا يسمح لها برؤيتها كثيرًا، أما إيرميت فقد كانت إيفيريا قد حدّثته مسبقًا.

ما لم تطلب مساعدة الأميرة التي كانت قد عرضت يدها من قبل، فلن يورّط أحدٌ نفسه معها مجددًا — وهذا كان مطمئنًا.

وفوق ذلك، لم تكن الدراسة في الأكاديمية جاريةً حاليًا بسبب العطلة الدراسية، لذا لم يكن لديها الكثير لتفعله.

أصبحت إيفيريا مؤخرًا منشغلةً أكثر فأكثر بقراءة الصحف، لتتحقق من أخبار برج السحر وما إذا كان الوضع قد تحسن. و كانت تبذل جهدها لتتجاهل الرأي العام الذي ازداد سوءًا تجاهها.

ولم تمضِ فترةٌ طويلة حتى صادفت خبرًا مفاده أن سيد برج السحر طلب المصادقة على قانونٍ يمنع أيّ جهة من التدخل في شؤون البرج.

في الحقيقة، كان هذا القانون موجودًا في عهد السيد السابق لبرج السحر، قبل لوانس هيستيرون. غير أن الأفعال المثيرة لذلك السيد السابق دفعت كبار مسؤولي الدول المتضررة إلى الاتحاد وانتزاع تلك الصلاحية من البرج.

أما الآن، فالسيد الحالي للبرج طالب باستعادتها. 

و المراقبة الصارمة من القصر الإمبراطوري، والتحقيقات المتكررة التي لم تفضِ إلى شيءٍ ملموس، شكّلت ذريعةً مناسبة لتقديم الطلب.

لو لم يكن نفوذ الإمبراطورية حاكمًا في القارة، لعارضت الدول الأخرى استعادة البرج لحقوقه، لكن الواقع أن سلطة الإمبراطورية كانت طاغيةً إلى حدٍّ يجعل الجميع يميل للموافقة، ولو لمجرد موازنة القوة.

‘فقط القليل من الصبر بعد.’

كانت تقول ذلك لنفسها.…..مع أنها بالكاد صارت تتذكر من أجل ماذا تصبر أصلًا.

ففركت عينيها المتعبتين من قلّة النوم.

***

كانت التحقيقات تُجرى دوريًا. وكلّما حان موعدها، كانت إيفيريا تشعر بتوتر شديد، لأن مجرد تراخٍ بسيط في أعصابها كان كفيلًا بأن يفتح ثغرةً تتسرّب منها طاقتها الذهنية.

وبينما كانت تمشي خلف أحد الموظفين متجهةً إلى غرفة التحقيق، توقفت لحظةً وهي تلمح الخاتم الأسود في إصبعها.

كان منظر الخاتم مريبًا بما يكفي ليثير الشك إن رآه أحد بعين الريبة. و فكرت أنه حتى لو طُلب منها نزعه، فعليها ألا تُظهر ارتباكًا. 

في وضعها غير المستقر الحالي، لم تكن تعرف ما العواقب لو فقدت الخاتم، لكن الأهم هو تجاوز الخطر الآني.

عادةً، كانت مثل هذه التحقيقات تبدأ بتفتيش مقتنيات الشخص، غير أن إيفيريا لم تُفتَّش غرفتها أو ممتلكاتها حتى الآن.

في السابق، كانت التحقيقات تُجرى بصرامةٍ فور انتهاء المباريات، لكن لأن حالات الغش الواضحة كانت نادرة، خُفِّف الإجراء بعد تغيير مدير الأكاديمية. لذا أصبحت التحقيقات شكليةً أكثر منها واقعية.

لكن لم يسبق أن وصل الموقف إلى هذا الحد من التعقيد — على الأقل في ذاكرة إيفيريا. و لم تكن تعرف كيف ستُجرى التحقيقات هذه المرة ولا إلى أي مدى ستصل.

لحسن الحظ، كانت هي من طلبت الاتصال ببرج السحر بنفسها، ولهذا السبب ربما، ظل هناك عددٌ غير قليل من الناس يؤمنون ببراءتها. و لم تنقلب الكفة كليًا ضدها بعد.

دخلت إيفيريا قاعة التحقيق المضيئة بعد أن اجتازت ممرًا طويلاً. و وما إن أمسكت بالكرسي لتجلس حتى أحست بدوار خفيف، فشدّت قبضتها على المقعد لتستعيد توازنها.

لاحظ المرافق توقفها المفاجئ، وحدّق فيها بقلق، رافعًا يده بارتباك خشية أن تنهار أمامه.

أغمضت عينيها لبرهة ثم فتحتهما، فاختفى الدوار لحسن الحظ. 

ثم أومأت له بابتسامة صغيرة وجلست في مكانها، تضبط طاقتها الذهنية التي حاولت الانفلات مجددًا، عندها شعرت بوجود شخصٍ آخر يدخل الغرفة.

لم يكن مختصًا بالسحر، هذا بدا واضحًا من أول نظرة. فاعتدلت إيفيريا في جلستها بعد أن كانت متراخية قليلًا.

يبدو أن الرجل سيتولى طرح الأسئلة عليها ثم يرسل ما يسجله لتحليله من قبل جهة أخرى.

خضعت من قبل لعدة تحقيقات، لكن لم يسبق أن حضر خبير سحر أثناءها. و ظنت إيفيريا أن وجوده ربما يعني نية إجراء تحقيقٍ إضافي لاحقًا إن ظهرت نقاطٌ غامضة أو أسئلة تحتاج إلى تعمّق.

ثم أحسّت إيفيريا فجأة بألم حادّ يطعن صدغيها. و عضّت بقوة على باطن شفتها، فحين شعر جسدها بألم في موضع آخر، خفّت وطأة الصداع قليلًا.

كان وجهها قد شحب حتى البياض. 

لم تكن ملامحها يومًا تدل على صحة جيدة، وزادت همسات الناس من حولها مؤخرًا من عزلتها، حتى غدت بشرتها أكثر شحوبًا من أثر قلة النوم والضغوط المتراكمة، وكأنها على وشك الانهيار في أي لحظة.

فسألها الموظف الذي كان يرتب الأوراق التي تضم الأسئلة الأساسية بنبرة يغلبها القلق،

“هل أنتِ بخير؟”

“…..وجهي يبدو هكذا دائمًا، لذا يكثر قلق من حولي. لا تقلقوا، يمكنني التعاون مع التحقيق بكل أمانة.”

لم تكن صادقةً تمامًا بشأن لون وجهها، لكنها لم تكذب حين قالت إن الآخرين يقلقون عليها كثيرًا. كما أنها كانت صادقةً في قدرتها على إتمام التحقيق.

لو قالت الآن أنها مريضة، فربما ستملأ الصحف غدًا بخبرٍ عنوانه: «إيفيريا ديل ترفض الخضوع للتحقيق بحجة حالتهاالصحية».

ضغطت وجنتيها براحة يديها لتستعيد شيئًا من اللون في وجهها.

و بدأت الأسئلة بعباراتٍ بسيطة بدافع القلق، ثم انسابت تدريجيًا نحو القضية والشائعات، وحتى تفاصيل حياتها اليومية. وقد أجابت إيفيريا بدقة وهدوء، بكل إخلاص.

كانت معظم الأسئلة من النوع الذي يسهل الردّ عليه بلا حرج. 

مثلًا: أين كانت تقضي أوقاتها خارج الدروس الأكاديمية؟ وهل أجرت فحصًا سحريًا في برج السحر العام الماضي حين كان يُطلب من الطلاب أداء مهام بديلة؟ — أسئلةٌ بدت تافهةً في ظاهرها لكنها كثيرة.

ومع ذلك، حفظت إيفيريا كل سؤال في ذهنها كمن يدون الملاحظات. و كانت تفكر أنه بما أن لديها وقتٌ كافٍ هذه الأيام، فستراجع لاحقًا مغزى تلك الأسئلة وسياقها وأهدافها الحقيقية.

ثم تحدّث  الموظف الذي كان يسجّل إجاباتها وكأنه يتحدث عرضًا،

“القضية المسجلة تتعلق بالاشتباه في زيادة الطاقة السحرية، لذا إن أرسل برج السحر وفدًا للتحقق، قد نعيد إجراء الفحص.”

“نعم، فهمت.”

كانت تعلم أن من يملكون القدرة على إجراء فحص طاقة سحرية دقيقٌ نادرون جدًا.

لم يكن لزامًا أن يقوم سيد البرج بذلك بنفسه، لكن عملية الفحص تتطلب إحضار أحجارٍ سحرية خاصة من البرج واستدعاء أحد كبار السحرة، أي أنها تحتاج إلى موافقةٍ رسمية من سيد البرج ذاته.

وبحكم عملها السابق لفترةٍ قصيرة في البرج، كانت تعرف جيدًا كيف تُدار الأمور هناك.

إن سارت الإجراءات كما هو معتاد، وظل وضع البرج مستقرًا، فقد تُحل المسألة بسلاسة.

قبضت إيفيريا كفها ثم بسطتها مرارًا لتخفف توترها.

وفي أثناء محاولة الموظف إنهاء الجلسة، انتبهت إلى أن نظره توقف على الخاتم في إصبعها. و لاحظت هي ذلك فورًا لكنها تماسكت وأظهرت الهدوء.

و رفع بصره نحو وجهها، فبادلت نظره بعين ثابتة كما كانت منذ البداية.

ثم جاء سؤاله التالي.

“بالمناسبة، هل لذلك الخاتم معنى خاص؟”

“آه…..هل ترغب في أن أخلعه؟”

رمشت بعينيها وسألته بهدوء. و لم تكن قد فكرت مسبقًا في أي «معنى» للخاتم. وإن أصرّ بالسؤال عن رمزيته، فلن تعرف بماذا تجيب.

خطر ببالها احتمال ظهور مشكلاتٍ تتعلق بالخاتم، وكان ذلك أكثر ما يقلقها الآن.

مررت أناملها بخفة على الخاتم في سبابة يدها اليسرى. و لحسن الحظ، لم يواصل استجوابها حول معناه.

و بدلًا من ذلك، مدّ يده المغطاة بقفاز،

“من فضلكِ، سلّمينا الخاتم. سنعيده لك بعد انتهاء الفحص.”

“نعم، مفهوم.”

نزعت إيفيريا الخاتم بهدوء، حابسةً أنفاسها لئلا يظهر أي اضطراب. وما إن ابتعد الخاتم عن جسدها حتى هاجت طاقتها الذهنية المستقرة منذ حين، كأنها تحاول الإفلات.

حبست تلك الطاقة بكل ما تملك من إرادة، وابتسمت ابتسامةً متكلفة.

“…..أشعر وكأن يدي فارغة بدونه.”

أومأ الموظف قليلًا ووضع الخاتم في ظرف مغلق.

“إن لم نجد شيئًا مريبًا، فسيُعاد إليكِ خلال أيامٍ قليلة. وإن ظهرت مؤشراتٌ غامضة أو تعذّر تحليلها ضمن قدرات الأكاديمية، فسننتظر وصول مختصّين من البرج لإعادة الفحص، وقد يستغرق الأمر وقتًا أطول.”

“شكرًا على الإيضاح. آمل أن تكون النتائج دقيقةً وواضحة.”

فابتسمت إيفيريا برفق، وهي ترفع طرفي شفتيها بهدوء.

_________________

الحين صدق وش دخلهم اذا طلعت طاقتها من النوع الذهني وان سيد البرج ساعدها بدون يعلمون احد؟ 

بس يخوف و وناسه الحين شالت الخاتم يمكن ترجع ذكرياتها شوي شوي؟ هااااااهاعاعاعاهتهاها

بس ياليت سيد البرج يجي😔

Dana