عيناه الأرجوانيتان، الشبيهة بالأحجار الكريمة، راحتا تمسحان ملامح وجه إيفيريا بدقةٍ من زاويةٍ إلى أخرى، فيما كانت أنامله تنقر على الطاولة باضطرابٍ خافتٍ يوحي بتوتره.
تكلم بصوتٍ بدا أكثر صلابةً مما كان عليه قبل قليل.
“أنا أملك السلطة، ولدي القوة، يا إيفيريا.”
“أعلم ذلك. أعلمه جيدًا.”
أومأت إيفيريا برأسها، مدركةً أن إيرميت لم يقل ذلك بدافع التفاخر.
“ولدي أيضًا ما يكفي من المال لتعويض أي حادثٍ غير متوقع.”
“…….”
سيبدأ الآن بطرح ما في قلبه. فحدّقت إيفيريا في عينيه البنفسجيتين بصمتٍ يدل على الإصغاء.
وكما توقّعت، تابع كلامه دون تردّد.
“هل يمكنني أن أستعمل تلك القوة والمال…..لحل مشكلتكِ؟”
“لا، لا يمكنكَ.”
جاء ردها حاسمًا لا يقبل الجدل، فقد كان ما قاله سخيفًا إلى حدّ لا يُصدّق.
هل كان يُفكر في هذا طوال الوقت؟ هل كان يتردّد لأنه يعلم أنها سترفض؟
وضعت إيفيريا أدوات المائدة برفقٍ كي لا تُصدر صوتًا.
“كنتَ تعلم أنني سأقول لا، أليس كذلك؟”
“……نعم.”
تنفّس إيرميت بعمقٍ كما لو أنه يحاول تهدئة ضيقه الداخلي. فالأمر لم يكن بسيطًا أبدًا، إذ إنّ أي خطوةٍ خاطئةٍ قد تُلحق ضررًا جسيمًا بعائلة الدوق نيسبيروس.
كان عرضُه هذا كرمًا لا يُقابل، تضحيةً مصدرها عاطفةٌ صافية رغم المخاطر الكبيرة التي يحملها.
أما برج السحر، فكان له على الأقل رابطٌ منطقيّ معها، إذ إنّ لجوءها إليه أمرٌ لا مفرّ منه.
ومع ذلك، كان هذا وحده عبئًا ثقيلًا على روحها. فكيف يمكنها أن تقبل بمساندة إيرميت أيضًا؟
على الأقلّ، برج السحر هو المكان الذي ستنتمي إليه بعد تخرجها، ما دامت قدراتها لم تخبُ.
لكن إيرميت…..علاقته بها يمكن أن تنقطع في لحظة. كان من الصعب أن تمدّ يدها إليه حتى لو أرادت، فهو إيرميت نيسبيروس، البعيد عنها مثل نجمٍ في السماء.
ثم إنّ هذه القضية لا يمكن طمسها بالقوة والنفوذ. لا بدّ أن تنفجر مرةً واحدة على الأقل ليتم حلها حقًا.
قد يستطيع أن يُسكت الشائعات عنها، لكن السكوت وحده لا يحل المشكلة. ففي اللحظة التي يتدخل فيها باسم عائلة نيسبيروس، سيصبح هو وعائلته هدفًا للعبء نفسه الذي يلاحقها.
عضّت إيفيريا شفتها بشدة.
“رجاءً، لا تتدخل في الأمر.”
“…….”
“أرجوكَ، هذه قضيةٌ يجب أن أواجهها بنفسي. تدخلُكَ سيؤذيني أكثر مما سيساعدني.”
“……حسنًا، فهمت.”
عندها فقط زفرت إيفيريا زفرة ارتياح. فهي تعرف أنه رجلٌ لا يخالف كلمته، ولن يتدخل حاملًا اسم عائلته في قضيتها.
***
في صباح اليوم التالي، زار إيرميت مكان إقامة الأميرة.
كانت تشبه ولي العهد بشكلٍ مذهل، ومع ذلك استقبلته دون أي أثرٍ للدهشة، وأذنت له بالدخول إلى غرفتها.
جلسا على أريكتين وثيرتين وبينهما طاولةٌ صغيرة، تمامًا كما حدث حين زارتها إيفيريا من قبل، إذ استخدمت الأميرة سحرها لنقل إبريق الشاي والكؤوس إلى المائدة.
وضعت أمامهما أكوابٌ يتصاعد منها بخارٌ دافئ، وساد الصمت بينهما لحظةً طويلة. فحدّق إيرميت في الكوب أمامه بعينين هادئتين. و بدأت الأميرة الحديث أولًا.
“لم نلتقِ على انفراد منذ زمن. آخر مرة كانت…..العام الماضي، أليس كذلك؟”
“نعم، العام الماضي.”
بعد قدومه إلى أكاديمية لاكانيل، التقى الأميرة سيلينا مرّةً واحدةٍ فقط بسبب شائعاتٍ ربطت بينهما بخطبةٍ غير حقيقية، ومنذ ذلك الحين لم يزرها.
أومأت الأميرة برأسها وهي ترفع فنجانها لترتشف رشفةً خفيفة، ثم تابعت بنبرةٍ هادئة.
“وكيف هي حياتكَ في لاكانيل؟”
“أفضل من هوريتين. هناك…..الكثير من الأشخاص المزعجين.”
ابتسم إيرميت وهو يتحدث وكأنه يستثنيها من كلامه، فحدّقت به سيلينا بنظرةٍ تجمع بين السخرية والملل، ثم وضعت فنجانها دون أن تُحدث صوتًا.
“أنا أدرس في هوريتين، كما تعلم. كلامكَ صريحٌ أكثر من اللازم.”
“أعتذر، إنها عادة.”
كان جوابه وقحًا بقدر ما هو واثق.
لو كانت إيفيريا تملك مثل هذه الجرأة، لوجدتها سيلينا لطيفةً على الأقل، لكن يبدو أن بينهما تضادًا لا سبيل لتجاوزه، تضادًا في الطباع لا في المواقف.
حين كان الاثنان يدرسان في أكاديمية هوريتين، لم يتشاجرا يومًا ولم يؤذِ أحدهما الآخر، لكن إن سُئلا عن رأيهما في بعضهما فلن يصدر جوابٌ إيجابي.
غالبًا ما كانت الأميرة تكتفي بابتسامةٍ مبهمةٍ تتفادى بها السؤال، أما إيرميت فكان يقول: “كيف لي أن أجرؤ على الحكم على صاحبة السمو؟”
لسوء الحظ، كان في الأكاديمية من يحب أن يربط بين الأميرة سيلينا و إيرميت نيسبيروس الشاب، رغم أنه لم يكن بينهما أي تواصلٍ أو حتى ذكرٍ متبادل، مما جعل الأمر لغزًا بحد ذاته.
في الواقع، لم يكن ذلك أمرًا مفاجئًا. فالأميرة كانت أعلى الفتيات مكانةً في أكاديمية هوريتين، وكذلك كان إيرميت من بين أكثر طلابها الذكور مكانةً ونسبًا.
لذا، لم يكن غريبًا أن يربط الناس بينهما فقط لأنهما «الأرفع شأنًا» بين الجميع. بل إن مظهرهما الخارجي المتناسق جعل تلك الشائعات تبدو منطقيةً أكثر للآخرين.
غير أن الضرر الحقيقي من تلك الأحاديث وقع كاملًا على الأميرة و إيرميت نفسيهما.
إيرميت كان معتادًا على الشائعات، فلا تُزعجه كثيرًا، أما الأميرة — التي لم تُذكر يومًا إلا بالثناء — فقد وجدت في تلك الإشاعات نوعًا من الإهانة لا يُحتمل.
كانت ترغب في أن تقول بوضوح: “لأن أرتبط بمخلوقٍ من أعماق البحر أو بوحشٍ من حدود العالم خيرٌ لي من أن أرتبط بنيسبيروس”، لكنها لم تستطع أن تنطق بها، خشية أن يُعتبر ذلك إساءةً إلى عائلةٍ نبيلة مثل عائلة نيسبيروس.
ومهما حاولت نفي تلك العلاقة بالكلمات، لم يكن الناس ليتوقفوا عن إلصاقها بهما. وفي النهاية، أعلنت الأميرة أنها لا ترغب في الزواج أصلًا.
و لم تكن تكذب — فقد سئمت من عروض الزواج السخيفة التي كان الإمبراطور يفرضها عليها الواحد تلو الآخر — لكن تصريحها ذاك كان أيضًا درعًا تتقي به تلك الشائعات.
يقولون أن الأضداد ينجذبون، لكنهما كانا على طرفين متنافرين لا يلتقيان.
ويُقال أن الكره يولّد نوعًا من الألفة، غير أن ما بينهما كان فراغًا كاملًا من أي شعور، حتى من الكراهية ذاتها.
ولو قُدّر أن يعيش أحدهما بطعن الآخر، لما تردّدا لحظةً واحدة قبل أن يغرس كلٌ منهما خنجره في ظهر الآخر.
استعادت سيلينا في ذهنها ذكريات العام الماضي حين اضطرت إلى التعاون معه.
كان ذلك في الوقت الذي بدأ فيه الإمبراطور — فجأة — يتصرّف كأبٍ حنون، فيُغرقها بعروض الزواج التي لا تُطاق. عندها اقترب منها إيرميت، واتفقا على حلٍّ مؤقت: إشاعة خطبةٍ لا وجود لها.
قالا للإمبراطور أن الخطبة الرسمية ستتم بعد تخرجهما من الأكاديمية. و لم يصدق تمامًا، فاضطرا إلى نشر مقالٍ في الصحف وإلى زيارة القصر معًا لإقناعه.
وما زالت الأميرة تشعر بالقشعريرة كلما تذكّرت نظرات الطلبة وكل أولئك الذين تساءلوا بدهشة: ‘إذاً، الأمر حقيقي؟’.
كانت قد وافقت حينها على تلك المسرحية بدافعٍ من الغضب، لأن منظر الإمبراطور وهو يتظاهر بحب ابنته فجأةً أثار اشمئزازها، لكنها ندمت بعد ذلك. إذ لم تكن قد تخلّصت من ضغطٍ واحد إلا لتستبدله بما هو أشد.
مالت بجسدها قليلًا إلى الوراء متكئةً على ظهر الأريكة، محاولةً أن تبتعد قدر الإمكان عن إيرميت نيسبيروس الجالس أمامها.
وبابتسامةٍ رسمتها بإتقانٍ على وجهها، تحدّث بنبرةٍ رسمية.
“إذاً، لأيّ غرضٍ جئتم اليوم يا سيد نيسبيروس؟”
حان وقت الحديث الجاد. فتريّث إيرميت قليلًا قبل أن يجيب.
“سمعتُ أنكِ…..وجدتِ شخصًا تحبينه.”
“يا إلهي، الأخبار تنتشر سريعًا هذه الأيام.”
ردّت الأميرة ببرودٍ ساخر، بينما لم يُخفِ إيرميت ابتسامةً خفيفةً ارتسمت على شفتيه.
فالإشاعات حول علاقة الأميرة بشخصٍ آخر كانت قد بدأت تنتشر فعلًا، بل وكانت صحيحة.
لم يكن يعرف التفاصيل، ولم يهتم كثيرًا بشؤون القصر، لكنه استغرب أن الإمبراطور لم يتدخل بعد.
مهما يكن، فذلك لا يعنيه.
حرّك إيرميت الملعقة الفضية ببطءٍ في فنجان الشاي، ثم وضعها بهدوءٍ دون أن تُصدر صوتًا، ورفع بصره نحو الأميرة.
“ألم يُبدِ…..اعتراضًا على ذلك؟ أعني، الرجل الذي معكِ.”
“من يدري؟”
تجنّبت الأميرة الإجابة المباشرة.
كانت قد بدأت تفهم سبب زيارته، وذلك السؤال أكّد لها شكوكها.
انتظر إيرميت قليلًا قبل أن يطرح سؤاله التالي بصراحةٍ أكبر.
“هل أنتِ في وضعٍ لا يسمح لكِ بإنهاء إشاعة الخطوبة؟”
“……وهل حصلتَ على إذنٍ لكسرها؟”
خفض إيرميت نظره للحظة، ثم عاد يلتقي عينيها الرماديتين، عينين تشبهان سماءً ملبّدةً بالغيوم، تمامًا كعيني ولي العهد.
فقطّب حاجبيه قليلًا وردّ بنبرةٍ جادّة،
“إن كانت إشاعتي أنا، فهل أحتاج إلى إذنٍ لأُنهيها؟”
“وإن عرف الناس السبب الحقيقي؟ ألا بأس؟”
كان سؤالها يحمل أكثر مما قيل، فخطر له فورًا وجه إيفيريا. بينما كانت الأميرة قد أزالت عن وجهها أي أثرٍ للابتسامة.
ثم تابع إيرميت بصوتٍ أخفّ لكنه حاسم،
“أدركت مؤخرًا أن ما أملكه ليس السلطة والقوة فقط.”
“كم أنتَ متهوّر.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ ساخرة. كانت تعلم أن الطرف الأضعف في علاقة إيرميت وإيفيريا هو إيرميت نفسه، ومع ذلك كان يتصرّف باندفاعٍ غريب.
إن كسر إيرميت إشاعة الخطوبة، فسيؤدي ذلك إلى إسكات جزءٍ كبير من الشائعات التي تطارد إيفيريا.
لكن هل ستكون إيفيريا راضيةً بذلك؟ لا شكّ أنها ذكية بما يكفي لتفهم الترابط بين الأمرين، ولن يسعدها أن تُغطّى قضيتها بتضحيةٍ من هذا النوع.
ولو كانت سيلينا تحمل في قلبها أي مودةٍ حقيقية لإيرميت، لكانت حاولت منعه، لكنها لم تفعل.
“حسنًا إذاً، افعل ما تشاء.”
قالت ذلك وهي تبتسم ابتسامةً مشرقة على غير عادتها، فالأمر كله بدا لها مسلّيًا.
كانت تتطلع بشيءٍ من الفضول لترى إلى أين سيقوده اندفاعه، وكيف سيحاول تبرير مشاعره حين يكتشف أنها ليست مجرّد لعبة كلمات.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 94"