أجابت إيفيريا باقتضاب، دون أن ترفع نظرها عن دفتر الملاحظات الذي كانت قد جلبته معها.
258 عامًا، من تأسيس الإمبراطورية المقدسة الجديدة.
كانت ترفع الطعام إلى فمها بيد، وتقلب الصفحات باليد الأخرى.
نظر الأمير نيسبيروس إلى دفاترها نظرةً خاطفة، ثم ابتسم بعينيه بانقباض بسيط.
“قصة الحب بين القديسة الأولى وفارسها في الإمبراطورية المقدسة مشهورةٌ جدًا.”
“نعم.”
“استُلهم منها الكثير من الكتب، وصُنعت منها مسرحياتٌ عديدة.”
“نعم.”
“هل تودّين الذهاب لرؤية واحدة؟”
رفعت إيفيريا عينيها عن دفاترها ونظرت مباشرةً إلى وجهه. وكانت قد وضعت الشوكة جانبًا دون أن تنتبه.
لم يتبقَ على الامتحانات سوى أقل من ثلاثة أسابيع،
وفي الأحوال العادية، كانت لتعتبر ما قاله مزحةً وتنتهي المسألة عند هذا الحد، لكن بما أن الاقتراح جاء من الأمير نيسبيروس، لم تستطع اعتباره مجرد مزاح.
“أنا آسفة.”
أعطته رداً مؤدباً ومختصر.
قالت إيفيريا ذلك، ثم عادت تنظر إلى دفترها من جديد.
فرفع الأمير نيسبيروس حاجبه بإشارة عابثة، ثم أطلق تنهيدةً خفيفة. فتباطأت حركة إيفيريا في تناول الطعام قليلًا.
“قلت لكِ، لا تعتذري عن شيءٍ لم تخطئي فيه.”
لكن كيف لها أن تقول ببساطة أنها لا تملك وقتًا، أمام شخص رفيع الشأن، يصعب رفضه أصلًا؟
ارتجفت زاوية شفتيها. و كانت متوترةً لأقصى حد، تائهة بين قلة النوم والضغط المتراكم.
وهي نفسها كانت تدرك تمامًا حالتها.
كانت تعرف أنها لو قالت ما يدور في رأسها الآن، قد يريحها للحظة، لكنها ستندم لاحقًا، بلا شك.
كبتت كل ما بلغ حنجرتها من كلمات، ثم قلبت صفحةً أخرى من دفترها. بينما نظراتها أصبحت أكثر حدة، وسُمِع صوت احتكاك شوكتها بطبقها.
راقب الأمير نيسبيروس ارتباكها الصغير، ثم مد يده وساعدها بلطف في توجيه الشوكة نحو ما كانت تحاول التقاطه.
تابع شفتيها وهما تمضغان الطعام بعناد، ثم ألقى سؤالًا وكأنه يمر عابرًا،
“هل تسير الدراسة على ما يرام؟”
“نعم.”
“وهل بهذه الطريقة ستتمكنين من التغلب عليّ؟”
تماسكت إيفيريا بالكاد. لكن فكّها المنغلق بقوة كشف بوضوح عن مقدار الضيق والانزعاج الذي كانت تخبئه بصعوبة.
ابتلعت إيفيريا ما تبقّى في فمها من طعام، ثم رفعت نظرها نحوه بعينين باردتين.
“لا. ولهذا السبب تحديدًا، عليّ أن أدرس الآن.”
“ولِمَ لا تستطيعين الفوز؟”
ردّ عليها بابتسامةٍ خفيفة، تنحني بها شفتاه بهدوء مستفز. و تمنت إيفيريا من أعماقها أن تختفي تلك الابتسامة من أمامها إلى الأبد.
لكن بما أنه لن يرحل، لم يكن أمامها سوى أن تبعد نظرها عنه.
و لم تُجِب على سؤاله، بل اكتفت بالتحديق في دفاترها وكأنها على وشك تمزيقها. ثم بدأت في الأكل بسرعة أكبر من ذي قبل.
“ابذلي جهدكِ، حسنًا؟”
لم تعد تطيق أي شيء فيه، حتى صوته بات يثير فيها الغضب. فأمسكت بالشوكة بقوة حتى بان بياض مفاصلها.
إن أراد الجنون، فليجنّ كما يشاء، ولكن لماذا يصر على استفزاز غيره معه؟
وحين أنهت طبقها تمامًا، وقفت من مكانها دون أن ترد عليه بكلمة واحدة.
فراقبها وهي تبتعد بتلك الخطوات الحاسمة وظهرها البارد، وقد اختفت الابتسامة تمامًا من وجهه.
***
حتى أثناء الدراسة، كانت كلمات الأمير نيسبيروس تقفز إلى ذهنها فجأةً وتشتعل داخلها نارًا لا تُحتمل.
وفي كل مرة، كانت تمزق الأوراق بين يديها بعنف.
“هل ستستطيعين التفوق عليّ؟.”
عادت تلك الكلمات لتدوي في أذنيها، فابتسمت بسخرية من بين أسنانها.
كانت تعلم أن هناك طلابًا في الأكاديمية راهنوا على من سيكون الأول في هذا الامتحان. وكان بإمكانها أن تتخيل بسهولة ما يُقال عنها وسطهم من تعليقاتٍ سطحية ومليئة بالأحكام الجاهزة.
لكنها اختارت ألا تعرف التفاصيل، لأن الجهل بها أرحم من معرفتها. فما تسمعه رغماً عنها كان يكفيها لإغراقها في التوتر، والآن.
جاء الأمير نيسبيروس ليضيف فوق ذلك طبقةً أخرى من الضغط.
“سنرى.”
سنرى ماذا؟ وما الذي يمكنها فعله أساسًا؟
لا شيء.
أرخَت إيفيريا قبضتها، وبدأ رأسها ينبض بألم خافت.
حين فكّرت في الأمر، أدركت أنها لم تنَم لأكثر من خمس ساعات في الليلة منذ زمن بعيد. فاحتست جرعةً كاملة من مشروب الطاقة دفعةً واحدة، ثم ألقت الزجاجة الفارغة في سلة المهملات ونهضت من مقعدها.
ولسوء الحظ، كانت الورقة التي مزّقتها للتو آخر ورقة متبقية لديها. و كان عليها أن تنزل إلى الطابق الأول من السكن أو تذهب إلى غرفة الدراسة لتحصل على أوراق جديدة.
“آه، بحق…..ما هذا اليوم؟”
تمتمت بذلك وهي واقفةٌ أمام صندوق الأوراق في الطابق الأول من السكن، والذي كان فارغًا تمامًا.
لم يكن أمامها إلا أن تذهب إلى غرفة الدراسة. ولحسن الحظ، وجدت هناك كميةً وفيرة من الورق، فجمعت ما يكفيها ببطء وسارت بخطى ثقيلة.
كانت غرفة الدراسة تقع بين السكن المخصص للفتيات و السكن الخاص بالفتيان. وكان في الممر المحيط بها سورٌ منخفض، وبجانبه ممرٌ جانبي ضيق يؤدي إلى الخارج.
ومن خلف ذلك السور، بدأت تسمع أصواتًا، يبدو أن هناك من يقف في الجهة الأخرى.
أصواتٌ ساخرة، يتقاذفها الهواء حتى وصلت إلى أذنيها بوضوح.
أصواتٌ مألوفة إلى حدّ الكراهية.
كانت أصوات أولئك النبلاء الذين لطالما ازدرَتهم إيفيريا واحتقرتهم.
“إيفيريا ديل تعمل بجد، أليس كذلك؟”
“تفعل المستحيل كي لا يُسحب منها مركزها. تبدو خائفةً من التراجع في الترتيب.”
“أحيانًا، تشعر فعلاً أن الفقراء مساكين…..فهم مجبرون على الكفاح فقط ليعيشوا بالكاد.”
ثم انفجروا ضاحكين، مستمتعين بسخريتهم الفارغة.
من بين الأمور التي تأكدت منها إيفيريا بعد دخولها الأكاديمية، أن النبلاء ليسوا دومًا نبلاء في أخلاقهم.
و سواءً كان ذلك حسن حظ أو سوء حظ، فقد اعتادت على مثل هذا النوع من الكلام. فدائمًا ما كان هناك من يسخر من الطلاب الذين يجتهدون في فترة الامتحانات، بما فيهم هي.
ورغم أنها أصبحت تملك مناعةً نسبية تجاه تلك الكلمات، إلا أن الإنسان يظلّ إنسانًا، والكلام السيء يترك أثره مهما حاول تجاهله.
ومع مرور الوقت، بدأت تسمعهم يتحدثون عن طلاب فقراء آخرين.
‘يا لهم من تافهين…..’
كانت إيفيريا تنوي تجاهلهم والمضي في طريقها، لكن فجأة، اخترق أذنها تعليقٌ لاذع، ممزوجٌ بسخريةٍ جارحة، لم تستطع تجاهله.
“حتى لو درسوا وتعبوا، في النهاية سيعملون تحت أقدام النبلاء مثلنا بعد التخرج. فعلاً، أمرهم يثير الشفقة.”
توسعت عينا إيفيريا فجأة كمن سُكب عليه ماءٌ بارد. و قبضت على يدها بقوة، حتى انغرست أظافرها في كفّها، تاركةً جروحًا غائرة.
كان كلامهم صحيحًا.
صحيحٌ أن التخرج من الأكاديمية بتفوق أمرٌ مذهل،
لكن لتلميذةٍ مثل إيفيريا، وهي من عامة الشعب، يظل لذلك الإنجاز سقفٌ وحدود.
قد تجني المال لاحقًا، نعم، لكن من الصعب أن تتجاوز قيد الطبقة الاجتماعية، وحتى إن حققت شهرةً كعالمة، فستظل تُعرَّف بكونها من أصول متواضعة.
حتى على مستوى الإمبراطورية فقط، هناك عددٌ كبير من المؤسسات التعليمية، وإن نظرنا إلى القارة بأكملها، فثلاث أكاديميات مرموقة تشكّل قلب التعليم العالي،
وكل واحدة منها تخرّج سنويًا من هم قادرون على تعويض أي شخص.
و لا يهم ما تفعله، في النهاية ستكون تحت أقدامهم.
تحت أولئك النبلاء الذين تحتقرهم إيفيريا، الذين لا يملكون سوى النسب ويتبجحون به كأنهم يملكون العالم.
تلك الحقيقة…..وذلك الإحساس بأن كل الجهد في النهاية بلا جدوى، كان كفيلاً بأن يشعرها بالهزيمة.
‘لا.’
اهتزت عيناها حين واجهت هذا السؤال القديم الذي بدا وكأنه جديد.
لكن في الحقيقة…..لم يكن سؤالًا جديدًا. بل سؤالًا قديمًا دفنته، والآن فقط عاد ليطفو على السطح.
عضّت على شفتها السفلى حتى ابيضّت.
المشكلات موجودةٌ لكي تُحل. إذًا، حتى هذه المشكلة لا بد أن لها حلًا.
عليها أن تجد الجواب، وحتى إن لم تستطع إيجاد جواب واضح، فعلى الأقل…..أن تعيد ترتيب قلبها وتماسكها.
حملتا عيناها الزرقاوان شرارةً حارقة، كأنها تحدّق في الورقة أمامها بنية أن تُفنيها بنظرتها.
***
بعد ذلك، بدت حياة إيفيريا وكأنها عادت لسيرها الطبيعي.
تدرس كما كانت دائمًا، و تشرب جرعات التعافي وكأنها ماء، و تتلقى ضربات خفيفة من سينثيا كنوع من اللوم، وتتناول العشاء بصحبة الأمير نيسبيروس، وكأن شيئًا لم يتغير.
كلما فكّرت أكثر، شعرت وكأنها تغوص في متاهةٍ بلا نهاية.
والحقيقة أنها لم تكن تعرف بوضوح ما الذي تريده أصلًا، فكان طبيعيًّا أن تشعر بالضياع.
‘هل أفكر في الأمر بعد التخرج؟’
في أعماقها، كانت ترغب في الهرب فورًا. و العودة إلى الهدف الأول، العيش ببساطة، والعمل في شركة تجارية أو في بيت أحد النبلاء، وكسب دخل مناسب.
لم يكن خيارًا سيئًا.
‘لا.’
لكن…..أليس ذلك مجحفًا جدًا؟
تقلصت زوايا عيني إيفيريا بغضب مكبوت.
حتى الورقة الموضوعة أمامها امتلأت بالخربشات والرسومات العشوائية. و تحولت من صفحة ناصعة البياض إلى مساحة ملطّخة بالخطوط الغاضبة.
و حتى يداها تلطختا بالحبر، فذهبت لغسلها ثم استعدّت للعشاء.
كانت ترغب في تخطي الوجبة تمامًا، لكنها كانت تخشى أن يأتي الأمير نيسبيروس إلى سكنها إن لم تظهر، كما فعل سابقًا.
فجمعت دفتر ملاحظاتها بسرعة وتوجهت إلى قاعة الطعام.
وكالعادة، كان الأمير نيسبيروس واقفًا ينتظرها هناك.
“مرحبًا، إيفيريا.”
“مرحبًا.”
“تبدين متعبة.”
فكرت إيفيريا أنها بالفعل تبدو كذلك، فمن الطبيعي أن يبدو التعب على ملامحها في فترة الامتحانات.
نظرت إليه بعيون خالية من التفاعل، تشعر أن شيئًا ما في نفسها بدأ ينحرف عن توازنه.
و تأملت ملامحه للحظة ثم أومأت برأسها بشكل مبهم، وعادت تحدق في دفترها.
بغض النظر عمّا يدور في داخله، كلماته لا تفعل سوى تعقيد أفكارها أكثر، لذا قررت ألا تُوليها اهتمامًا.
و كعادته، تحدّث الأمير نيسبيروس بصوتٍ خفيف وهادئ.
“لا تعقّدي الأمور في رأسكِ.”
“حسنًا.”
“سواء فزتِ عليّ أم لا…..الأمر لا يهمني.”
“…..حسنًا.”
كانت إيفيريا ترغب في إخباره أن الأمر يعني لها الكثير،
لكنها تماسكت وحدّقت في دفترها بصمت. فقد تعلّمت من التجارب السابقة أن تجاهل كلماته هو الأفضل لصحتها النفسية وضغط دمها.
رغم أنها كانت تنظر للأسفل، إلا أنها شعرت بتوقف خطوات الأمير نيسبيروس، فتوقفت هي بدورها.
وعندما رفعت عينيها إليه، وكأنها تسأله “لماذا توقفت؟”، قابلها هو بابتسامةٍ راضية.
“فقط، ابذلي جهدكِ بقدر ما تستطيعين…..حتى لا تندمي على ما أُعطي لكِ.”
كادت إيفيريا أن تردّ، لكنها ما إن التقت نظراته حتى أغلقت فمها مجددًا. فعيناه كانتا جادتين بشكل نادر.
و رغم نبرة صوته التي ما زالت خفيفةً كنسيم، إلا أن كلماته دخلت إلى صدرها بثقل غير متوقع.
بل ربما كانت خفّة صوته بالذات هي ما جعلتها تصغي إليه أكثر.
ثم أخذت إيفيريا نفسًا عميقًا.
الأمير نيسبيروس…..كان يفقه وضعها أكثر مما ينبغي، بشكلٍ يكاد يكون مزعجًا.
____________________
ما اعطي لها؟ شكله صدق بينقص متعمد
النبلاء مقرفيييييين يع على قولتها نبلاء لقب مب اخلاق
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 9"