كانت سينثيا التي جلست بجانب إيفيريا قد غفت من تلقاء نفسها.
فخلعت إيفيريا معطفها وألقته فوق جسدها، ثم تركت ورقةً صغيرة بجانبها كتبت فيها أنها ستذهب لتناول العشاء وتعود. وأمسكت بدفتر صغير في يدها وهي تتجه نحو قاعة الطعام.
لم يكن بوسعها أن تتخلى عن العشاء مع إيرميت رغم ضيق وقتها، لذا رأت أن تستغل حتى وقت الطريق. لكنها ما إن اقتربت من المبنى الكبير حتى أغلقت الدفتر ووضعته في جيبها.
فهناك، على مقربة، ظهر شعره الفضي المألوف.
كان إيرميت أنيقاً كعادته. و بلا شعور رفعت إيفيريا يدها إلى شعرها ولملمته لتعيد ربطه.
التفت إيرميت نحوها وقد شعر بوجودها. بينما لمحت خصلات شعره الفضي التي كانت تلمع تحت أشعة الغروب وهي تهتز بخفة مع حركته.
“مرحباً.”
“مساء الخير.”
صار هذا التبادل البسيط بينهما مألوفاً جداً. فابتسمت إيفيريا ابتسامةً صغيرة وهي تتذكر أول مرة تناولت العشاء معه.
غمرتهما معاً أجواءٌ مريحة وهما يسيران إلى الداخل. ثم نظر إيرميت إلى وجهها وسأل بصوتٍ فيه قلق.
“……أنتِ تنامين هذه الأيام، أليس كذلك؟”
“نعم.”
النوم المتقطع لا يزال نوماً، ولهذا استطاعت أن تجيب بثقة.
لكنها تساءلت في داخلها: هل تبدو ملامحها متعبةً إلى هذا الحد؟
فرفعت يدها ولمست خدها بخفة.
في الصباح فقط، حين نظرت في المرآة، لاحظت بعض الظلال تحت عينيها، لكنها لم تكن بارزة. أم أن منظرها المرهق صار مألوفاً حتى لم تعد تراه؟
وأثناء تفكيرها بجدية في ذلك، طرح إيرميت سؤالاً آخر بنبرة حذرة، كأنه يخشى أن يجرح مشاعرها.
“هل تودين أن ندرس معاً؟”
“……ألن يزعجكَ ذلك؟”
رفعت إيفيريا بصرها إلى عينيه. فحتى لو جلسا معاً فلن تستطيع أن تقدّم له شيئاً. بل ربما كانت عقبةً أمام سرعة فهمه واستيعابه.
صحيحٌ أن درجاته في الأكاديمية لا تعني له شيئاً كبيراً، لكن مجرد أن يعرض ذلك لأجلها وحدها جعلها تشعر بالحرج.
غير أن إيرميت ابتسم بعينيه المنحنيتين، وكأنه التقط قلقها.
“لن يقول أحدٌ عنكِ شيئاً غريباً.”
“أنا…….لا أهتم.”
بدت كلماته محاولةً لطمأنتها، لكنها لم تلامس قلبها. فقالت ذلك بصوتٍ واضح، مؤكدةً أكثر.
“حتى لو قالوا شيئاً عني، لا بأس.”
“لكن أنا لا أحتمل ذلك. لا أريد أن أرى أحداً يتحدث عنكِ بطريقةٍ سيئة.”
كانت عبارته مباشرةً للغاية. فتسارعت رمشات عينيها، واحمرّت أذناها. و التقط إيرميت ذلك التغيّر في ملامحها ورسم ابتسامةً ماكرة، ثم أضاف،
“يبدو أنني أزداد تعلقاً بكِ كل يوم، ماذا أفعل؟”
“…….”
كان لدى إيرميت موهبةٌ عجيبة في قول كلماتٍ كفيلة بجعل القلب ينبض خجلاً لمجرد سماعها.
شدّت إيفيريا شفتيها ونظرت إليه نظرةً حادة كأنها تقول: كفى سخرية.……مع أنها، في أعماقها، أحبت سماعها.
وكأنه التقط خجلها المخفي، مال قليلاً نحوها. فبدت رموشه المضيئة نصف شِفّافة، وعيناه البنفسجيتان تتأملانها بصفاء، ووجهه المشرق بابتسامة هادئة أضفى على المكان جوّاً ساحراً.
“أحبكِ.”
دفنت إيفيريا وجهها بين كفيها، ولم يبقَ سوى أذنيها المشتعلتين بالحمرة.
كان قلبها ينبض كما لو أنها سكبت كميةً هائلة من الجرعات السحرية في جسدها، أو كما لو أنها ملأت معدتها بالكافيين دون وعي.
كان ينبض بسرعة جعلتها تخشى أن يتوقف فجأة.
ربما عليها أن تطلب منه أن يحجب ذلك الوجه قليلاً عندما يكونان وحدهما.
***
انقضى الوقت كالعاصفة.
بدت حياتها في الأكاديمية أشبه بفوضى متلاحقة. قكثرة المهام جعلت التنظيم بلا جدوى، وكل ما استطاعت فعله هو إنجاز ما يقع تحت يدها أولاً بأول.
كانت تلك أول مرةٍ في حياتها تخوض تجربةً بهذا الشكل.
و من حسن الحظ أن لا شيء من الواجبات التي يجب إنجازها قد نُسي.
ثم بدأت إيفيريا تشعر بالخوف من الامتحان الذي يقترب بسرعة. فحتى الآن والوقت ضيقٌ هكذا، لا تدري كيف ستجد وقتاً إضافياً للمذاكرة.
وبالإضافة إلى ذلك، بعد انتهاء الامتحان النصفي سيقام مهرجان أكاديمية لاكانيل. ونظراً لندرة مشاركة طلاب السنة الرابعة في مسابقات المهرجان، فثمة احتمالٌ كبير أن تكون هذه المرة آخر فرصةٍ لإيفيريا للمشاركة.
كانت تود أن تحقق نتيجةً جيدة أخيراً. ولكي يحدث ذلك لابد من التمرين، بالطبع.
‘…..إذا توفر الوقت سأتمرن، ويجب أن يتوافر الوقت..….’
تمنّت لو أن يومها يصبح 48 ساعة.
تدلّت إيفيريا على ظهر المقعد في الممشى كأنها منهكة. و أغمضت عينيها لكن أشعة الشمس استمرت تسطع في وجهها.
قوّست جبينها وفتحت الدفتر الذي بيدها لتغطي به وجهها. و في تلك اللحظة جلس بجانبها شخصٌ ما. بينما باغتها إحساسٌ مألوف، ورائحة مألوفة.
و لم تحتاج إيفيريا أن ترى وجهه لتعلم أنه إيرميت نفسه.
تركت فمها يتحرّك بلا وعي، فسُمع صدى صوتها يختفي بعضهُ خلف الدفتر.
“سيد، هلّا تبيع وقتكَ لي؟”
“لن أقبض ثمناً لذلك، خذي وقتي كلّه.”
أجاب إيرميت بابتسامةٍ خفيفة، فابتسمت هي أيضاً. فحتى هي فوجئت من كلامها، لكنه طوّق العبارة بلطف.
جلست إيفيريا مستقيمةً بعدما كانت مائلةً مُتعبة، وبقي الدفتر مغلقاً على ركبتيها.
اتجه بصرها نحو السماء البعيدة. و على هامش رؤيتها علت أوراق الشجر بألوانها البهيّة.
اليوم الجو رائعٌ للغاية، والسماء صافيةٌ في هذا الخريف الدامغ.
بينما كانت إيفيريا، المأخوذة بندرةِ لحظات التأمل هذه، تستسلم قليلاً للتفكير، طرَح إيرميت سؤالاً.
“هل ستشاركين في المسابقة هذا العام؟”
“نعم.”
جاء جواب إيفيريا حازماً بشكل ملحوظ. فاستدرك إيرميت نظرة السماء التي كانت تنظر إليها هي.
لم يكن في الأفق أي غيوم؛ و كان الأزرق صافياً وعميقاً كقلب عيني إيفيريا.
كتم إيرميت سرّاً وأغلق شفتيه قليلاً.
ربط بالمنافسة شعورٌ بالقلق، لكن خوفه لم يمنعه من دعم تحديها.
كان يعلم أن هذه السنة قد تكون آخر فرصةٍ حقيقية لهما للمشاركة في مهرجان أكاديمية لاكانيل، فمشاركة ولي العهد في العام الماضي كانت حالةً استثنائية.
أراد أن تتألّق مشاركتها الأخيرة. ومع ذلك، تحدّث بصعوبة وبإخلاص،
“…..لا تتأذي.”
و لم تُظهر إيفيريا تفاعلاً كبيراً تجاه تلك الكلمات.
“هذا ليس بيدي..…”
فضحك إيرميت ضحكةً خفيفة.
كما كان متوقعاً، إيفيريا لم تعد تعِدُ بوعودٍ لا تستطيع الوفاء بها.
كانت تنظر الى عينيه خلسةً بينما تظل راسخة، ثم أضافت بابتسامة محرجة.
“سأبذل جهدي على أي حال.”
“وإذا سقطتِ مجدداً فأين سأحتجزكِ؟”
بدت كلماته نصف مازحاً ونصف جادّ. و تظاهر إيرميت بالصرامة بينما التفّ بوجهها إليه.
“لأنني سأحبسكِ وأطعِمك طوال اليوم.”
“…..هل تريد قتلي؟”
“مستحيل.”
تجمدت ملامح إيفيريا للحظة، فأجاب هو ببرودٍ ماكر.
رفع إيرميت حاجبه وأشار بعينيه نحو الدفتر كأنه يأمرها بالمذاكرة، فيما ارتسم على شفتيه انحناءٌ سلس.
حاولت إيفيريا أن تضع الدفتر بينهما بمعنى أن يقرآ معاً، لكنه رفض، فاضطرت أن تضعه فوق ركبتيها.
وضعت يدها على جبينها للحظة، ثم حوّلت نظرها عن إيرميت وبدأت تقرأ الدفتر.
جلسة مستقيمة، برأسٍ مائل قليلاً، وخصلات شعرها تتمايل مع النسيم. و هو، طوال وقتٍ غير قصير، ظل يتأمل جانب وجهها بصمت.
كانت تشعر بنظرته طوال الوقت، لكنها تعمّدت ألا ترفع عينيها عن الدفتر. فلو وقعت عيناها في عينيه، لن تستطيع بعدها أن تركز على الإطلاق.
بجهدٍ بالغ تمكنت إيفيريا من أن تنسى وجوده نصف نسيان. و لا تدري كم مرّ من الوقت، لكن بعد انغماسٍ طويل في الدراسة أرجعت رأسها للخلف ببطء.
كانت ملامحه مشبعةً بعِتابٍ طفولي مازح. ففلت من شفتيها صوتٌ قصير.
“آه.”
“تبدين وكأنكِ نسيتِني.”
كان يسند ذقنه على كفيه، مظهراً امتعاضه بشكلٍ مبالغ فيه. فأخذت عينا إيفيريا تدوران هنا وهناك، وغمرها فجأة شعورٌ بالذنب وكأنها ارتكبت خطأً شنيعاً.
فقد كانت حقاً قد نسيته لبرهة. صحيحٌ أن التركيز في الدراسة يقتضي تجاهل وجوده، لكنها مع ذلك شعرت بالذنب.
نهض إيرميت فجأةً ووقف أمامها. وقد بدا أن الفارق في إحساسهما لم يكن شيئاً يمكن تجنبه.
“هيا. سأوصلكِ.”
أطاعته إيفيريا بهدوء وتبعته.
كانت في الأصل تنوي العودة إلى غرفتها، لكنها في تلك اللحظة قررت أن تذهب حيثما يأخذها إيرميت.
كان يمشي بخطوةٍ أسبق منها، وهي تتبعه بنصف خطوةٍ متأخرة.
حتى أن أعين بعض الطلاب اللذين صادفوهما اتسعت بدهشة عند رؤيتهما معاً، لكنهم لم يبدوا الكثير من الضجيج لفرط ما كانوا متعبين.
أما إيفيريا، فلم تهتم لنظراتهم، بل اكتفت بالتحديق في جانب وجه إيرميت الذي بدا غريباً و كئيباً. وبحسب طبيعته، لم يكن ليُظهر هذا الانقباض لمجرد أنها نسيته للحظات.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 82"