زارت إيفيريا المكتبة بعد غياب طويل، وقد كانت تبحث عن كتاب تحتاجه لأحد الواجبات.
في السابق، كانت تقضي معظم وقتها هناك حتى باتت كأنها تسكنها، لكن في الآونة الأخيرة لم يعد لديها متسعٌ من الوقت لزيارتها كثيرًا.
بمجرد أن فتحت الباب ودخلت إلى الداخل، استقبلها ذلك العطر المألوف للكتب. رائحة الورق العتيق الممزوجة برطوبة خفيفة وجفاف الحبر، رائحةٌ قديمة لكنها كانت تحبها أكثر من أي شيء.
‘تاريخ الرياضيات..…’
جلست القرفصاء أمام الرفوف، وحين عثرت على الكتاب المطلوب، التقطته ونهضت.
لكن استعارة كتاب واحد فقط بدت كأنها لا تكفي، فبدأت تتجول بلا هدف بين الرفوف، حتى وجدت بعض الكتب التي تتحدث عن العلاقات بين البشر.
لم تكن تتمنى سوى أن تساعدها هذه الكتب في حل ما يؤرقها.
كانت قد أساءت التصرف بوضوح مع الأمير نيسبيروس، لكن ما لم تفهمه بعد هو ما الذي كان يشعر به تجاهها.
هل كان يكرهها؟ أم يشعر بالإهانة؟ أم أن هناك شيئًا آخر؟
المشاعر الظاهرة لا تشكل خطرًا، لأنها على الأقل قابلةٌ للتوقع والمواجهة. لكن المشاعر الخفية، لا أحد يعلم بأي شكل ستنقلب لاحقًا، وذلك هو ما جعل القلق يستبد بها.
ولم يكن الأمر متعلقًا بالإعجاب أو الكره الشخصي.
بعد أن استعارت الكتب، توقفت إيفيريا أمام المكتبة والتقطت نسخةً من الصحيفة.
ولا تزال الصفحة الأولى تتحدث عن خطبة الأمير نيسبيروس والأميرة.
‘هل سيتزوجان حقًا؟’
ثم أجابت على تساؤلها بسخرية: وهل سيخطبها مزاحًا إذًا؟
ضحكت ضحكةً جافة من نفسها، و لم تصدق حتى أنها قالت ذلك.
وعندما قلبت الصحيفة إلى الصفحات الخلفية، وقعت عيناها على مقال في زاوية صغيرة يتحدث عن الأمير نيسبيروس. ثم مرّت نظراتها سريعًا على الأسطر.
كان المقال يشكك في مدى أهليته ليكون جزءًا من العائلة الإمبراطورية. وكلماتهم كانت حادةً وهجومية لدرجة جعلت إيفيريا ترتجف دون أن تشعر.
‘لا يبدو أنه منحطٌ إلى هذه الدرجة…..’
في المقال، كان نيسبيروس أشبه بوقح لا يعرف حتى أبسط آداب السلوك، ويخالف القوانين باستمرار.
وما لبث أن تسلل إليها شعورٌ ضئيل بالذنب. فلو لم تكن هي، لما نُشر مثل هذا المقال أصلًا.
كرمشت إيفيريا الصحيفة بيدها ودفنت وجهها في كفها الأخرى.
***
باستثناء تناولهما العشاء معًا، لم يختلف شيءٌ في علاقتها مع الأمير نيسبيروس عن السابق.
كان أكثر اتزانًا مما توقعت، على الأقل كما رأته هي. و ربما السبب في ذلك أنها لم تكن تضع أي آمالاً عليه منذ البداية، لكن رغم ذلك لم تستطع أن تمنع نفسها من التراخي والتخفيف من التوتر والحذر.
أخذت ملامحها ترتسم عليها علامات الدهشة من جديد، ففكرة أن يكون بينها وبين الأمير نيسبيروس أي نقطة تقاطع بدت لها غريبة.
لو أخبرها أحدهم في الماضي بما يحدث الآن، لظنت أنه مجنونٌ وطردته دون تردد.
كان نيسبيروس دائمًا يظهر بمظهر أنيق وهادئ، وكأن أعباء الأكاديمية واقتراب موعد الامتحانات لا تمسه أبدًا.
على النقيض تمامًا من حال إيفيريا، التي كان الإرهاق بادٍ على وجهها. فقد كانت عائدةً للتو بعد أن سلّمت آخر واجب قبل فترة الامتحانات.
رغم أن المهلة الممنوحة لها لم تكن قد انتهت بعد، فقد قررت أن تسلّمه مبكرًا لتتفرغ للدراسة بهدوء، إذ بدا لها أن البدء مبكرًا سيكون أكثر فائدة.
‘حان الوقت لأبدأ الدراسة حقًا.’
فلم يتبقَ على الامتحانات سوى ما يزيد قليلاً عن شهر.
تحركت إيفيريا قليلًا، و مدت ذراعيها وتمددت، فصدرت فرقعة خفيفة من مفاصل جسدها المتعب.
أخذت معها كتابًا وبعض جرعات استعادة النشاط، ثم توجهت إلى غرفة الدراسة الصغيرة الملحقة بقاعات المحاضرات، فقد كانت تنوي الدراسة لبضع دقائق قبل بدء الدرس.
أمام الغرفة، كان يقف شخصٌ مألوف. و كانت ترغب في تجاهله والمضيّ في طريقها، لكنها صادفت نظراته مباشرةً فلم تستطع التظاهر بعدم الرؤية، فتوقفت بخطى مترددة.
كان الأمير نيسبيروس واقفًا بملامح جامدة، لكنه ما إن لمح إيفيريا حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة.
فشعرت بشيء غريب من الارتياح، وبدون أن تدري، عقدت حاجبيها قليلًا.
و سواءً أعجبها ذلك أم لا، مرر نيسبيروس أصابعه بين خصلات شعره وسأل إيفيريا،
“إيفيريا، أذاهبةٌ للدراسة؟”
“نعم.”
“دراسةٌ للامتحانات؟”
“نعم.”
“ألا يمكنكِ أن تفكري في قضاء بغض الوقت معي بدلًا من ذلك؟”
كادت أن تجيب بالموافقة، لكنها استجمعت وعيها في اللحظة الأخيرة وحدّقت فيه بنظرة حادة.
حقاً، لم يكن لديه أدنى فهم للسياق أو التوقيت.
مال الأمير نيسبيروس برأسه قليلًا، وكأنه ينتظر منها ردًا، فتراقصت خصلات شعره الفضي مع حركته.
ثم أجابت إيفيريا بنبرة بديهية،
“آسفة.”
“لكنكِ لن تخطئي، فلمَ تعتذرين؟ لا تفعلي ذلك. ادرسي جيدًا.”
لوّح لها بيده، ثم أدار ظهره ومضى مبتعدًا.
فوضعت إيفيريا يدها على صدغها المثقل بالألم، ثم دخلت غرفة الدراسة.
كان أكثر ما يشوّش قلبها هو أنها لا تستطيع مجاراة الأمير نيسبيروس ولا فهم ما يدور بداخله.
جلست في ركنٍ مناسب وفتحت كتاب اللغة القديمة، لكن عيناها لم تلتقطا أي معنى.
فأغلقت الكتاب وبدلت إلى كتاب الرياضيات مع دفتر التمارين.
كانت تعتبر الرياضيات من المواد التي تتقنها، لذا توقعت أنها ستكون الأقل صعوبةً مهما كانت حالتها النفسية. لكن ذلك كان مجرد وهم.
“لا بد أنني فقدت صوابي.”
تمتمت بصوتٍ خافت، بعد مضي ساعةٌ تقريبًا، حين اكتشفت أن نصف الإجابات تقريبًا كانت خاطئة.
لو كانت في سكنها الآن بدلًا من غرفة الدراسة، لأمسكت بالوسادة من عنقها وهزّتها بعنف، وإن كانت لا تدري حتى إن كانت الوسادة تملك عنقًا أصلًا.
أعادت النظر إلى دفترها. و كانت تجمع بدل أن تضرب، وتقسم بدل أن تطرح.
هل كانت بهذا الغباء دون أن تدري؟ لم تستطع حتى قراءة الرموز بشكل صحيح، ولا إجراء عملياتٍ بسيطة من الجمع والطرح.
بجانب حلٍّ بدائيٍّ كتبه عقلها شبه الغائب، كان اسم نيسبيروس مكتوبًا، وتحته دوائر صغيرة مرسومة عشوائيًّا.
لو رأت صديقتها سينثيا ذلك، لكانت انفجرت ضاحكة وقالت أنها ترسم خريطة ذهنية بدل أن تدرس.
هذا ليس مستواها الحقيقي.
السبب في هذا التدهور هو الأمير نيسبيروس، الذي أربكها منذ اللحظة التي وقف فيها أمام غرفة الدراسة.
حاولت إيفيريا تبرير الأمر في ذهنها، ثم مزقت تلك الصفحة من دفتر التمارين بعناية وطوتها إلى نصفين.
كان وقت بدء الحصة قد اقترب.
جمعت أغراضها بخفّة، وتوجهت إلى قاعة المحاضرات بخطى حذرة.
ومن جانبها، شعرت بوجودٍ مألوف.
لقد سار الأمير نيسبيروس إلى جوارها وكأن ذلك هو الطبيعي، وبدأ حديثه معها بصوته الخفيف المعتاد دون أي تردد.
“هل درستِ جيدًا؟”
“لا…..لم أفعل.”
“قلت لكِ، كان عليكِ أن تبقي معي بدلًا من الدراسة.”
كتمت إيفيريا انفعالات وجهها بصعوبة.
ومن هو السبب في فشلها بالدراسة يا ترى؟
كانت على وشك الانفجار، لكنها لم ترد عليه، بل أمالت رأسها نحو الأمام متجاهلةً وجوده.
الأمير نيسبيروس، وهو يمرر يده عبر شعره ليعدله، تحدّث بنبرة هادئة،
“في الأكاديمية، تُقال أشياء كثيرة عني.”
“…..نعم.”
“ودائمًا ما كانت تُقال، فلا تهتمي بها.”
كان صوته يبدو خفيفًا، وربما باردًا، حتى أنه بدا وكأنه لا يُبالي.
لكن إيفيريا التفتت نحوه فجأة. لو أن ما فهمته صحيح، فإن كلماته لم تكن مجرد تعليق عابر، بل كانت عزاءً واضحًا ورسالة مطمئنة.
وكأنه يقول لها أن ما قيل بسببه، بالمقارنة بما كان يُقال سابقًا، لا يُعد شيئًا يُذكر.
كانت تلك محاولةً لطيفة لتخفيف ذنبها. فاتسعت عينا إيفيريا واهتزت نظرتها باضطراب، وحين لاحظ هو ارتباكها، ابتسم بخفة.
“ادرسِي جيدًا.”
“حسناً.”
“إن أردتِ التفوق عليّ، فلا خيار أمامكِ سوى الاجتهاد، أليس كذلك؟”
كان أحيانًا خفيفًا كريشة، وأحيانًا أخرى ثقيلًا يصعب تحمّله.
ومع كل هذا التقلّب، ظلت نبرة صوته كما هي دومًا.
و بينما غرق وجه إيفيريا في تعبيرات متشابكة من الحيرة والانشغال. كان هو يراقب تغير ملامح وجهها عن كثب، ثم بادرها،
“همم؟ إيفيريا؟”
“…..نعم، بالطبع سأدرس.”
فعضّت إيفيريا على شفتيها بشدة.
كم بدت مثيرةً للشفقة وهي تسقط في فخّ استفزازٍ واضحٍ وبسيط كهذا.
كومةٌ من عقد النقص، إنسانةٌ مسكونة بروح التنافس رغم أنها لا تملك شيئًا تتفوق به على أحد.
كانت قاسيةً في حكمها على نفسها، بل لاذعة.
ومهما كانت مشاعرها، فما إن سمع نيسبيروس ردها، حتى رمى كتبه على المقعد المجاور بلا اهتمام، وغادر قاعة المحاضرات دون كلمة أخرى.
أما إيفيريا، فجلست بهدوء وفتحت كتابها.
كان هذا أول امتحان يخوضه نيسبيروس منذ قدومه إلى لاكانيل، لكن بالنسبة لإيفيريا، كان امتحانًا حاسمًا ومفصليًا على أكثر من صعيد.
ولهذا لم يكن أمامها إلا أن ترد بتلك الطريقة المتوقعة على الكلمات المتوقعة.
***
في ذلك اليوم أيضًا، احتست إيفيريا جرعةً جديدة من مشروب استعادة الطاقة. و كانت سينثيا تراقبها، ثم خطفت منها القارورة الفارغة،
“بهذا المعدل، ستموتين قبل نهاية الفصل.”
“أنا أحيا حياةً قصيرة لكن مكثّفة، لا بأس في ذلك.”
فردّت عليها إيفيريا بنبرة ساخرة.
“هل هذا ما تقولينه لشخص يقلق عليكِ؟”
قالت سينثيا ذلك، ثم ضربتها على كتفها بخفة. فتأوهت إيفيريا وتراجعت مبتعدةً وهي تقول أنها تألمت، ثم استندت بجسدها إلى ظهر المقعد، ورفعت عينيها نحو السماء.
كانت هناك سحابةٌ صغيرة تنساب ببطء فوقها، تدفعها نسماتٌ ناعمة.
يا لها من سماء جميلة…..والشمس مشرقة.
الحرارة والرطوبة، و كل شيء حولها كان يصيح، لقد بدأت فترة الامتحانات.
حوّلت إيفيريا هذا المشهد الطبيعي الساحر إلى تجسيد للقلق والضغط، ثم أطلقت تنهيدةً صغيرة.
‘هل سأتمكن من فعلها..…؟’
منذ مدة قصيرة، تم الكشف عن أسئلة امتحان القبول الذي خضع له نيسبيروس حين انتقل إلى لاكانيل. و طبعًا، إيبفيريا قرأتها جميعًا.
فمن المفترض أن تكون الأسئلة مبنيةً على المنهج الذي يُدرّس في الأكاديمية، ولكن…..
‘لم أكن أعلم حتى أننا درسنا مثل هذه الأشياء.’
كانت تلك الأسئلة في منتهى الصعوبة، مستوى تعجيزي أقرب إلى الوقاحة.
منذ دخولها الأكاديمية، لم يكن هناك يومٌ لم تبذل فيه جهدًا حقيقيًا، ومع ذلك صادفت في ذلك الامتحان موضوعاتٍ تراها للمرة الأولى.
هل يمكنها التفوق على من حصل على أعلى درجة في اختبار كهذا؟ هل كل ما تبذله الآن من جهد سيكون بلا فائدة؟
راود إيفيريا شعور بالخوف.
الشيء الوحيد الذي يمكنها أن تفخر به الآن هو كونها الأولى على الأكاديمية، تلك التي كانوا يسمونها “معجزة لاكانيل”.
لكن…..إن خسرت حتى هذا اللقب؟
مجرد تخيّل الأمر كان كافيًا لتغلق عينيها بقوة، رافضة أن تسمح للفكرة بأن تكتمل.
الحل واضح: أن تجتهد أكثر. فما زالت تؤمن بنفسها، على الأقل حتى هذه اللحظة.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 8"