في حالة إيفيريا، تبيّن أن استقلالية السحر العقلي كانت تؤثر على ذاكرتها.
وربما إذا تمكنت من السيطرة على عالمها العقلي بشكلٍ أفضل، وفي ظروفٍ مناسبة، فستستعيد تلك الذكريات.
غير أن ذلك يتطلب منها جهداً عظيماً. فالسحر العقلي لا يمسّ الروح فقط، بل الجسد أيضاً. كان أشبه بأرواح مسجونة في سجل قديم.
كائناتٍ تستنزف طاقة أصحاب الموهبة السحرية لتعتني بالسحرة، مدفوعةً دائماً بحسن النية، لكن النتيجة لم تكن دوماً نافعة.
وفي الحقيقة، كانت قوة الموهبة في السحر العقلي تتناسب طردياً مع حجم الطاقة السحرية.
فكلما عَظُم ما وُهب المرء من طاقة، ازدادت قوة واستقلالية عالمه العقلي. لكن المفارقة أن تلك الطاقة التي يستهلكها العالم العقلي تظل محجوبةً عن استعمال الساحر نفسه.
وسرعان ما أدرك إيرميت كل الروابط بين إيفيريا وعالمها العقلي وذكرياتها، بل واكتشف أيضاً علاقاتٍ أخرى كثيرة.
ومن هنا فهم السبب الذي جعل إيفيريا تتحسّر دوماً على قلة طاقتها السحرية. وفهم كذلك سبب انهيارها يوم نازلت وليّ العهد في البطولة السحرية.
وشعر أن شتات المواقف المختلفة بدأت تتجمع في صورةٍ متناسقة، فسارع ليسأل سيد البرج إن كان حدسه صحيحاً. وكان أدرى الناس بهذا، لأنه هو نفسه ساحرٌ من السلالة العقلية.
فالجميع تقريباً يعرف أن سيد البرج الحالي ساحرٌ عقلي. إذ من تقاليد البرج أن يعلن سيده الجديد عند تولّيه المنصب عن طبيعته السحرية.
ورغم أن لوانس هستيرون تولى المنصب منذ زمن بعيد، ولم يعد أمر تخصصه مطروحاً على السطح، فإنه لم يكن سراً.
وما إن سمع إيرميت من فم سيد البرج أن العوالم العقلية تملك بالفعل ذاتاً واستقلالية، حتى عجز عن إخفاء قلقه على ذاكرة إيفيريا.
فمن يدري متى قد تُسلب ذاكرتها مرة أخرى؟ وربما كان عدم فقدانها ذاكرتها في المرة السابقة محض مصادفةٍ سعيدة لا غير.
وعندما التقى سيد البرج، انفجر هذا القلق فجأة.
“كيف أمنع إيفيريا من فقدان ذكرياتها؟”
“….العوالم العقلية تكبح أو تمحو كل ما قد يضرّ بالجسد. والأشياء غير الملموسة، كالذاكرة، شأنها شأن الملموسة.”
ثم أضاف أن معظم أفعالها لا بد أن تقوم على سبب وجيه.
فعضّ إيرميت شفتيه بعصبية، لكن سيد البرج هزّ رأسه.
كان يدرك أن إيرميت يبالغ في القلق متى تعلّق الأمر بإيفيريا. ولو استمر على هذا النحو، فقد ينتهي أمر علاقتهما إلى كارثة.
فالإفراط في القلق ليس خيراً أبداً.
ثم تحدّث سيد البرج بلهجة رصينة واثقة، كمن يزرع في السامع طمأنينةً عميقة،
“كن بقربها فحسب. لا تدعها تُلقى فجأة في مواقف صادمة. ما دامت بعيدةً عن أحداث قد تترك ندوباً نفسية، فستكون بخير.”
وأدرك إيرميت أنه لا يملك سوى القليل ليقوم به.
و غمره إحساسٌ بالعجز، فلم يبق له سوى عزيمةٍ واحدة: أن يظل إلى جانبها مهما حدث.
مهما كانت العاقبة، فعلى الأقل عليه أن يبذل كل ما في وسعه.
ثم حوّل نظره من خصلات شعرها إلى ملامح وجهها.
وبعد أن تلقت ما يكفي من الأجوبة، حان دوره ليطرح سؤالاً عليها.
اتكأ بيده على ذقنه، بينما رفعت إيفيريا عينيها نحو نظراته التي بدت خفيفة الوطأة على غير العادة.
“هل تنوين الذهاب إلى البرج مباشرة؟”
“ليس مباشرة…..لقد قدّمت فقط طلباً لمغادر السكن خلال العطلة.”
كل ما كان عليها هو أن تُرتّب أغراضها قبل نهاية الشهر. فلم يكن عليها أن تُخلي الغرفة تماماً، فقط أن تحمل ما تحتاجه كما لو أنها مسافرة.
ولم تُخبر الأكاديمية أنها تعتزم البقاء في البرج، فلم يكن ثمة داعٍ لإعلان ذلك.
أما سيد البرج فقد قال لها أنها تستطيع استخدام الدوائر السحرية في ساحة التدريب بالأكاديمية متى أرادت القدوم. وهكذا اتفقا أن تذهب في نهاية الشهر تقريباً.
وكانت هذه أول مرة منذ عامين ونصف تمضي فيها عطلةً خارج الأكاديمية.
وفكّرت في الأمر ملياً. نعم، لم تغادرها قط من قبل. حتى غدت الأكاديمية بيتها الحقيقي. وربما كان ذلك لأنها بالكاد تتذكر ما سبق دخولها إلى لاكانيل.
كان إيرميت يحدّق في وجه إيفيريا بابتسامةٍ خفيفة. أما هي، فبينما كانت تستعيد في ذهنها ما ينتظرها من ترتيبات، عادت لتفتح شفتيها،
“بقي لي بعض الوقت، فأفكر في المرور على المصرف.”
فارتسمت على وجهه لمحة استفهام.
و للحظةٍ ندمت إيفيريا على كشف ذلك، كأنها أفصحت عمّا لا داعي له. لكنها ما لبثت أن تردّدت قليلاً، ثم حسمت أمرها سريعاً.
طالما أنه يشاركها شيئاً فشيئاً من ماضيه، فمن الإنصاف أن تبوح له هي أيضاً ببعض هذه الأمور الصغيرة. وما دام الوضع لم يتضح بعد، فليس في وسعها أن تقول سوى حقيقة واحدة.
ولتجنّب إثارة قلقه، حرصت أن يبدو صوتها هادئاً خفيفاً،
“أظن أن هناك حساباً مصرفياً مسجلاً باسمي…..وأنا لم أفتحه قط.”
“……إن احتجتِ إلى مساعدة، فقولي.”
غامت على وجهه مسحةٌ جدية. فضحكت إيفيريا بخفة، و التفت إليها بتعبير يتساءل عن سبب ضحكها.
“لحسن الحظ، لا يبدو أن الأمر متورطٌ في نشاط غير قانوني.”
“نعم، هذا حسن.”
ارتخت عيناه مبتسمتين، كأنه فهم سبب ضحكتها، غير أن ملامحه لم تخلُ من شيء من الحرج. ثم نظر إلى وجهها المشرق و تحدّث ممازحاً،
“إن تورطتِ حقاً في أمر غير مشروع، فتعالي إلى قصر الدوق نيسبيروس.”
“……سأحرص وقتها على أن أودع لكَ ما لديّ قبل أن يلقوا القبض عليّ.”
كان قصده أن يطمئنها بأنه سيحميها، لكنها آثرت أن تتعمد الرد بروح مشاكسة. فانفجر المكان بضحكاتٍ هادئة.
***
ومضى الوقت سريعاً، فإذا بإيفيريا تنتقل إلى برج السحر. أما إيرميت، فبعد أن استخلص إذناً بصعوبة من سيد البرج، قرر المرور أولاً بدوقية نيسبيروس قبل أن يلحق بها هناك.
أخذت إيفيريا تحدّق بصمت في متاعها القليل. بضع ثياب، و بعض الكتب، وأشياء يومية بسيطة.
كانت قد راجعت ما جمعته مراراً ليلة أمس، خشية أن تكون نسيت شيئاً.
‘……هل يا ترى يوجد متجرٌ قرب البرج؟’
شكّت في ذلك، لكنها مع ذلك تساءلت. لو وُجد، لأمكنها شراء ما فات.
وما إن خطر لها ذلك، حتى تذكرت زيارتها الأخيرة للمصرف مع إيرميت.
لقد كانت تعتزم الذهاب وحدها، لكنه تذكّر بدقة اليوم الذي ذكرت فيه عرضاً أنها ستذهب، فرافقها.
و بعد أن أنهت طلب الاطلاع على بياناتها في المصرف، اجتاحها قلقٌ غامض. و راودتها فكرةٌ عابرك: ماذا لو ارتبط ماضيها الذي لا ترغب في كشفه بتلك المسألة؟
وكان إيرميت، ببصيرته الحادة، قد لمح ذلك القلق في عينيها، فأخذها يتنقل معها من مكان إلى آخر ليشغلها، حتى لا تغرق في تلك المخاوف. ونجح مسعاه.
وعندما طُلب منها أن تكتب عنواناً لتُرسل إليه الرسائل، همّت أن تسجّل عنوان الأكاديمية كما اعتادت، لكنها غيّرته لتكتب عنوان البرج.
وقيل لها أن الموافقة على الاطلاع قد تستغرق شهراً أو شهرين. وبذلك ستتمكن على الأرجح من الاطلاع على النتيجة قبل بدء الفصل الدراسي الثاني.
استعرضت إيفيريا في ذهنها جدولها القادم، ثم جالت بنظرها في الغرفة التي خُصصت لها داخل البرج.
كانت غرفةً واسعة، يسودها جوٌ من النظام والنظافة. بنافذةٍ متوسطة الحجم يتسلل منها الضوء، قربها سرير، وبجانبه مرآةٌ وخزانة. أما الجهة المقابلة ففيها طاولةٌ وكرسي.
ما إن رتبت متاعها حتى بدّلت ثيابها واستلقت على السرير بتعب.
فغداً يبدأ فعلياً نمط حياتها الجديد في البرج، لذا كان عليها أن تنال قسطاً من الراحة.
***
وفي ظهيرةٍ يغمرها نور الشمس الوادع، كان الدوق نيسبيروس جالساً في مكتبه كعادته. و لم يكن في المكان سوى صوت خشخشة قلمه على الورق.
فجأة، قطع طرقٌ هادئ على الباب سكون الجو. فأكمل توقيعه على الوثيقة بين يديه، ثم دفعها إلى جانب المكتب.
“سيدي الدوق، هناك ما أرفعه إليكَ. يتعلق الأمر بإيفيريا دِيل.”
“ادخل.”
بصوتٍ واضح جاء الإذن، فدخل الرجل من الخارج، متقدماً بلا جلبة، ووضع بين يدي الدوق ملفاً كُتب على عجل.
“لقد تقدمت إيفيريا دِل بطلب اطلاع على بياناتها في المصرف.”
“…….”
هبطت نظرات الدوق على الورق أمامه.
كان يتلقى تقارير دورية عنها، وأوصى بأن يُبلّغ فوراً إذا طرأ أمرٌ غير اعتيادي.
لقد عاش أعواماً طويلة في موقع “الوصي الذي لا يشبه الأوصياء”. فاسمه وحده كان عنوان الرعاية، أما عطاؤه الفعلي لها فلم يكن كثيراً. بل الأرجح أن إيفيريا نفسها لا تدري أنه هو راعيها.
نعم، قبل دخولها الأكاديمية كان قد مارس فعلاً دوره كوصي، لكن تلك الذكرى محيت من ذاكرتها.
كان ذلك في نظر الدوق أمراً حسناً في حد ذاته. فهو لم يشأ قط أن يكشف نفسه أمامها.
ولأجل ذلك، تعمّد قبل التحاق إيفيريا دِيل بالأكاديمية أن يفتح حساباً مصرفياً باسمها. و أودع فيه مصاريف دراستها ومعيشتها، وربطه بحساب الأكاديمية، ثم أحاطه بدرجةٍ عالية من الحماية.
كما رتّب أن يصله تقريرٌ مباشر متى ما حاولت إيفيريا الاطلاع على بيانات ذلك الحساب. و هكذا استطاع أن يمدّ لها يد العون باستمرار، دون أن يسهل عليها الربط بين ماضيها وبين أسرة نيسبيروس.
ولحسن الحظ، كانت قدرات إيفيريا فوق ما توقّع. فقد درست في لاكانيل بمنحة دراسية، ومنذ دخولها أكاديمية لاكانيل لم تطرق باب المصرف طلباً للمال قط.
بل الأغلب أنها لم تكن تدرك حتى وقتٍ قريب أن هناك حساباً آخر باسمها.
تردّد الدوق نيسبيروس برهة. لكنه كان يدرك أن هذا أمرٌ ستكتشفه إيفيريا دِيل في نهاية المطاف. وبعد أن استعرض الاحتمالات كلها في ذهنه، أصدر أمره بصوت لا يعرف التردد.
“……وافقوا، ودعوها تعرف الحقيقة كما هي.”
_____________________
استوب يعني ايفيريا يومها صغيره تعرضت لصدمه نفسيه لدرجة قوتها مسحت ذكرياتها؟ يمه وش صار لبنتي
وإيرميت لايكون مايدري ان ابوه هو الي فاتح حسابها؟😂
بعدين ليه المؤلفه ماورتنا وش تذكر إيرميت بالتفاصيل وإيفيريا بعدين تتذكر براحتها😔 ترا باقي 43 فصل على النهايه خلاص
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات