لم تكن الأحاديث بينهما تحتاج إلى كثير من الكلمات. فالدوافع والأسباب كانا يدركانها دون شرح.
وهكذا الآن أيضًا. أومأ إيرميت بهدوء، وكأنه قد فهم سلفًا ما لم يصرّح به سيد البرج.
ارتسمت على ملامح سيد البرج مسحةٌ من التعقيد. و لم يتمنَّ إلا أن تسير الأمور في أفضل الاتجاهات الممكنة. فلم يكن يثق بإيرميت نفسه، لكنه كان يثق بعقله وحسن تقديره.
***
شعر إيرميت بصفاءٍ يكتسح ذهنه على الفور. إلا أن الصفاء كان يصاحبه ألمٌ شديد.
كل الاستنتاجات والافتراضات التي صاغها مرارًا عن إيفيريا عادت لتندفع إلى رأسه دفعةً واحدة.
ولم يكن ذلك فحسب. فقد تذكّر بوضوح شديد. ذكرياته كطفلٍ كان يهوى الأشياء البديعة، و حين كانت إيفيريا تعرض له أشياءً صغيرة براقة.
تذكّر كيف احتضن معها السماء في كفّيه، وكيف لامس النجوم بأطراف أصابعه، وكيف غرس برعمةً صغيرة. وحين كان معها، كانت كائناتٌ عجيبة تحوم حولهما.
تذكّر أيضًا ذلك الحنين الذي بلغ حد الدموع. وتذكّر كيف أيقظت رؤى إيفيريا المائية ذكريات الطفولة في قلبه.
التقط إيرميت أنفاسًا عميقة. وكانت المشاعر تتلاطم داخله تحت وطأة سيلٍ من المعلومات والذكريات.
إيفيريا والسحر الوهمي. إيفيريا وسحر العقل.
ربما تكون ذاكرتها مرتبطةٌ فعلًا بسحر العقل.
توصّل مجددًا إلى النتيجة نفسها التي بلغها عشرات المرات من قبل.
وبينما كانت الصور الجميلة تتراقص أمام عينيه، أدرك أخيرًا لِمَ ألقى سيد البرج السحر عليه حين كان طفلًا.
فالآن، وهو بهذا النضج، لم يكن بوسعه حتى استحضار تلك الذكريات دون أن يشعر بأن واقعه ينهار. فكيف لو عاشها كاملةً دون حجاب؟
صحيحٌ أنه لم يكن يعرف الكثير عن سحر العقل، لكنه كان واثقًا أن ما أطلعته عليه إيفيريا من أوهام فاتنة كان سيغيّر مسار حياته تمامًا.
ومع ذلك، شعر بالمرارة. و عضّ على أسنانه، وخرج صوته خافتًا كهمس أقرب إلى شكوى يائسة لا تنتظر جوابًا،
“لماذا……عبثتَ بذاكرتي هكذا……؟”
فأجابه سيد البرج بلهجة رتيبة،
“لأنكَ كنت تتأثر بها.”
ثم تابع،
“والسحر الذي أردتُ أن أستخدمه عليكَ لم يكن في الأصل تعديلًا لبعض الذكريات فحسب.”
“…….”
ومن نبرة صوته، أدرك إيرميت أي نوع من السحر كان يقصده.
لم يستطع وجهه أن يبوح بانفعال واضح. وظل سيد البرج مبتسمًا بخفة.
“لقد كان سحرًا للمحو الكامل……لكنه انحرف وصار سحر تشويه.”
اتجهت نظراتٌ أرجوانية مكثفة نحو سيد البرج، مشحونةً بمشاعر متداخلة.
كان يتوقع بعض الأمور، لكن لم يتخيل قط أن ذاكرته نفسها ـ إلى جانب ذاكرة إيفيريا ـ لم تكن سليمة. والأسوأ من ذلك أن النية الأولى كانت محوها تمامًا.
أما سيد البرج فتجاوز تلك النظرة الحادة بلا مبالاة.
الآن وقد وصلت الأمور إلى هذا الحد، كان من الأفضل أن يعرف إيرميت الحقيقة كاملة.
“إذاً، ماذا اكتشفتَ حتى الآن؟”
“…….”
تشنجت ملامح إيرميت عند عينيه. و عندما ظل صامتًا، كرر سيد البرج سؤاله بصيغة أخرى،
“هل عرفتَ شيئًا عن ذاكرة إيفيريا؟”
“……ذلك ليس بسحركَ أنت، أليس كذلك؟”
جاء صوته صلبًا، و واثقًا.
لم يُجب لوانس، بل توجه إلى رفوف مكتبته وأخذ بعض المجلدات الضخمة.
“هذه كتبٌ عن سحر العقل. أنت تجيد قراءة اللغة القديمة، صحيح؟”
“نعم.”
ففي الأكاديمية كانت دراسة اللغة القديمة أمرًا أساسيًا، وكثيرٌ من المراجع المطلوبة مكتوبةٌ بها. وبالإضافة إلى ذلك، كان إيرميت في الأصل وريث الدوق نيسبيروس.
كان إيرميت يتلقى الكتاب من سيد البرج محاولًا تقدير محتواه. وقد كان العنوان محفورٌ عليه بحروف اللغة القديمة.
فتح الصفحات على عجل، فامتلأ بصره بفهرسٍ متخم بالكلمات الدقيقة المتراصة.
تابع سيد البرج حركاته ثم نقر بأطراف أصابعه بخفة على الطاولة بينهما.
لم يكن حال إيرميت جيدًا تمامًا. صحيحٌ أن ملامحه بدت أفضل مما كانت عليه قبل قليل، إلا أن زوال السحر الذي عاش معه سنواتٍ لا بد أن يخلّف أثرًا عميقًا.
لو كان شخصًا عاديًا مكانه، لفقد وعيه في الحال.
أما في رأس إيرميت، فقد أخذت أحداث السنوات الماضية تعيد ترتيب نفسها.
كان يملأ الثغرات، و يربط الأسباب بالنتائج، ويجمع الوقائع المكررة تحت عناوين واحدة.
حتى من دون شرح، كان سيصل إلى الجواب الصحيح، لكن سيد البرج وقد أثقله العمر لم يعد يخلو من القلق.
مدّ يده وسحب الكتاب منه بسحر، ثم وضعه على الطاولة. فألقى إيرميت نظرةً متسائلة.
ثم تحدّث سيد البرج بهدوء،
“لم أعطه لكَ لتقرأه الآن.”
سكت قليلًا قبل أن يضيف،
“اقرأه في الأكاديمية، أو في قصر الدوق. سأعيره لكَ.”
أومأ إيرميت دون اعتراض، وأخذ الكتاب بحذر شديد كما لو كان أثمن ما يملك.
لم يعرف تمامًا لماذا يولي سيد البرج له هذا القدر من العناية، لكنه تذكّر على الأقل أن في ذلك منفعةً له، فقبل تلك المكرمة.
حتى لو طالب سيد البرج بثمن لاحقًا، فلن يكون شيئًا يوازي قيمة هذه المعرفة العسيرة المنال.
ساد الصمت بينهما لحظةً قصيرة، بينما كان إيرميت يكدّ ذهنه في ترتيب سيل المعلومات التي انهمرت عليه دفعةً واحدة.
وبدا جسده مثقلاً، كأن تبعات انحلال السحر تسحبه نحو الوهن.
عندها تحدّث سيد البرج، كأنه يقتطع الحديث إلى الأصل،
“أول ما يجب أن تعرفه……أن ذكريات إيفيريا مرتبطةٌ بالعالم العقلي.”
رفع إيرميت جذعه إلى استقامة بعدما كان مائلًا إلى الأمام.
كان قد أيقن بذلك سلفًا. الذاكرة والعالم العقلي……و لم يكن مستبعدًا وجودٍ خيط خفي بينهما.
مدّ أصابعه المصقولة على غلاف الكتاب وكأنه يستشف منه الجواب.
لم يتعنَّ سيد البرج في الشرح. فالنتيجة تكفي؛ سيعرف هو كيف يصل إلى الأسباب. ثم إنه قد أعطاه كتابًا سيكون دليله.
ما يحتاجه إيرميت الآن ليس التوضيحات المطوّلة، بل الملخص الواضح والجوهر الصريح.
“العالم العقلي بلا قوانين. له أنماطٌ عامة فحسب.”
ثم أشار سيد البرج ببرود إلى الكتاب أمامه،
“الشرح مفصّلٌ فيه. اقرأه لاحقًا.”
أومأ إيرميت بخضوع هادئ.
لم يكن بحاجة إلى مزيد من الكلمات. كل ما أراده هو أن يعود سريعًا إلى الأكاديمية.
منذ أن اكتشف الخلل في جسده، قلّ تردده على إيفيريا، بل كفّ عن طلبها.
اللقاء الوحيد الذي جمعهما مؤخرًا كان حين أمسكت به قبل مغادرته الأكاديمية، ولو كان قد صدّها آنذاك لانكسر داخله حقًا.
مدّ يده بلا وعي إلى سوار معصمه وهو يستحضرها.
وكانت مخاوفه وذنوبه تجاهها تكبر منذ علم بأن اسمهما معًا صار موضوعًا لحديث الآخرين في الأكاديمية.
ربما استطاعت إيفيريا أن تواجه ذلك وحدها، لكنه كان يخشى أن تكون قد جُرحت ولو قليلًا. وكان لا بد أن يسكن قلبها شكٌ أو قلق وإن كان يسيرًا.
وهو، في خضم ذلك كله، لم يستطع أن يكون إلى جوارها طويلًا ولا أن يطمئنها كما يجب.
مضى سيد البرج يقول بضع كلمات أخرى عن العالم العقلي، فحفظها إيرميت جيدًا في ذاكرته.
وبانتهاء الحديث، نهض ليستعد للعودة إلى الأكاديمية. وكان أول ما دار في خلده هو الذهاب إلى إيفيريا.
وكأن سيد البرج التقط أفكاره، فتحدّث له محذرًا،
“حين تصل……ارتح أولًا.”
“……اليوم كم من الشهر؟”
كون إيرميت يردّ بهذا السؤال يعني أنه لا ينوي الإصغاء لكلام سيد برج السحر. وقد أدرك سيد البرج ذلك، فابتسم بسخرية خافتة.
مهما يكن، استعاد إيرميت التاريخ في ذهنه: اليوم الثالث عشر.
اليوم الذي تبدأ فيه امتحانات الأكاديمية.
***
خفضت إيفيريا بصرها في صمت. لم يخطر ببالها أن وراء اليوم الذي بدا فيه مريضاً بشكلٍ غريب، واليوم الذي التقت به في قاعة الامتحان، تختبئ حكايةٌ كهذه.
“الآن……حتى لو طلبتِ مني أن أبتعد، فلن أفعل.”
“……جيد.”
أجابت إيفيريا بهدوء.
كلمات إيرميت حملت الكثير من المعاني المبتورة، غير أنّ إيفيريا استطاعت أن تستشف بسهولة بعض ما بينها من خفايا.
كانت تعلم أنّ إيرميت يعرف بحقيقتها كساحرةٍ في فنون الذهن. كما كانت تدرك أيضاً مدى هوسه المفرط بحالتها الصحية.
وبينما كانت غارقةً في تفكيرها، أعاد إيرميت في ذهنه مسار الأحداث التي قادته إلى معرفة كل تلك الأمور عنها.
فبعد أن رآها يوم بدء امتحانات الأكاديمية، لم يغادر مبنى السكن لفترةٍ طويلة. وقد قرأ جميع كتبه، وأعاد النظر في الملاحظات التي كان قد دوّنها.
كان يعلم أن السحر الذهني يمتلك هويةً خاصة بذاته، ولذلك كان يُصنَّف بحسب وجود الموهبة أو غيابها، لا بقدرها.
لكن ما اكتشفه حديثاً هو أن استقلالية ذلك السحر كانت أوسع بكثير مما كان يتصوّره في مخيلته.
________________________
ضحكت ذكرياتهم كيوت إيفيريا كان تستعرض سحرها لدرجة تدخلهم عالم ثاني 😭🤏🏻
بس ماقالوا وش صاااااااار ليه سيد البرج خلاه ينسى وش ليه وإيفيريا من منسيها اذا مب سيد البرج؟
تو استوعب بعد ليه دايم إيرميت يشبه شعر سيد البرج بشعر إيفيريا؟😃
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 77"