“في السنة الرابعة، أنوي التقدم إلى برج السحر……فماذا عنكَ يا سيد؟ إلى أين تفكر بالذهاب؟”
“همم، في الفصل الثاني سأهتم بدرجاتي بما يكفي، فلا تقلقي.”
كان جوابه ماكرًا.
إيفيريا، وهي تعبث بخصلات شعره الفضي، لم تستطع منع ابتسامةٍ صغيرة من الظهور.
حقًا، حتى العام الماضي ما كانت لتتخيل أبدًا أن تصبح على هذه الدرجة من القرب مع ابن الدوق نيسبيروس.
صحيحٌ أن الحياة غير متوقعة، لكن ما جرى معها قد تجاوز حدود كل توقّع.
لقد شعرت أن الكثير من مجريات حياتها تغيّر بقدومه. هذا التغيير بدا متسارعًا وغريبًا، لكنه لم يكن سيئًا. بل كان جميلًا.
أعجبتها هذه الأجواء الدافئة. و أحبّت المشاعر التي لا تشعر بها إلا برفقته. فارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ هادئة.
فجأة تساءلت عمّا كان يفعله إيرميت في الفترة التي غاب فيها. فراحت تتأمله وهو جالس أمامها، و يداه تسندان ذقنه وعيناه مغمضتان.
حتى رموشه، وحتى ظلالها، بدت وكأنها تحمل حضورًا طاغيًا.
حدّقت إيفيريا فيه كأنها تنظر إلى عمل فني، ثم ألقت سؤالها عرضًا.
“هل يمكنني أن أسألكَ عمّا كنت تفعله طوال تلك المدة؟”
ارتعشت جفنا إيرميت بضع مرات قبل أن تُفتح عيناه البنفسجيتان كليًا.
“……نعم.”
كان جوابه مفاجئًا قليلًا، فهي ظنّت أنه سيرفض.
لكن نظرته إليها كانت أثقل قليلًا، وصوته حين تكلّم حمل ذات الثقل.
“سأخبركِ بكل شيء، لكن هل تسمحين لي أن أتكلم ببطء؟”
“بالطبع. فقط حدثني بما تراه مناسبًا لي أن أعرفه.”
قالت ذلك وهي تستحضر ما وقع في ساحة التدريب السحري، حين اصطدمت هي بإيرميت وولي العهد معًا.
لم تستطع نسيان تلك اللحظة حتى الآن، بل بقيت مشاعرها وقتها حاضرةً كجرح لم يندمل.
إيرميت، على إثر ردّها، استعاد في ذهنه مسار الأشهر الماضية.
***
هو لم يكن يريد أن يُمحى من ذاكرة إيفيريا. أراد أن تبقى صورته راسخةً فيها دائمًا.
وبعد أن تراكم بعض الوقت منذ أن أعيد ضبط علاقتهما، وأدرك أنه صار شخصًا قادرًا على التأثير فيها قليلًا……هنالك اجتاحه خوفٌ هائل.
كان يختبر بنفسه أن قلب الإنسان أنانيٌ بطبعه، وأن رغباته لا نهاية لها.
حين سقطت إيفيريا مريضة، كان كل ما تمنى أن تفتح عينيها بسلام، لكنه الآن راح يضيف إلى تلك الأمنية مطلبًا جديدًا: أن يبقى حاضرًا في ذاكرتها.
في الحقيقة، لم تكن الأكاديمية مهمةً عنده قط. كانت مجرد وسيلة ليكون أقرب إليها. أما الوسيلة، فلم يكن لتتغلب على الغاية. لذا لم يتردد لحظةً في التغيب عن الدروس.
بدأ أولًا بجمع كل ما يتعلق بصحتها. ومع وجود الإرادة والسلطة، لا يكاد يوجد شيءٌ مستحيل.
فتّش بدقة في سجلات علاجها في الأكاديمية خلال السنوات الماضية، وحتى نتائج الفحوصات التي أجريت عند سقوطها.
إيفيريا كانت ضعيفة البنية، نعم، لكن لم يكن في جسدها عيبٌ خطير. بل كان من حسن حظها أن صحتها بقيت على ذلك المستوى رغم إهمالها لنفسها.
اطمأن قليلًا، ثم انتقل مباشرةً إلى البحث عن كل ما يتعلق بالذاكرة.
سأل سيد برج السحر إن كان لديه أدنى تخمين، لكنه طُرد على الفور. صحيحٌ أنه بالغ في أسئلته قليلًا، لكن هل كان الأمر يستحق أن يُقابل بكل ذلك الجفاء؟
أدرك أن سيد البرج يتعامل بحساسيةٍ غريبة مع كل ما يتعلّق بإيفيريا. وخمّن أن السبب مرتبطٌ بالماضي.
من الواضح أن سيد البرج متشابكٌ مع ماضيهما بطريقةٍ ما، غير أن الوصول إلى حقيقة ذلك لم يكن ممكنًا بمجرد الإلحاح.
كان عليه أن يبحث بنفسه. و لم يرد أن يشارك أحدًا تفاصيل ذكرياته معها ليطلب المساعدة، فبمجرد أن ينطق بها أمام الآخرين كان يشعر أن تلك الذكريات ستفقد بريقها.
ولحسن الحظ، كانت في القصر الإمبراطوري، وفي قصر الدوق نيسبيروس، وحتى في مكتبات العاصمة، كتبٌ نادرة وفريدة بكثرة.
قضى إيرميت وقتًا طويلًا غارقًا بين الكتب. حتى بدأ يشعر وكأنه يغدو أكثر غباءً مع مرور الوقت.
كان يربط إيفيريا بالسحر في ذهنه، وكان متيقنًا من أنها ستتجه نحو برج السحر……لكن بعد قليل كان ينسى ذلك كله.
لم يعد يتذكر إلى أين وصلت أفكاره، ولا أي مسار منطقٍ اتّبع ليصل إلى استنتاج ما. وحتى حين يدوّن ملاحظاته على الورق، كان يشعر أن الكلمات تنفر من عينيه كأنها لا تريد أن تُقرأ.
تكررت تلك الحالة مراتٍ عديدة، حتى أدرك إيرميت أنه واقعٌ تحت تأثير سحر ما، أو ما يشبهه.
وبما أن هذا السحر بلغ درجةً عالية من القوة، فالمسؤول عنه لم يكن إلا شخصًا واحدًا. فمن ذا الذي يجرؤ أن يفرض مثل هذا السحر على ابن الدوق نيسبيروس غير سيد برج السحر نفسه؟
وهذا يعني أن كسر السحر بجهده وحده يكاد يكون مستحيلًا.
ربما كان قادرًا على تحطيمه بوسائل قسرية وجامحة، لكن العواقب ستكون وخيمة.
ضغط إيرميت صدغيه وابتسم ابتسامةً باهتة.
ما الذي يدفع سيد البرج أصلًا لإلقاء سحر كهذا عليه؟
“……تبًا، لقد بدا صمودي النفسي ضعيفًا. وذاكرتي رديئةٌ أيضًا.”
تذكّر كيف أجاب إيفيريا يومًا أنه يتمتع بذاكرة قوية، فضحك بمرارة وهو يرى حاله الآن.
مع ذلك، تمكّن من فهم شيء واحد على الأقل: أن إيفيريا مرتبطةٌ بنوع من السحر. بديهي، نعم، لكنه كان خيطًا يستند إليه.
إذاً لم يبقَ أمامه سوى التضييق على سيد البرج.
بقي بضعة أيام في قصر الدوق يتجول، ثم بدأ يستعد للذهاب إلى الأكاديمية.
كان سيد البرج كان يمكث في الأكاديمية مؤخرًا، فهي أقرب إليه من برج السحر، بل وأقرب أيضًا من أراضي الدوق نيسبيروس.
وكان لا بد من الحضور على أي حال، فمجرد الغياب عن الدروس بما يكفي قد يعني رسوبًا لا يُغتفر.
وحين فرغ من استعداداته وهمّ بمغادرة القصر، صادف الدوق نيسبيروس.
كان الدوق دائم الانشغال، ولم يتذكر إيرميت أنه قضى معه الكثير من الوقت من قبل.
انحنى له بتحيةٍ عابرة وهمّ بالانصراف، لكنه توقف فجأة.
إن كان سيد البرج قد ألقى عليه سحرًا فعلًا، فالدوق لا بد أن لديه علمًا بذلك أو على الأقل طرف خيط يمكن أن يقوده.
التفت إليه، ليجد الدوق بدوره يحدّق فيه. تلك العينان متقاربتا اللون تلاقتا بصمت.
ألقى الدوق نظرةً متفحّصة من رأسه حتى قدميه، ثم تحدّث بصوتٍ هادئ رزين،
“الزمن كفيلٌ بحل هذا الأمر.”
“يا دوق……”
كانت نبرة إيرميت خاليةً من الدعابة التي اعتاد أن يُظهرها أمام إيفيريا.
كان واضحًا أن الدوق يعرف ما الذي يشغل باله، وربما يعرف كذلك ما يتعلّق بذكريات إيفيريا.
ثم مدّ يده فمسّ كتفه برفق.
“أنتَ ما زلت صغيرًا.”
“سمِّني شابًا إن شئتَ.”
ابتسم الدوق ابتسامةً باهتة وهو يتجاوزه، ثم همس كأنه يحدّث نفسه، ومع ذلك وصل صوته إلى أذن إيرميت،
“إن تركته وشأنه، سينتهي بنفسه……”
لكن الانتظار بصمت لم يكن من طباعه أبدًا.
سواءً أكان صائبًا أم مخطئًا، كان لا بد أن يضع يده على الخيوط بنفسه ليطمئن.
***
أدرك إيرميت أنه عليه أن يكون أكثر حذرًا من أي وقت مضى في التعامل مع سيد البرج. فأبسط تجاوز أو استفزاز قد يدفعه إلى إغلاق كل الأبواب في وجهه.
ولأنه قضى زمنًا غير قصير يراقبه، فقد صار يعرفه بدرجة تكفي ليُحسن التعامل معه.
حين وصل إلى الأكاديمية، جلس أمام باب مختبر سيد البرج، وفي يده كتابٌ يتناول أصول السحر وتفرعاته. و ظل ينتظر طويلًا، حتى شعر أخيرًا بالهالة المألوفة تنبعث من الداخل.
لقد عاد سيد البرج إلى مختبره مستخدمًا السحر.
ثم تعمّد إيرميت أن يُحدث ضجةً أمام الباب ليُشعر سيد البرج بوجوده.
وسرعان ما فُتح باب المختبر قليلًا، وظهرت خصلات شعر أسود يشبه شعر إيفيريا وهي تتمايل. وقد توسّعت عينا سيد البرج قليلًا وهو يحدّق بإيرميت.
“ما الذي جاء بكَ إلى هنا؟”
“سيد البرج، لدي سؤالٌ يؤرقني.”
“……انصرف.”
كان كلام إيرميت مؤدبًا على غير عادته، فبدت على سيد البرج ملامح الانزعاج كأنه يرى أمرًا غير مألوف، ولوّح بيده رافضًا.
فراود إيرميت شعورٌ أن يقتحم المكان عنوة، لكنه كبح نفسه. فقد كان يدرك أن أي تجاوز، ولو صغير، سيجعل سيد البرج يمتنع عن لقائه لفترةٍ طويلة.
فعاد إلى مسكن الطلاب خالي الوفاض. وبعد أن أنهى محاضراته في الأكاديمية، خرج إلى خارجها.
كان قد جلب معه من القصر الإمبراطوري ومن قصر الدوق نيسبيروس مجموعةً من أندر الكتب عن السحر والذاكرة، لكنه كان يرى أن وفرة المصادر أفضل دائمًا.
لذلك قصد مكتبات العاصمة، وزار العرّافين في الأحياء الفقيرة، بل وقرأ حتى الكتب المشبوهة التي لم تُنشر رسميًا لافتقارها إلى المصداقية.
ومن خلالها أدرك أن سحر الأوهام يُعدّ أحد فروع السحر العقلي. ومع ذلك، لم يستطع أن يربطه مباشرةً بإيفيريا.
كرر زيارته لسيد البرج مرارًا، لكنه كان يُعامَل كأنه غير موجود. يتجاهله ببرود قاسٍ. فبدأ إيرميت يشعر أن صبره يوشك أن ينفد.
في الظروف الطبيعية، لكان قد أنهى استنتاجاته منذ زمن وانتقل إلى مرحلة اليقين، لكن السحر اللعين المفروض عليه كان يجبره على إعادة دورة التفكير ذاتها مرارًا بلا نهاية.
و أدرك أخيرًا أن السبيل لحماية ذاكرة إيفيريا والذكريات التي تجمعهما هو أن يبدأ بتحطيم السحر المضروب عليه.
حتى فكر للحظة في أن يهاجمه مباشرة، لكن الخوف تملكه: ماذا لو انتهى الأمر بمقتله؟ وإن مات فلن يرى إيفيريا أبدًا.
قبض على الكتاب بين يديه بقوة، ثم خاطب سيد البرج الذي تجاهله كعادته وهو يمر بجانبه.
“سيد البرج، دعني أقول جملةً واحدة فقط.”
“قلها.”
“دوقية نيسبيروس تعتمد على السيف أساسًا……ولسنا بارعين في السحر.”
ضحك سيد البرج ضحكةً قصيرة ساخرة. وقد فهم فورًا ما يقصده إيرميت: أنه اكتشف أمر السحر المفروض عليه.
وفي كلماته أيضًا نبرة لوم، لماذا أُطلق عليه سحرٌ بهذه القوة المفرطة بلا داعٍ؟
لكن بالنسبة لسيد البرج، لم يكن إلا كلامًا ساذجًا. لذلك لم يستطع إلا أن يبتسم بسخرية.
ومع ذلك، لا يسعه إلا أن يُقرّ بصلابة إرادة إيرميت نيسبيروس، وبعناده الذي يكاد يبلغ حدّ الهوس.
__________________________
يكاد؟ ذاه مختم الهوس في إيفيريا 😘
حسبت بيقول ماضيهم طلع هو بكبره ناسي اكثره ولا وش؟ او انه بس يبي يرجع ذكرياتها؟
كل فصل اتحمس لماضيهم وش صار عشان تصير ذا الحوسه 😔
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 75"