أومأت سينثيا بصمت، وقد أكّد لها سلوك إيفيريا أن ما قالته لم يكن سوى الحقيقة.
و عندما أعادت سينثيا الدفتر إلى إيفيريا وكأنها اقتنعت، ارتسمت على شفتي إيفيريا ابتسامةٌ رقيقة وأومأت برأسها. ثم سرعان ما تحولت نظراتها إلى الكتاب الموضوع أمامها.
أما عينا سينثيا فاتجهتا إلى الأمير نيسبيروس. الذي كان يحدّق في إيفيريا منذ لحظات طويلة دون أن يحوّل بصره.
نظراته المليئة بإيفيريا كانت من النوع الذي تعرفه جيداً…..نظرات تشعّ بدفء المودّة الغامرة. فعيناه البنفسجيتان كانتا تلمعان بصفاء، كأنهما تقولان إن مجرد الوجود بقربها يكفي ليجلب السعادة.
وما إن خفّ عنها التوتر، حتى بدأت تلتقط تفاصيل في الأمير نيسبيروس لم تلحظها من قبل. والفضل في ذلك يعود بالطبع إلى إيفيريا.
لقد شعرت بيقين غامض أنه، مهما كان انجذابه إلى إيفيريا، فلن يضرّها لمجرد قربها منها أو تبادل بعض النظرات.
ارتسم على ملامح سينثيا تعبيرٌ مُرضٍ، وقد سخّرت كل قسمات وجهها لتُظهر رضاها.
فما دام الأمر يروق لإيفيريا، فهو يروق لها أيضاً. بل راودها خاطرٌ أن التغيّر الذي طرأ على إيفيريا مؤخراً لا بد أن يكون له صلة بالأمير نيسبيروس.
إذ لا شيء يكسر صرامة حياة إيفيريا الجافة والقاسية سوى شخصٍ مبتكر ومختلف كالأمير نيسبيروس.
وما دامت تلك التغييرات إيجابية، فهي بدورها ترحّب بها.
***
كان الأمير نيسبيروس يظهر دوماً كمن يعرف مكان إيفيريا على وجه الدقة كلما جلست تدرس تحت شجرة الكرز.
وكان يحمل معه في كل مرة مشروباً، وحين تكررت عادته هذه، بدأت إيفيريا بدورها تحمل بعض الوجبات الخفيفة لتتناولها مع الشراب.
ارتشفت إيفيريا بوجه شارد قليلاً من المشروب الذي تحمله بين يديها. هو الآخر كان قد أهداه لها الأمير نيسبيروس.
والحق أنها في الآونة الأخيرة أفرطت في تناول الحلويات حتى صارت تخشى على نسبة سكر الدم لديها، لكنها رأت أن هذا أهون من شرب الجرعات السحرية في كل وقت.
ألقت إيفيريا نظرةً خاطفة إلى حيث يجلس الأمير نيسبيروس، فتقابلت أعينهما.
فأمال رأسه قليلاً، رافعاً حاجبيه كمن يتساءل إن كان لديها ما يشغل بالها. حينها ابتسمت إيفيريا بخجل.
فانحنى طرف عينيه بابتسامة لطيفة وهو يتحدث،
“ألا يوجد ما تودين سؤاله؟”
“لا، ليس الآن. وإن وُجد فحتماً سأطرحه عليكَ.”
فيما مضى، لو أرادت إيفيريا أن تحلّ سؤالاً واحداً لظلّت عاكفةً في المكتبة ساعات طوال، أما الآن فقد كان يكفي أن تسأل أحد العارفين من حولها لتجد الجواب سريعاً.
وكان الأمير نيسبيروس خصوصاً موسوعةً متحرّكة، واسع الاطلاع في شتى المجالات.
ولأنه كان دوماً بجوارها، مسخّراً اهتمامه لها، بدا طبيعياً أن يكون هو الضحية الأولى لأسئلتها المتكررة.
وما أدهشها أنها لم تظن يوماً أنها ستتكل بهذا الشكل على أحد، فكان داخلها مزيجٌ من الدهشة والحرج.
كانت تشعر أن ما تأخذه منه أكبر بكثير مما تمنحه هي، حتى خُيّل إليها أنها صارت إنسانةً عديمة الحياء.
لكن، وقد كانت تعرف قيمة الامتنان، عقدت العزم أن تكافئه بعد الامتحانات بهدية لائقة، أو وليمة شهية تليق بفضله.
***
لم تبقَ سوى أيام قليلة على الامتحانات.
تمددت إيفيريا فوق كرسيها في قاعة المذاكرة، لتتخلّص من تيبّس جسدها ببطء.
كان هذا أوّل امتحان تخوضه منذ ارتقائها إلى السنة الجديدة، وأرادت أن تُبلي فيه بلاء حسناً.
والحق أنها لم يسبق أن رغبت في العكس يوماً، لكن هذه المرة رغبتها أقوى. ومع ذلك لم تجهد نفسها كما في السابق.
لقد انقضى نصف سنواتها الأكاديمية بالفعل. أربع سنوات في المجموع، أنجزت منها اثنتين، ولم يبقَ سوى مثلها، ثم تنتهي رحلتها.
وحين تذكّرت أن السنة الرابعة تصنّف سنة تخرّج، يغلب عليها الأنشطة والممارسات أكثر من المحاضرات، و أيقنت أن هذا العام هو آخر أعوامها كطالبة تقليدية في الأكاديمية.
سقطت برأسها فوق الطاولة، تمرر أصابعها على حافة الكتاب المفتوح.
حاولت أن تفرغ ذهنها، لكن الأفكار كانت تتزاحم.
أغمضت عينيها. و بدا أن وقت العشاء قد حان، إذ تعالت أصوات أقدام الطلاب وهم يغادرون جماعات.
قبل أسابيع فقط، كانت لتكون بينهم، لكن الآن الأمر مختلف. فقد قال لها الأمير نيسبيروس منذ فترة أنه لن يتمكّن من تناول العشاء معها لبعض الوقت. وقد تقبّلت ذلك برضا، فهي الأخرى أحسّت بضغط الوقت بسبب المذاكرة.
أوصاها ألا تهمل طعامها ولو اضطرّت للأكل وحدها، غير أنها لم تجد دافعاً للذهاب إلى قاعة الطعام ما دام السبب الذي اعتادت من أجله المواظبة على العشاء لم يعد موجوداً.
‘ما الذي منعه فجأة من لقاءات العشاء تلك؟ هل طرأت حادثةٌ ما في قصر الدوق أجبرته على الانشغال؟ أم أنه ببساطة لم يجد وقتاً كافياً للمذاكرة؟’
اعتدلت في جلستها، و أسندت ذقنها إلى كفها، وابتسمت لنفسها بخفة.
فكرة أن “نيسبيروس” و”المذاكرة” قد يجتمعان في عبارة واحدة بدت لها غريبة، كأنهما كلمتان لا تنتميان لبعضهما.
مع أنها تعلم أنه يدرس بجد أكبر مما توقعت، إلا أن صورته الذهنية عندها لم تتناسب مع الكتب والدروس.
كان مشغولاً بحق، فقد غاب حضوره حتى في الأماكن التي كان من المعتاد أن تراه فيها صدفة. وتضاءلت لقاءاتهما إلى حدٍّ كبير، حتى أنها في الأيام القليلة الماضية لم ترَ وجهه أبداً.
حتى في المحاضرات المشتركة لم ترَ إيفيريا الأمير نيسبيروس. بالطبع قد يكون السبب أنها تجلس دوماً في الصفوف الأمامية، بينما اعتاد هو الجلوس في الخلف، فلم يقع بصرها عليه.
ترى…..هل طرأ أمرٌ طارئ؟
فبينما كان هو قادراً دائماً على العثور عليها حيثما كانت، لم تستطع هي بالمقابل أن تكتشف أثره متى غاب عن ناظريها.
حاولت إيفيريا أن تهدئ القلق الذي أخذ يتسرّب إلى صدرها، ثم أعادت نظرها إلى الكتاب المفتوح.
بدت غريبةً على نفسها، كيف يمكن أن تشعر بالاضطراب لمجرد غياب شخص واحد؟ لم يكن الأمر شبيهاً بقلق الفقدان، بل كان شعوراً مختلفاً، ومع ذلك أربكها.
ومضت الأيام حتى انتهت الامتحانات، من غير أن تتمكن إيفيريا من رؤية الأمير نيسبيروس.
وقد بحثت عنه عمداً في الأماكن التي اعتادت أن تلتقيه فيها: عند مطعم الأكاديمية، في قاعة المذاكرة، وحتى في ممرات التنزّه، لكنها لم ترَ ولو خصلةً من شعره الفضي.
ذلك الوجه الذي ملّته من فرط تكرار لقائه، غاب فجأة…..فشعرت بفراغ. وأدركت أن سبب عدم اشتياقها له في الماضي، لم يكن سوى لأنها لم تختبر غيابه يوماً.
‘…..كان يجدر بي أن أشكره.’
أما عن الامتحان، فقد خرجت بشعور جيد. ورغم أنها تعلم أن التفوق على الأمير نيسبيروس شبه مستحيل، إلا أنها اعترفت في نفسها بفضل تعليمه لها.
خلال الامتحانات دائماً ما كانت معضلتها ضيق الوقت، إذ لم يكن في طبعها أن تتجاوز شيئاً لم تفهمه، مما يدفعها إلى تقليص ساعات نومها.
لكن هذه المرة الأمر كان مختلفاً. فلقد كان بجوارها قاموسٌ حيّ، مكتبة تمشي على قدمين، بل وكأنها مزودة بخاصية البحث الفوري.
امتد عِلم الأمير نيسبيروس إلى آفاق لم تكن لتتصورها.
لقد أثقلته بديون كثيرة من المعروف، وبالحد الأدنى من الحياء كان عليها أن تفكر في ردّ جميله.
سيحين وقتٌ تراه فيه مجدداً، وعندها ستقول له شكراً كما يجب.
حاولت أن تخفف عن نفسها ثقل هذه الأفكار، وحوّلت مسارها عمداً إلى سؤال آخر،
‘ماذا يمكن أن أهديه للسيد نيسبيروس؟’
***
يوم إعلان النتائج، غالباً ما تنتهي الدروس مبكراً.
في ظهيرة ذلك اليوم، فتحت إيفيريا باب غرفتها برفق وألقت نظرةً إلى الداخل.
كانت تتوقع أن تجد سينثيا في الداخل على الأرجح.
وكما توقعت، تناهى إليها صوت حركة من الداخل.
فخطت خطوة إلى الأمام وسألت،
“سينثيا، ماذا تفعلين؟”
“أنا؟ كما ترين…..أتقلب على السرير.”
جاء صوتها كأنه مكتوم، إذ كانت فعلاً تعانق وسادتها وتتدحرج بكسل فوق السرير.
فوضعت إيفيريا يدها على فمها تكتم ضحكة خافتة. ثم دخلت الغرفة وجلست على الكرسي، منهكةً بعض الشيء.
كان في ملامحها قليلٌ من الكآبة الغامضة، فرفعت سينثيا رأسها عن الوسادة التي دفنت فيه ذقنها، ونظرت إلى إيفيريا.
“هل أدّيتِ الامتحان جيداً؟”
“أنا؟…..كما هو دائماً.”
“إذاً، نجحتِ فيه.”
ضحكت إيفيريا من نبرة سينثيا الهادئة التي أوحت وكأن النتيجة مؤكدة، ولم تلبث سينثيا أن ضحكت معها.
وما إن انفجر الضحك حتى لم يسهل إيقافه.
فحاولت إيفيريا أن تعض شفتها وتكتم ابتسامتها قبل أن تسأل،
“ما رأيكِ أن نخرج قليلاً؟”
“…..هل طلعَت الشمس من الغرب اليوم، أم ماذا؟”
“لو كان ذلك قد حدث لما كنا أحياء الآن…..آه، كنت أمزح.”
ردّت إيفيريا بمزحة ذات طابع جاد، فحدّقت سينثيا فيها بعينين نصف مغمضتين وكأنها تقول: “في يوم انتهاء الامتحانات، كان يمكن أن تختاري نكتةً أفضل.”
لكن هذا المظهر نفسه أضحك إيفيريا أكثر، فانفجرت مرةً أخرى بالضحك.
وبينما كانت تضحك، جلست سينثيا على السرير بعدما نهضت من استلقائها، وما زالت تعانق الوسادة وتضعها فوق ركبتيها، ثم أسندت ذقنها عليها و تحدثت بنبرة أشبه بالدلال،
“لنخرج…..و ستقومين أنتِ بشراء طعام لذيذ لي.”
“اتفقنا. وما الذي تشتهينه؟”
“لا أعلم…..شيئاً لذيذاً وحسب.”
ابتسمت إيفيريا بعينيها ضاحكةً من إجابة غامضة كهذه، ثم نهضت من مقعدها وقد رأت أن الخروج سريعاً أفضل.
“كم ستحتاجين لتجهّزي نفسكِ؟”
“يمكنني الخروج هكذا الآن.”
مدّت سينثيا ذراعيها بكسل، فرفّت عينا إيفيريا وهي تتأمل ملابسها.
وإن لم تخدعها ذاكرتها ولا عيناها، فإن ما ترتديه صديقتها الآن لم يكن سوى…..
“…..أليست هذه ثياب نوم؟”
“بلى.”
جاء جوابها واثقاً على سؤال بدا مرتبكاً. فضحكت إيفيريا مرة أخرى.
عندها وضعت سينثيا وسادتها جانباً وقفزت مسرعة من السرير. و تابعتها إيفيريا ببسمة هادئة.
ربما لأن الامتحانات انتهت، كان قلبها فارغاً قليلاً، تضحك لأتفه الأشياء و تجد في أبسط المواقف بهجةً خفيفة.
_____________________
اتوقع ذاه شعور الكل اذا خلصت الاختبارات😂
المهم صدق المثل ماتعرف قدر الشي الا اذا ققدته عنها اختفى ايرميت واشتاقت له🤏🏻
وشسمه تخيلوا ايرميت متعمد يختفي عشان تشتاق له؟ مع ان ما احسها حركاته😂
بس صدق شصار وين الناس
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 49"