زوالُ جيا تمامًا، وانغلاقُ الفضاء من بعده، لم يمنعا إيفيريا من التحديق طويلاً في الموضع ذاته.
“إيفيريا.”
“…….”
ناداها الأمير نيسبيروس، لكنها لم تُجب. كأن روحها قد تبعت جيا أيضًا إلى ما وراء البعد، إذ لم يكن في عينيها سوى شرودٍ عميق نحو الفراغ.
أرخى إيرميت نظره إلى إيفيريا بين ذراعيه.
خصلات شعرها الأسود تناثرت مضطربة، وجسدها الذي كان متوترًا قبل لحظات، غدا الآن واهيًا منهكًا.
التباين كان واضحاً. فكفّ عن مناداتها، و عمّ الصمت أرجاء القاعة التدريبية.
ظل ينظر إليها ساكنًا، كأنما يدرس ملامحها في هدوء.
وبعد لحظة، استوعبت إيفيريا أنها لا تزال بين أحضانه، بل مستندةً إليه تمامًا، حتى يده كانت ملامسةً لخصرها.
و بتحركٍ متثاقل، رفعت رأسها لتنظر إلى وجهه.
المسافة بينهما كانت ضئيلةً حد المبالغة، وكان كتفه وذراعه يحيطان بجسدها.
ولحسن الحظ كان الأمير نيسبيروس يصرف بصره بعيدًا.
دفء جسده تسلل من خلال ثيابٍ خفيفة، فأبقت إيفيريا كدميةٍ لا تفعل سوى أن ترمش بعينيها.
كانت ملامسته واضحة، وكان يفترض أن تشعر بالنفور، بل لقد حاولت قبل قليل أن تتهرب منه، غير أنّ الأمر بدا مختلفًا الآن.
لم يكن الأمر مزعجًا، بل غريبًا في طمأنينته، حتى أنها فكرت أنّ البقاء على هذا النحو ليس أمرًا سيئًا. برغم أن جسدها كان مائلًا في حضنه.
هل اعتادت احتواءه؟ أم اعتادت دفء جسده؟ أحقًا أصبحت تعتاد حتى هذه الأشياء؟
أخذت ملامحها تتبدل ببطء، كأن مشاعر متناقضةٌ تتناوب على وجهها. وقلبها، على نحوٍ غير مألوف، أخذ ينبض أسرع من المعتاد.
وكأنه شعر بنظراتها، حوّل الأمير نيسبيروس عينيه إليها. و راح يتأمل وجهها، متنقلاً بعينيه في ملامحها كما لو يبحث عن ملاذٍ يثبت نظره فيه.
وما إن التقت عيناها البنفسجيتان بعينيه حتى تجمدت لحظة، ثم نهضت بسرعة من اتكائها عليه.
كان قلبها ينبض بجنون، حتى أنها أحست بنبضه يجري في عروق جسدها بأكملها.
و لم تستطع النظر إليه، فأزاحت بصرها جانبًا في خجل. حينها فكّ هو ذراعه الملتفة حول خصرها ببطء، وأطراف أصابعه تكاد تلامس حاشية ثوبها الفضفاض.
لم يكن تلامساً حقيقيًا، ومع ذلك ارتجفت هي وردّت بانكماشٍ فوري.
ومن بعيد، خرج من فم سيد البرج صوتٌ خشنٌ لا يخلو من السخرية،
“ما الذي تفعلانه؟”
“……أما زلتَ هنا؟”
فسأله الأمير نيسبيروس بنبرة هادئة كأن الأمر عادي.
في الحقيقة، حتى إيفيريا نفسها كانت قد نسيت وجود سيد البرج إلى أن فتح فمه، فاشتعل وجهها بحمرة محرجة.
“أيعقل أن أُعامل كضَيفٍ ثقيل هكذا؟ بجدية…..حسناً، سأنصرف إذاً.”
رمقه سيد البرج بنظرة مستنكرة، فيما تابعت إيفيريا حركته بحذر، متوجسة.
ومثلما فعل مرارًا من قبل، بدأ يمشي نحو مدخل قاعة التدريب السحرية، لكنه سرعان ما توقف.
في الماضي كان يفضّل تجنب استخدام الانتقال السحري ما دامت الفجوة بين الأبعاد قائمة، إذ قد يكون الأمر محفوفًا بالمخاطر. أما الآن، فلم يعد ثمّة سبب ليمتنع عن استخدام سحره.
وسرعان ما غمر السواد جسده، متلاشيًا تدريجيًا تحت قوى السحر المظلم. بينما انحنت إيفيريا تحييه، ولوّح لها بيده، شبح صورته يختفي في الأفق.
وبزواله تمامًا، لم يبقَ في المكان سوى هي والأمير نيسبيروس.
تحركت إيفيريا بارتباك، وأدركت متأخرة أن مرافقة سيد البرج كانت أهون لها. إذ أخذت تتذكر ما بدر منها قبل قليل، و بدا لها تصرفها ساذجًا حد الحماقة.
كانت غافلةً عن نفسها، ولم تفق إلا متأخرة، تتصرف كأن هناك جزءاً ناقصًا من روحها. حتى أن العار تسلل إليها ببطء.
والآن أيضًا لم تكن تعرف كيف يجب أن تتصرف.
فخفضت بصرها إلى الأرض، وهي تشعر بأنها ناقصة على نحوٍ ما. عندها جاء صوته، هادئًا مألوفًا كما اعتادت، يسألها،
“كِدتِ تنجرفين مع التيار قبل قليل…..هل أنتِ بخير؟”
“نـ-نعم.”
أحست بمزيج غريب من الخيبة والاطمئنان في آن، وأجابت بسرعة، تراقب تعابيره.
وكان هو، كالعادة، يبتسم ابتسامةً هادئة أنيقة.
“هذا مطمئن…..إذاً، هل نغادر نحن أيضًا؟”
“…….”
و اكتفت بإيماءة صغيرة برأسها، دون كلمة.
***
بدا وكأن ذلك الجو الغريب الذي خيّم بينهما في وقتٍ سابق لم يكن سوى وهم عابر، إذ عادت العلاقة إلى ما كانت عليه.
افتقدت وجود جيا أحيانًا، لكن فراغها لم يطل، فقد غطته صخب الحياة اليومية بسرعة.
وكانت فترة الامتحانات في أوجها، فلا وقت للفراغ أو التذكر.
و حتى السبب الذي جعلها لا تنفر من لمسة نيسبيروس، أو بالأحرى جعلها تقبلها، لم تتوقف لتفكر فيه مطولًا.
فمشاغلها كانت أثقل بكثير من أن تترك لها فسحةً للتأمل في تلك التفاصيل. بل لقد بدت فترة الامتحانات، على ثقلها، كأنها منحةٌ تخفف عنها عبء الاشتياق وتبقيها مشغولة.
في تلك اللحظة، كانت إيفيريا جالسةً مع سينثيا تحت شجرة كرز عظيمة في ساحة الأكاديمية.
إدارة الأكاديمية وضعت هناك مقاعد وطاولات، لتذكّر الطلبة ألا ينسوا دروسهم حتى وسط المناظر الخلابة.
وقد جرّت سينثيا صديقتها من بين رفوف المكتبة المظلمة إلى هذا المكان، بحجة أن الشجرة ستغضب لو أخلّوا بعادتهم السنوية في المذاكرة تحت ظلالها.
ورغم انشغال الطلبة بالامتحانات، كان المكان مكتظًا بالبشر، أو لعلّه مكتظٌ تحديدًا لذلك السبب.
شعرت إيفيريا بحاجبيها يقتربان وهي تراقب حركة العابرين جيئةً وذهابًا. و عينيها الزرقاوان راحتا تتنقلان بين الطلبة، كأنها تراقبهم واحدًا تلو الآخر.
الطلبة كانوا يبتسمون بوجوهٍ متعبة، بينما كانت أشعة الشمس دافئة، والجو صافٍ، يومٌ كهذا يصلح للخروج والدراسة في الهواء الطلق.
‘أو بالأصح…..كي لا تشعر شجرة الكرز بالخذلان.’
ارتسمت على شفتي إيفيريا ابتسامةٌ صغيرة، ومسحت جانب عينيها بخفة.
لعلها نشوة الربيع، أو فتنة أزهار الكرز، أو مجرد بهجة عابرة…..لكن عقلها كان مشتتًا، والدراسة لا تستقر بين يديها.
ومع ذلك، ما من خيار سوى الاستمرار. فأطلقت تنهيدة قصيرة وفتحت كتابها بصعوبة.
اتسعت عينا سينثيا بدهشة، فيما رمشت إيفيريا سريعًا كأنها لا تفهم موضع الغرابة.
لكن سرعان ما أدركت السبب…..فهي لم تكن يومًا من المهتمين بالمهرجانات أو المسابقات، ومن الطبيعي أن تستغرب صديقتها هذا التغيير.
“فكرتُ فقط أنني بحاجة لتجارب مختلفة.”
وعلى الفور تذكرت وعدها مع الأمير نيسبيروس…..تلك الكلمات التي قالها عن مشاهدة الألعاب النارية.
تُرى…..هل ما زال يذكرها؟
أما هي، فذاكرتها لم تخنها. لكن هل كان اقتراحه مجرد مجاملة عابرة؟
تلاقت عيناها بعيني سينثيا. و كان في نظراتها معنى خفي، ثم تكلمت بصوت محمّل بقليلٍ من العاطفة،
“إيفيريا…..الآن أستطيع أن أموت مرتاحة. هرّتي الصغيرة قد تغيّرت..…”
كانت كلماتٍ لم تخطر ببالها قط.
و في الحقيقة، كانت تتوقع عتابًا على كتمانها خبر ذهابها، لا أن تسمع جملةً تصدمها.
فترددت لحظة، ثم سألت ببطء لتتأكد،
“……من التي تقصدين بالهرّة الصغيرة؟”
“من غيركِ؟ أنتِ طبعًا.”
أجابت سينثيا بنبرةٍ مرحة، مقرونةً بغمزة مشاكسة. و بدا أنها صارت أكثر جرأةً وخفة ظل مما اعتادت.
أما إيفيريا فبقي وجهها معلقًا بين ابتسامة مشوشة وانزعاج خفي.
“……هل يمكن أن يكون ضغط الامتحانات قد أثر عليكِ كثيرًا؟”
“ها؟ لا، أبدًا. ما الذي تقولينه؟”
إيفيريا لم تقتنع تمامًا، لكن ابتسامةٌ باهتة وضحت على محياها، وأومأت برأسها باستسلام.
ثم غاصتا معًا في الدراسة من جديد. ومع كل هبة ريح، كانت أوراق الكرز تتساقط بغزارة، تزين وجوههم وثيابهم.
فمدت إيفيريا يدها تُزيل ما علق على وجهها، بينما تبعثرت في الهواء أزهارٌ وردية كأنها همسات ربيعٍ عابر.
كان الأمر لا يسير كما تريد. فقطبت إيفيريا حاجبيها قليلًا ونفخت برفق لتُبعد ورقة كرز صغيرة سقطت على أرنبة أنفها.
وفجأة شعرت بوجود أحد خلفها، فالتفتت…..وإذا بالأمير نيسبيروس يقف وراء ظهرها، و لا تدري متى جاء.
تلاقت عينيهما، وارتبك وجهها على الفور. وما إن تذكرت أنها قبل لحظة فقط كانت منهمكةً في نزع بتلات الكرز عن وجهها بلا أي اعتبار للمظاهر، حتى ازداد ارتباكها أضعافًا.
أما هو، فابتسم كأن شيئًا لم يكن.
“ماذا تفعلين؟”
“…….”
و عندما لم تجبه، اقترب أكثر، وبابتسامته ذاتها ألصق على خدها شيئًا باردًا رطبًا.
ففتحت عينيها دهشة وتقلص عنقها تلقائيًا تحت وقع البرودة. بينما رفع الأمير نيسبيروس ذلك الشيء من خدها ولوّح به قليلًا أمام عينيها، وصوته يفيض بالود،
“اشربي وأنتِ تدرسين. لم أجلب جرعة علاج، بل مجرد شراب.”
“آه…..شكرًا جزيلاً.”
تناولت إيفيريا الشراب مرتبكة، وما إن ارتشفت منه حتى غمر فمها طعمٌ حلو منعش.
ثم جلس الأمير نيسبيروس بجوارها غير مبالٍ بالأنظار، متلقيًا نظرتها برضا.
“ظننت أنكِ لن تكوني وحدك، لذا أحضرت اثنين. لا تقلقي.”
قال ذلك، ثم مد يده الأخرى نحو سينثيا ودفع إليها زجاجة الشراب. فابتسمت له شاكرة، لكنها راحت تتنقل بنظراتها الفضولية بينه وبين إيفيريا.
لم تجد إيفيريا ما تقوله، فابتسمت بخجل، بينما أنزل نيسبيروس عينيه إلى الكتاب الذي أحضره معه.
أما سينثيا فأمالت رأسها وهي تحدق بخبث، و حاجباها معقودان وكأنها تلمح إلى شيء. عندها مدت إيفيريا دفتراً صغيرًا نحوها، وكتبت على صفحته،
[أصبحتُ أكثر ارتياحًا معه. لم يعد هناك ما يدعو للقلق.]
لكن مشاعرها الغامرة تسربت حتى إلى الكلمات، إذ تناثرت بقع الحبر على الصفحة كأنها تكشف اضطراب قلبها.
_____________________
ايفيريا بدت تحبه ! هاهاهاهاهاعاعاهاهاها
سيد البرج جاه جفاف بعد ذا الي شافه😭
المهم يجننننننووووون ادعم سينثيا تشبكهم
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 48"