والآن تحوّلت أنظار الجميع إلى إيفيريا، يترقّبون كلماتها.
كانوا يتبادلون النظرات فيما بينهم، كأنهم يحاولون أن يخفوا قلقهم لئلا يثقلوا كاهلها، لكن توترهم كان بادياً بوضوح.
“أنا….”
وكما توقّعت، ما إن فتحت فمها حتى انصبت أعينهم عليها دفعةً واحدة.
فابتسمت بخفة، ثم حوّلت نظرها نحو جيا وتابعت ببطء،
“أولاً…..شكراً لكِ. لأنكِ رأيتني أفضل مما أرى نفسي.”
ارتسمت على وجه جيا علامة ضيق، كأنها قد خمّنت مسبقاً ما سيأتي بعد هذه المقدمة.
بينما ألقت إيفيريا بنظرةٍ عابرة إلى سيد البرج ثم إلى الأمير نيسبيروس، فوجدت ملامحهما هما أيضاً
متوترة.
“لكن، لأقول النتيجة أولاً…..قراري هو البقاء في هذا العالم.”
ألقت بالكلمة قبل كل تفصيل، حتى لا يظلوا في قلق الانتظار. لكن نبرتها خرجت أكثر صرامةً مما أرادت.
فأغمضت عينيها لحظة، كأنها تفاجأت بصلابة صوتها، ثم التفتت سريعاً إلى الأمير نيسبيروس.
كان وجهه قد لان قليلاً عمّا كان عليه قبل لحظات، غير أنّ الكآبة لم تفارقه. فقد كانت تظن أنه سيفرح بقرارها، لكن ظنها أخطأ.
ثم انتقلت بعينيها إلى جيا. و لم يختلف وجهها كثيراً عمّا توقعت، لم يخلُ من خيبة الأمل.
شدّت إيفيريا شفتيها في ابتسامة رقيقة وأكملت،
“أنا ممتنّة حقاً، لكن إن ذهبتُ إلى هناك…..لن أستطيع أن أعيش كما أعيش الآن.”
“….…”
ففي ذلك العالم ستغدو شخصاً آخر تماماً.
ماضٍ مختلف، علاقات جديدة، معارفٌ ينبغي أن تُعاد من الصفر.
جيا كانت تنصت بتمعّن، تحدّق بعينيها إلى زرقة عيني إيفيريا التي تحمل عمقاً خفيّاً.
و وسط الصمت الثقيل الذي غلّف المكان، أضافت إيليريا بصوتٍ خافت،
“ثم أنني صرتُ أملك هنا أشياء كثيرة غاليةٌ على قلبي.”
تعلّقت نظرات الأمير نيسبيروس بملامحها، تحديداً عند عينيها.
و في حدّة نظرته وأناقتها المرهفة انسكبت مشاعر كثيرة متشابكة. كانت ثقيلة كأنها تُلقى عليها بوضوحٍ مفرط، حتى اضطرت أن تلتفت عنه سريعاً.
ذلك التنوّع في إحساسه كان غريباً عليها، بل لعلها المرة الأولى التي ترى مشاعره تتسرّب هكذا إلى السطح.
أما جيا فكانت تنظر بين الاثنين، بين إيفيريا ونيسبيروس، ثم فتحت فمها بعد صمت…..
“…..فهمت. إذاً لا حيلة لي في الأمر. لم أكن أنوي خطفكِ بالقوة أصلاً.”
“……”
كان عرضها مباغتاً، ورغم أن القرار كان دوماً بيد إيفيريا، ظل شعور الذنب يتسلل إليها لعدم قدرتها على تلبية رجاء جيا.
وما زاد وطأته أن وجه جيا عاد في لحظة لتعابيره المعتادة، وكأن شيئاً لم يكن.
وحين استعادت جيا خفتها المشرقة تحدثت،
“يبدو أنني تسرّعت في الكلام. حقاً، لم يكن سوى سؤال عابر. فلا تضعيه في بالكِ.”
ارتسمت على فم سيد البرج ابتسامةٌ صغيرة جانبية، فيها من السخرية بقدر ما فيها من اللامبالاة.
سؤالٌ عابر؟ لم يكن الأمر كذلك قط.
فهو يتذكر جيداً ملامح جيا حين سألته قبل وقت قصير إن كان بوسع شخص آخر أن يرافقها. و لم تكن تلك الملامح سوى قمة في الجدية.
والآن، بعدما أنكرت ذلك…..ترك سيد البرج نظراته تنسحب عنها بهدوء.
كان قد عرفها طويلاً بما يكفي ليدرك أنها إنسانة شديدة الإيجابية، تنهض بعد كل سقوط كأنها لم تُهزم قط، قادرةً على القيام مئات المرات إن انهارت عشرات.
وهو، حتى لو نفذ إلى أعماقها، فما الذي يمكنه أن يفعله حقاً؟ لا تعزية متعجلةً ستُجدي، ولا يستطيع أن يرسل إيفيريا معها ما دامت لا ترغب.
ثم رفعت إيفيريا صوتها الهادئ،
“…..جيا، أتمنى لكِ أن تعيشي بخير، وأن تؤدي امتحاناتكِ بنجاح، وتبلغي كل هدفٍ تطمحين إليه.”
فابتسمت جيا والدموع واضحةٌ في عينيها،
“وأنتِ أيضاً…..عيشي كما تريدين، وحققي كل ما تتمنينه، وافعلِي ما ترغبين به.”
تبادلت الاثنتان آخر كلمات الود، وقد امتلأت أعينهما بعاطفة لم تُعلن.
أمّا إيرميت، فقد حافظ حتى في هذه اللحظة على هدوئه المعتاد.
ثم تحدث، و كان صوته رقيقاً في ظاهره، لكن معناه لم يكن مواساة، بل وخزاً متعمداً شقّ دفء اللحظة و أوقف سكونها.
“هناك، لا يمكنكِ أن تتهوري وتضجّي كما تفعلين هنا.”
“وما الذي تظنني؟ مهرةٌ جامحة في جلد بشري؟”
“قريبٌ من ذلك.”
لم يكن في نبرة الأمير نيسبيروس ذرةٌ من الجدية أو العطف. فراحت عينا جيا تلمعان غضباً أكثر فأكثر.
“لماذا يا ترى كلما رأيتكَ تذكرت أخي الأكبر الغائب؟”
“وأنا…..لماذا كلما رأيت طالبةً جديدة تذكرت المهرة التي في إسطبل الدوقية؟”
حقاً، لا أحد منهما يتنازل في كلمة.
ومنذ أن أدركت إيفيريا أن هذا النوع من المشاحنات لا يجرح أياً منهما، صارت تكتفي بدور المتفرجة، بل وتجد في ذلك شيئاً من المتعة.
تذمّرت جيا أمامها بأن صورة الأخ الأكبر المثالي التي كانت في ذهنها قد تهشمت تماماً، لكن الأمير نيسبيروس ظل يردّ عليها بذات النبرة المملة المتثاقلة،
“إذاً…..متى سترحلين؟”
“…..واو، قاسٍ جداً.”
لم يدرك إيرميت من قبل أن صدره قد يضيق إلى هذا الحد. وكان له عذره في ذلك، فقد كاد يخسر فرصة رؤية إيفيريا من جديد.
صحيحٌ أن القرار كله عائدٌ إليها، لكن لولا جيا لما كان هذا الموقف قد وقع أصلاً.
ومع ذلك، لم يكن ذلك إلا حيلةً بائسة ليلقي باللوم على غيره.
وفي الوقت نفسه، شعر بقليلٍ من الفرح أيضاً، لأنه وجد نفسه مشمولاً في دائرة الأشياء الثمينة لدى إيفيريا.
غير أن هذا الفرح كان ممزوجاً بظلّ من الذنب. فالواقع المزعج أن عالم جيا بدا عالماً مثالياً بالنسبة لإيفيريا.
لو أنها وُلدت هناك، لحققت ما يفوق إنجازاتها هنا بجهد أقل بكثير.
ولعله، هو بالذات، كان أحد أسباب رفضها تلك الفرصة.
تجرأ على الاعتراف بذلك في داخله، لكنه سرعان ما وجد صدره يثقل أكثر فأكثر. فتقلّصت ملامحه شيئاً فشيئاً، ولعل هذا ما جعل وجهه يبدو عابساً منذ لحظات.
وبينما كان يتأمل شكوكه ومشاعره، كانت إيفيريا منشغلةً بالحديث مع جيا إلى جواره.
“على الأقل، الامتحانات في الأكاديمية قريبة. من حسن الحظ أنكِ ستغادرين قبل أن تبدأي بها.”
“آه، مؤسف.”
قالت جيا ذلك بملامح تخلو من أي أثر للأسف، مما دفع إيفيريا للضحك.
“جيا، ابتسامتكِ واضحة.”
“آه! لقد انكشف أمري.”
رفعت جيا يدها اليسرى إلى فمها بطريقة متكلّفة، ثم انفجرت ضاحكةً بخفة.
رغم أن إيفيريا رفضت عرض جيا، ورغم أن ساعة الفراق كانت تقترب، بقي جو الحديث بينهما شبيهاً بما كان دوماً، لا تثقله الكآبة.
بيتنا ظلّ سيد البرج يراقب تلك الأحاديث حتى ألقى جملته ببرود.
“لقد حان وقت الرحيل.”
“…….”
بهذه الكلمات وحدها، تجسّد الفراق فجأة وصار ملموساً.
شعرت إيفيريا بنبض قلبها يضطرب دون سبب مفهوم، فملأت صدرها بأنفاس عميقة محاولة تهدئته.
منذ لقائهما الأول، كانت إيفيريا تدرك أنه سيأتي يومٌ يفترقان فيه، وظنت أنها قد أعدّت قلبها لتلك اللحظة…..لكنها اكتشفت الآن أنها لم تكن مستعدةً أبداً.
ثم خرج صوتٌ منخفض يهمس بوداع،
“……اذهبي بأمان.”
“سأشتاق إليكِ…….”
كانت عينا جيا تلمعان كأن الدموع ستتفجر منهما في أية لحظة. لكن إيفيريا، دون أن تدري، دفعتها برفق لتقترب من سيد البرج.
و حول سيد البرج راحت أنوارٌ سوداء تتماوج، وما هي إلا لحظات حتى أخذ الفضاء يتماوج بدوره، ثم انشقّت فيه ثغرةٌ أخذت تكبر بسرعة.
ففتحت إيفيريا عينيها دهشة، وقد شعرت بالطاقة نفسها التي شعرت بها عند ظهور جيا أول مرة.
التفت سيد البرج نحو جيا. و أمامه كانت ثغرةٌ سوداء ضخمة تتماوج كالأمواج.
“……ادخلي من هنا.”
تحركت جيا بخطوات بطيئة وصامتة. و إيفيريا، خشية أن يقع أمرٌ خطير، كانت تتابع كلاً من حركتها وحركة الشق.
إنه ممرٌ بين العوالم. غير أن مجرد النظر إلى تلك الثغرة ولّد في قلبها خوفاً غامضاً. فداخلها لم يكن سوى عتمة حالكة.
هل يوجد حقاً عالم جيا خلف ذلك الظلام؟
الطاقة المنبعثة منه تشبه ما شعرت به حين سقطت جيا في هذا العالم، لكن الخوف الذي بثّه منظر العتمة لا يمكن إنكاره.
حتى جيا نفسها لم تستطع أن تخطو داخله بسهولة. و توقفت على الحافة، مترددة.
أما سيد البرج فنظر إليها بتفهّم، ثم أعاد بصره إلى الممر، كأنه يجري تفحصاً أخيراً.
وبعد لحظات قليلة، عاد يوجه إليها نظره مبتسماً بابتسامة مطمئنة، أراد منها أن تهدأ.
“لا تقلقي، الأمر آمن. لا خلل فيه، والطاقة القادمة من عالمكِ مستقرة.”
“……حسناً.”
أجابته بصوت خافت، وما زالت ملامحها تفضح خوفها. لكنها، وقد ارتعشت ساقاها، رفعت قدماً مرتجفة ووضعتها برفق على حافة الثغرة السوداء.
الأمير نسبيروس ظل يراقب المشهد بصمت دون أن ينطق كلمة، فيما إيفيريا تابعت بأنفاس مشدودة حركة قدمي جيا المرتجفتين.
ثم اندفعت إيفيريا بخطوة غير واعية نحو جيا، وكأنها أرادت مراقبتها عن قرب أكثر.
وما إن وضعت جيا قدمها أعمق قليلاً داخل الثغرة، حتى دوّى فجأة دوّامٌ هائل في داخلها، وبدأت هالات سوداء تلتف حول جسدها.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل انبعثت قوةٌ جاذبة هائلة كأنها تريد ابتلاع ما يحيط بها، وقد امتزجت بريح مضطربة.
بينما قدما إيفيريا، الواقفتان على حافة تأثير تلك الجاذبية، انزلقتا إلى الأمام، وكاد جسدها يُسحب إلى الداخل في طرفة عين. ففزعت وحاولت أن تتراجع سريعاً.
لكن قبل أن تتمكن من الإفلات، امتدت يدٌ قوية و أمسكت بذراعها وجذبتها إلى حضنٍ مألوف الدفء.
لامسها دفءٌ الم تختبره سوى مرات قليلة، لكنها كانت تعرفه جيداً.
فاتسعت عينا إيفيريا على آخرهما. و غريزياً حاولت أن تدفع ذلك الجسد الملتصق عنها، لكنها تذكّرت الموقف المهدِّد الذي كادت تسقط فيه، فتركت نفسها بين ذراعيه، وإن كانت القشعريرة لا تزال تسري على أطرافها.
شعرت كأن شعر جسدها كله يقف من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. و كتفاها انكمشا إلى الداخل فيما قبضت أصابعها بقوة، والارتجاف الطفيف لم يفارق جسدها.
كان ثَمّة أزيزٌ منخفض يتردد في الأجواء، و لعلّه خليط الريح والجاذبية المضطربة.
و بصعوبة رفعت بصرها نحو جهة جيا، فإذا بها محاطة بهالات لا شكل لها، ومع ذلك ترتسم على شفتيها ابتسامةٌ باهتة.
ثم لوّحت بيدها كما لو كانت تودّع للمرة الأخيرة، قبل أن يغمرها السواد المتكاثف تماماً…..ويبتلعها إلى غياهب العدم.
______________________
واو ايفيريا بغت تطيح ضحكت حسبت بيجي ارك كذا طاحت معها بالغلط وتحاول ترجع لعالمها😂
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 47"