حين علمت جيا أنها ستتمكن أخيراً من العودة إلى عالمها، كان أول ما سألت عنه هو إن كان بوسعها أن تصطحب شخصاً آخر معها.
كان ذلك أمراً ممكناً، بل أكثر من مجرد احتمال، و إذا أراد المرء إنجازه، فلن يعجز عنه.
وقد أجاب سيد برج السحر بالموافقة، وكان يخمّن في قرارة نفسه أي اسمٍ قد خطر في ذهن جيا حين طرحت سؤالها ذاك.
و لحسن الحظ، لم تُعمّق الحديث أكثر في ذلك الشأن.
ثم تتابعت أسئلتها المألوفة. كيف سيكون شأن الوقت؟ وهل ستبقى الذكريات هنا كما هي؟ ثم ماذا عن أولئك الذين يحيطون بها في عالمها الأصلي، كيف ستتأثر ذاكرتهم؟
كان سيد البرج يجيبها بتأنٍ وهو غارقٌ في تفكير طويل.
كان يعرف أن إيفيريا قد عانت الكثير بسبب مكانتها في هذا العالم. ولئن بدت حتى الآن غير مهتمة بالأمر، فليس ثمة ضمان بأنها ستبقى كذلك إلى الأبد.
أما عالم جيا، فلا شك أنه سيكون أرضاً خصبة لنجاح إيفيريا.
صحيحٌ أن إيفيريا قادرةٌ حتى في الإمبراطورية على بلوغ مكانة رفيعة، غير أن حجم الجهد المطلوب هناك يختلف تماماً، وكذلك الأعباء الجانبية التي يتوجب عليها تحمّلها.
وسيد البرج، لوآنس هيستيرون، كان يدرك كم هو شاقٌ ذلك الطريق. وسيساعدها بقدر ما يستطيع، لكن عون الغرباء له حدوده.
ولذلك لم يجد مانعاً من أن يمنح جيا ما يشبه الإذن. فشرح لها،
“غير أن عليكِ أن تفهمي يا جيا، أنا أستطيع فعل كل شيء، لكن موافقة الطرف الآخر شرطٌ أساسي. إن لم توافق إيفيريا، فلن يتم الأمر.”
“نعم، بالطبع.”
أجابت جيا ببساطة، وكانت واضحةً أنها فتاة تتحلّى بفكر سليم وأخلاق راسخة.
و كان في نفسه ميلٌ للاحتفاظ بإيفيريا هنا، غير أنه لم يدرِ ما الذي يحتويه قلبها هي.
ولذلك حين دعت جيا الأمير نيسبيروس عند رحيلها، على الرغم من أنه لم يكن في وارد استدعائه، كان لذلك سببٌ خفي.
فلو اختارت إيفيريا الرحيل مع جيا إلى عالمها، ثم علم الأمير نيسبيروس بالأمر بعد فوات الأوان، فقد تعصف العواقب بما لا يمكن احتماله.
وإلى جانب ذلك كان ثمّة دافعٌ أكثر أنانية…..
إذ كان سيد البرج يعلم أن إيرميت ينتمي إلى زمرة الأشخاص الأعزاء على إيفيريا. فما الذي قد يحدث لو كان حاضراً، وكان إيرميت أمام ناظريها؟ ألن يتبدل قرارها آنذاك؟
وفجأة تسلّلت فكرةٌ غريبة إلى عقل سيد البرج.
“…..لكن، ماذا لو قال إيرميت أنه يريد الرحيل معكم أيضاً؟”
“آه..…”
بدت الدهشة على وجه جيا وكأن الفكرة لم تخطر لها قط.
في الحقيقة، لو نظر المرء بعين العقل وحدها، لوجد أن الأمير نيسبيروس لم يكن يملك أي دافع يدعوه للرحيل.
لقد وُلد وفي يده كل ما يجعله متقدّماً على الآخرين، فلم يكن بحاجة إلى أن يتخلى عن هذا العالم.
لكن بالنسبة لإيرميت، كانت إيفيريا هي المتغيّر.
إن قررت إيفيريا الرحيل مع جيا إلى عالمها، فاحتمال أن يتبعها إيرميت كان أكبر بكثير من احتمال أن يقنعها بالبقاء.
أحسّ سيد البرج بصداعٍ يضرب رأسه، فتنهّد تنهداً قصيراً وهو يحدّق في زاويةٍ من الفراغ.
***
قبضت إيفيريا كفها حتى غاصت أظافرها في راحتها، ثم بسطتها ببطء.
لم تكن تدري ما الذي يحدث بالضبط. عرفت أن جيا سترحل، لكن…..هل يمكن أن ترحل هي أيضاً؟ هل الانتقال بين العوالم أمرٌ بهذه السهولة؟
ثم تحدثت جيا بصوت حذر،
“أختي…..لا، أقصد سينباي. سأشرح لكِ عن عالمي.”
“…..نعم.”
كانت إيفيريا قد شعرت بثقل الأجواء، لكن جيا واجهت ذلك بثبات.
“عندنا لا وجود لنظام الطبقات. كل من يجتهد يمكنه أن ينجح، وبالنسبة لكِ، سيكون عالماً سهلاً للغاية.”
“….…”
“أما ما يخصّ الهوية، أو السجلات الشخصية، فالسيد سيد البرج قال أنه سيتكفّل بها. لو رغبتِ بالمجيء إلى عالمي، فلا تقلقي بشأن التفاصيل الواقعية. لن يتطلب منكِ سوى أن تعيشي هناك، فقط.”
ابتلعت إيفيريا ريقها الجاف.
بدا العالم الذي وصفته لها جيا أقرب إلى مدينة فاضلة. وفي مكانٍ ما داخل قلبها، شعرت بغيرة دفينة.
كم كان أمراً يثير الحسد أن يعيش المرء في عالم كهذا، دون أن يخسر شيئاً.
بينما واصلت جيا كلامها برفق،
“بوسع عائلتي أيضاً أن تدعمكِ. والديّ لا يتدخلان بي، لكنهما يحرصان على أن لا ينقصني شيءٌ مادياً. أنا أعيش وحدي، فلا وجود لعائلة مزعجةِ ستقيدكِ. و أستطيع أن أوفر لكِ كل ما ترغبين به تقريباً. أما تكاليف الدراسة أو التسجيل، فلا تقلقي بشأنها على الإطلاق.”
“……”
“وإن رغبتِ، يمكنكِ العمل متى ما شئتِ. هناك وظائف جزئية، والتدريس الخصوصي متاحٌ بسهولة، لدي الكثير من المعارف بين الطلبة وأستطيع أن أساعدكِ. أما أن تجدي لنفسكِ مكاناً وتثبتي قدميكِ، فذلك لن يكون صعباً أبداً على قدراتكِ.”
وبهذه النقطة، ارتسمت على وجه إيفيريا ملامح معقدة يصعب تفسيرها.
كانت جيا تراقبها، وتستعيد ما سمعته يوماً عن الفتاة التي تتجول في أروقة الأكاديمية.
لقد سمعت من قبل أن موضوع الإعجاب قد ينقلب في لحظة إلى غيرة. لكنها لم ترَ ذلك بعينيها إلا مع إيفيريا.
كان في الأكاديمية كثيرون يجلّونها، وطلابٌ عديدون يكنّون لها الإعجاب، لكن في الوقت ذاته كان هناك من يتمنّى سقوطها بأي ثمن.
وسلاحهم الأول في حربهم ضدها كان الطبقة الاجتماعية.
‘حقاً، يا له من عالم مقرف.’
خفضت جيا عينيها في صمت.
كانت تعرف أن إيفبريا، بعقلها المنطقي، قد ترى كل عرضها ذاك ضرباً من الهراء الذي لا ينطوي إلا على الخسارة.
ولإقناعها حقاً، كان عليها أن تقدم سبباً وجيهاً. لذلك انتقت كلماتها بعناية، واستبعدت كل ما قد يجرحها، وأبقت على ما بدا وجيهاً في ظاهر الأمر.
ثم أكملت بصوت خافت،
“فقط…..كان من المؤسف أن أترككِ هنا. فأنا أعيش وحدي، وأشعر بالوحدة كثيراً..…”
غير أنّ إيفيريا أدركت تماماً ما تنطوي عليه عبارة “كان من المؤسف” التي تلفّظت بها جيا.
صحيحٌ أنها لم تكن سريعة التأثر بما يتناقله الناس، لكنها لم تكن صمّاء. و كانت تعرف جيداً ما يُقال عنها هنا وهناك.
ورغم أنها اعتادت أن تردّد في نفسها ألا تبالي، إلا أن شيئاً ما في أعماقها ظل يوجعها خفية. ولعل ذلك ما جعل قلبها يميل للحظة إلى عرض جيا.
هناك، ربما يتغيّر شيء ما. لعل الجدران الخفية، والنظرات المتعالية، والتمييز الذي سببته المكانة، وذلك الإحساس القاتل بعبثية الجهد، كلها ستتلاشى أو تقل على الأقل.
لم تعش يوماً في ذلك العالم، ولا تدري كيف يتعامل الناس بعضهم مع بعض، لكن على الأقل من الناحية المؤسسية، كان يبدو عالماً أعدل بكثير من هذا.
جالت عينا إيفيريا في أرجاء قاعة التدريب السحرية، ثم انخفض بصرها إلى الأرض.
غير أنّ الرحيل إلى عالم جيا كان يعني التخلّي عن كل ما راكمته طيلة عشرين عاماً في هذا المكان. قد يبقى شيءٌ من المعرفة، لكن ما ينبغي تعلّمه من جديد سيكون أضعاف ما بقي.
سمعتها، مكانتها، علاقاتها التي نسجتها في أكاديمية لاكانيل الإمبراطورية…..كل ذلك سيُمحى.
لم تكن واثقةً من قدرتها على أن تعيش بجدٍّ أكبر مما فعلت حتى الآن. ولا من قدرتها على إعادة بناء شبكة جديدة من العلاقات.
لقد حالفها الحظ فحسب حتى هذه اللحظة، فالتقت بناسٍ طيبين صنعت معهم ذكريات لا تُقدّر.
ترك لاكانيل….ترك الإمبراطورية….لم يكن إلا مرادفاً لترك كل هذا وراءها.
لمست خاتمها في يدها اليسرى وعبثت به، وأسدلت رأسها حتى انسدلت خصلات شعرها السوداء على كتفيها.
كان شعرها يختلف عن شعر جيا، إذ كان يتلألأ بلمحة زُرقة داكنة.
ثم رفعت رأسها قليلاً، ومسحت على خصلاتها بابتسامة خفيفة.
لو أنّها التقت بجيا في مثل هذا الوقت من العام الماضي، لربما اختلف الأمر. لعلها كانت ستتردّد أكثر مما هي عليه الآن.
وربما، بعد طول تردّد، كانت ستقرر عبور العتبة إلى عالم جيا…..دون أن تفكّر فيمن سيتخلف وراءها، ودون أن تعير اهتماماً لمشاعرهم وجراحهم.
رفعت بصرها، فأدارت نظراتها بين سيد البرج، والأمير نيسبيروس، ثم جيا. فرأت في وجوه الاثنين الأوّلين قلقاً مبطناً، وفي وجه الثالثة رجاءً واضحاً.
لقد اتخذت قرارها.
إيفيريا لم ترد أن تهجر عالمها، ولا كل ما أحبّته فيه. و لم ترغب في التخلّي عن حياتها التي نسجتها بخيوطها حتى اليوم.
لم يكن انتقالها إلى عالم جيا ضماناً لأي تحسّن. وكان الثمن المطلوب مقابله باهظاً جداً.
كانت الاحتمالات في كفّة، والهوية في كفّةٍ أخرى. عالمٌ يمكن أن يكون مثاليّاً، في مواجهة عالم هو أصلها وجذرها.
وبعد أن رجّحت أيّ الكفتين أعزّ لديها، انتقل همّها إلى سؤال آخر.
كيف ترفض من غير أن تجرح قلب أحد؟
وفي تلك اللحظة، اخترق التوتر صوتٌ متعجل،
“سيد البرج، هل أستطيع أنا أيضاً أن أذهب؟”
“متى طلبتُ ذلك منكَ؟”
تبادل الأمير نيسبيروس وسيد البرج الكلمات، وعلى وجه سيد البرج ارتسمت ابتسامةٌ تنمّ عن أنه كان يتوقع هذا تماماً.
وبينما كان يتأمل ارتباك الأمير نيسبيروس الذي بدا أشد مما ظن، ظهرت على ملامحه لمحةٌ من الفضول والمتعة.
كان الأمر في جوانب كثيرة أبعد من كل تصوّراته، ولذلك بدا له أكثر إثارة.
كادت تساوره فكرةٌ أن يمازح إيرميت قليلاً، لكنه سرعان ما تذكّر أن هذا ليس مجالاً للعب، فتابع كلامه بهدوء،
“لقد أتممتُ الصيغة بالفعل. إن أردتَ الرحيل، يمكنك أن ترحل. لكن…..ما الداعي حقاً؟”
“…….”
“إيفيريا قد يكون لها مبرر، أما أنتَ…..فقد وُلدت وفي يديكَ كل شيء.”
وحدها إيفيريا لم تفهم المعنى الكامن. أما سيد البرج فقد كان يعلم تماماً، ومع ذلك تظاهر بالسؤال، في مزحة مبطّنة تكشف جانباً آخر من طبعه الماكر.
كان سيد البرج يعرف منذ وقت طويل، وجيا كذلك. فما إن وقع بصرها على إيفيريا والأمير نيسبيروس معاً حتى استشفّت الحقيقة.
كان يكفي أن تراقب نظراته ونبرات صوته حين يتحدث مع إيفيريا ليتضح كل شيء. و العجيب هو أن الآخرين في هذا العالم لم يلحظوا اختلاف سلوكه، كأن أعينهم قاصرةٌ عن رؤية ما يراه أي غريب.
نظر الأمير نيسبيروس إلى إيفيريا لحظة، ثم حوّل بصره إلى سيد البرج.
“ألن تجيب على بسؤالي؟”
“يكفي، لا داعي للمزيد. المهم أنه ممكن.”
ابتسم سيد البرج ابتسامةً خفيفة، وبدت على وجه الأمير نيسبيروس علامات ارتياح. و وحدها جيا قبضت ملامحها في ضيق ظاهر.
“آه…..ولماذا تريد مرافقتنا أصلاً؟ أنا لا أحتاج إلا إلى أختي إيفيريا. أما أنتَ….فلا فائدة منك.”
فانفجر سيد البرج ضاحكاً.
لقد أظهرت جيا مرةً أخرى ذلك الوجه الذي لا يُدرى إن كان تهوراً أحمق أم شجاعةً صافية.
هل كان السبب أنها لم تفكر قط بالعيش في هذا العالم إلى الأبد؟ أم أنها كانت واثقةً من أن الأمير نيسبيروس لن يؤذيها؟ أياً يكن الجواب، فمما لا شك فيه أنها لم تكن شخصاً عادياً.
وبينما كانوا يتبادلون الكلمات القصيرة، كانت إيفيريا قد أنهت صراعها الداخلي، وشعرت بأن الجو صار أخفّ.
و أحست بالارتياح حين أدركت أنها لم تعد مضطرةً إلى حمل عبء تلك الأجواء الثقيلة وحدها.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 46"