كان سيد البرج جالساً أمام طاولة في زاوية الغرفة. و على سطحها كانت تنتشر أوراقٌ مكتظة بالأرقام، بينما كان القلم يطير فوقها ويخطّ بسرعة.
نادراً ما يحدث ألا يشعر بوجود أحد، لكن يبدو أنه كان غارقاً في التركيز هذه المرة.
فجلست إيفيريا على الأريكة في وسط الغرفة، وهي المكان الذي اعتادت الجلوس فيه كلما جاءت إلى مكتبه.
ولحسن الحظ، كانت قد أحضرت معها ما تدرسه.
ولتصفية ذهنها قليلاً، مارست بعض التمارين على الحسابات السحرية، ثم بدأت بحفظ الجدول الزمني، وهو لمادة ثقافية تتناول بالتفصيل الفترة الفاصلة بين تاريخ الإمبراطورية المقدسة وتاريخ الإمبراطورية الحديثة.
وحين وصلت إلى منتصف دفتر ملاحظاتها تقريباً، توقف صوت القلم وهو يخطّ على الورق. فرفعت إيفيريا بصرها نحو سيد البرج.
ويبدو أنه هو الآخر كان ينظر إليها، فالتقت عيناهما مباشرة. و اتسعت عينا سيد البرج قليلاً وهو يراها.
“آه، إيفيريا؟”
“مرحباً، سيد.”
حيّته وهي تنتقل لتجلس أقرب إلى الطاولة، حيث كان هناك كرسيٌ إضافي بجانبه.
بدت على وجه سيد البرج ملامح الحيرة وكأنه لا يدرك سبب وجودها هنا، رغم أنها كانت قد حددت الوقت والمكان وسألته إن كان مناسباً.
لم تشعر بأي انزعاج، فهي تعرف أن الانغماس الشديد في العمل قد يجعل المرء ينسى بعض الأمور، وهي نفسها مرت بمواقف كهذه.
كانت تكتفي بابتسامة هادئة، حتى قطّب هو حاجبيه قليلاً، واضعاً أصابعه على صدغيه، قبل أن يعتذر،
“…..آه، صحيح، قلتِ أنك ستأتين اليوم؟ آسف.”
“لا بأس. هل يمكن أن أساعدكَ في شيء؟”
أجابت إيفيريا وكأن الأمر عادي تماماً، لكن سيد البرج رمش بضع مرات، وكأنه سمع كلاماً لم يكن يتوقعه.
وحتى صوته حين نطق بعدها حمل قدراً طفيفاً من الارتباك.
“آه، مهلاً…..هل هذه هي غايتكِ من الزيارة؟”
“نعم…..ألا تثق بي؟”
عدّلت إيفيريا جلستها، وحدقت في وجه سيد البرج بعينين أرادت لهما أن تبعثا أكبر قدر ممكن من الاطمئنان.
أما هو، فبدأ بجمع الأوراق المبعثرة أمامه بعناية، دون أن يزيح بصره عنها.
“لا، ليس الأمر كذلك. إذا كنتِ ستساعدينني، فأهلاً بكِ في أي وقت..…”
“حسناً.”
أكمل سيد البرج كلامه بنبرة لا تزال مترددة.
“لكن…..أليست فترة امتحانات الأكاديمية الآن؟”
“صحيح.”
“…..أشعر وكأني إنسانٌ بائس جداً.”
ثم أضاف أنه ليس في حالةٍ سيئة لدرجة أن يطلب المساعدة من طالبة ما زالت في فترة امتحاناتها.
عندها خفضت إيفيريا بصرها نحو دفتر الملاحظات الذي تمسكه بين يديها.
لكن فكرة أن تغادر من هنا دون أن تفعل شيئاً، أثقلت ضميرها بشدة. فهي، في نهاية الأمر، السبب في سقوط جيا في هذا العالم، والسبب أيضاً في أن سيد البرج يعاني الآن من هذا الجهد غير المألوف.
فقربت إيفيريا كرسيها أكثر وجلست في وضع استعداد.
“ألن يكون مسموحاً أن أقوم ولو بشيءٍ ما؟”
“….…”
ساد الصمت لبرهة، وحدق سيد البرج في وجهها بعينين تحلّلان وكأنهما تدرسان ملامحها بعناية.
وبعد هذا السكون، تكلم ببطء.
“قلت لكِ أن الأمر ليس بسببكِ.”
“….…”
كانت تلك من أكثر الكلمات التي لم تبعث في نفسها أي عزاء. بل أن ملامحها ازدادت قتامةً أكثر مما كانت عليه، ما دفع سيد البرج إلى الإسراع في الكلام.
“حسناً، إذا أصررتِ…..ساعديني فقط في المراجعة. لننتهي بسرعة، ثم تعودين.”
“حسناً.”
لقد رأى أن منحها مهمةً سيكون أفضل لتخفيف العبء النفسي عنها، خاصةً وأن الحسابات يمكن الوثوق بها إذا قامت بها إيفيريا.
ثم إن المراجعة مهمةٌ أخف، وفرصة الخطأ فيها أقل بكثير.
فابتسم سيد البرج ابتسامةً باهتة وهو يحدق في تعابيرها.
***
مدّت إيفيريا جسدها المتصلب بتكاسل، وحين نظرت إلى الوقت، وجدت أن ساعات طويلة قد انقضت.
حتى أن الأوراق التي كان عليها مراجعتها تقلصت بشكل ملحوظ.
وبينما كانت إيفيريا تحاول تقدير المدة التي قد يستغرقها العمل حتى يكتمل، أشار لها سيد البرج بيده إشارةً واضحة تدعوها للمغادرة.
“اذهبي الآن، يكفي هذا. أوشكتُ على الانتهاء.”
“إذاً سأعود أولاً. شكراً لك.”
أدركت أن بقاءها أكثر من ذلك لن يزيده إلا إرهاقاً، فاختارت الانسحاب بسلاسة.
ومن خلال الفتحة الضيقة بين مصراعي الباب، لمحت سيد البرج منهمكاً في حل المسائل على الورق.
خرجت إيفيريا تسير ببطء نحو المكتبة، وهي تستعيد في ذهنها الحسابات التي رأت سيد البرج يقوم بها قبل قليل.
لم يكن عبثاً أن يُلقب بسيد البرج؛ كانت حساباته نظيفة، خالية من الضياع، سريعة ودقيقة.
نعم…..كان حقاً رجلاً استثنائياً، وأثار في نفسها شعور الإعجاب.
وفوق ذلك، كانت النتائج تقترب شيئاً فشيئاً من قيمة محددة. و شعرت أن تحديد إحداثيات العالم الذي جاءت منه جيا بات قريباً. ربما…..ربما يمكن إعادتها قبل موعد الامتحان.
…..هل عليها أن تخبر جيا؟ أن تعترف بأنها السبب الحقيقي في سقوطها إلى هذا العالم؟
فتحت إيفيريا دفترها محاولةً تفريغ رأسها من الأفكار المعقدة، لكن الحروف المألوفة قفزت من أمام عينيها وكأنها غريبةٌ عنها.
فعضّت على شفتيها بقوة ثم هوت لتجلس على مقعد خشبي في ممر المشاة القريب. لقد كانت بحاجة لشيء يسرق انتباهها كلياً.
ضغطت بأصابعها على طرفي عينيها، ومضت لحظات قليلة قبل أن يطرق سمعها صوتٌ تعرفه جيداً. فتصلبت حركة جسدها فوراً، بدافع غريزي.
“مرّ وقتٌ طويل.”
“…..أحيي صاحب السمو ولي العهد.”
صوتٌ بارد، واضح النطق، هادئ لكنه يحمل مسافةً فاصلة.
وقفت إيفيريا على الفور وانحنت برأسها بسرعة.
“ألم يحدث لك شيء خلال هذه المدة؟”
“…..لا، أقضي أيامي بسلام…..وسعادة أيضاً.”
قالت كلماتها وهي تتحكم في نبرتها حتى لا تتلعثم. لكن عدم قدرتها على رؤية ملامح ولي العهد جعل قلبها يضطرب قليلاً.
ثم سمعت وقع خطواته يقترب، فابتلعت ريقها بصعوبة.
“ارفعي رأسكِ، فلنجلس. ساقاي تؤلماني.”
“حاضر.”
كانت جملةً قصيرة، لكنها حملت ما يكفي من الثقل.
جلست إيفيريا بجسـد متصلب على المقعد، تحافظ على الوضعية الصارمة نفسها، وعيناها لا تزالان مثبتتين على الأرض.
من المؤكد أن ولي العهد قد تخرّج من الأكاديمية، بل أنها قرأت في الصحف أكثر من مرة خبر تخرّجه هذا العام، لكنها لم تفهم كيف انتهى بهما الأمر ليلتقيا مجدداً.
دفعت إيفيريا الأرض بخفة بطرف حذائها، وهي تحاول تثبيت قدميها. بينما كان ولي العهد يراقب حركتها قبل أن يتابع كلامه ببطء.
“إذاً، لم يحدث شيء يذكر حقاً.”
“نعم، هذا صحيح.”
“ولو سألتُ سيد البرج، سيجيبني بالمثل.”
“…..أنا لا أعرف تفاصيل حياة سيد البرج.”
شعرت بالارتياح لأنها لم تضطر للنظر في عينيه الآن، وحاولت أن تنتظم في تنفسها بعدما شعرت للحظة أنه انقطع.
هل من الممكن أن العائلة الإمبراطورية قد لاحظت شيئاً؟ وهل يتعلق الأمر بجيا؟ وهل كان سؤال ولي العهد عن أحوالها مجرد عبارة مجاملة…..أم أنه يخفي شيئاً آخر؟
عبثت إيفيريا بأطراف أصابعها، بينما ولي العهد ألقى نظرةً واسعة على الأشجار والأزهار التي تتمايل مع النسيم، ثم عاد ليثبت بصره عليها.
“حسناً، الآنسة إيفيريا.”
“…….”
حقاً…..كان ولي العهد شخصاً يستحيل معرفة ما يدور في داخله.
أغمضت إيفيريا عينيها بإحكام ثم فتحتهما، فتابع هو بنبرة أكثر دفئاً قليلاً،
“آه…..لم آتِ إلى هنا لأحادثكِ في أمور الحياة التافهة. انظري إلى شرود ذهني.”
كان بذلك يرسم حدوداً واضحة لما سألها عنه قبل قليل، وكأنه يقول أنه بلا مغزى خاص. فأخذت إيفيريا نفساً عميقاً، بينما أخرج ولي العهد زفيراً خشناً يكاد يكون أقرب إلى تنهيدة، ثم عقد ساقيه.
“لن يتزوج.”
“…”
“إيرميت…..لم تتم خطبته.”
كانت معلومةً لا فائدة تُرجى من معرفتها. وبما أنها لم تعرف السبب الذي جعله يشاركها بها، لم تعرف أيضاً كيف يجب أن ترد.
أخذت إيفيريا تعيد تدوير هذه الكلمات في رأسها، وأصابعها تعبث بالخاتم في يدها، قبل أن تخرج من فمها إجابة آلية،
“شكراً…..على إخباري.”
“نعم، جيد. أشكركِ كثيراً، وسيكون أفضل إن لم تنسي هذه المكرمة.”
كان كلامه، من حيث المضمون، أشبه بمزحة، لكنه قاله بمنتهى الجدية. فاضطرت إيفيريا أن تجيب بالجدية نفسها.
“حسناً، مفهوم.”
“إذاً…..اعتني بنفسكِ جيداً.”
نهض ولي العهد، فبادرت إيفيريا بدورها إلى الوقوف، وانحنت تحيةً له.
وهكذا انتهى ذلك اللقاء الغريب في ذلك اليوم. وأدركت إيفيريا أنها ما زالت تشعر بقدرٍ لا بأس به من الخوف تجاه ولي العهد.
وربما كان ذلك أمراً طبيعياً، فحتى لو لم يكن هو السبب المباشر، فإن مساهمته في حادثة سقوطها مغشياً عليها خلال المهرجان كانت حقيقةً لا جدال فيها.
***
كانت إيفيريا تشعر دائماً أن الوقت يمر أسرع من المعتاد خلال فترة الامتحانات.
وبلا شك، كانت تلك الفترة قد حلّت الآن. قحتى سينثيا، التي كانت تنكر تماماً أن الامتحانات قريبة، وتقضي وقتها في التسكع، بدأت ترافق إيفيريا إلى المكتبة كلما ذهبت.
وأحياناً، وبحجة أنها بحاجة إلى بعض الهواء، كانت سينثيا تقترح أن يدرسا معاً تحت شجرة الكرز أمام المبنى الرئيسي للأكاديمية. والغريب أن شجرة الكرز داخل الأكاديمية كانت تتفتح أزهارها وتتساقط متأخرةً عن أشجار الكرز خارجها.
لكن فترة الامتحانات هذه لم تكن مثل سابقاتها بالنسبة لإيفيريا، فقد ظهرت في حياتها متغير جديد يُدعى جيا.
كان إصرارها على إعادة جيا إلى عالمها بأسرع وقت كما هو، ولهذا استمرت في زيارة مكتب سيد البرج بانتظام، رغم اقتراب الامتحانات أكثر فأكثر. وكان لديها شعورٌ قوي أن الإحداثيات الصحيحة ستظهر قريباً جداً.
وفي الوقت نفسه، غرقت إيفيريا في صراع داخلي عميق. هل عليها أن تعترف لجيا بأنها السبب الأكبر في سقوطها في هذا العالم؟
في الواقع، كان الاعتراف هو الخيار الصحيح على ما يبدو…..لكن مشكلتها أنها كانت جبانة. وكان شعورها أنها قد تعجز عن حشد الشجاعة اللازمة حتى اللحظة التي تعود فيها جيا إلى عالمها.
اندفعت مشاعر الإحباط في صدرها، فوضعت جبينها على الطاولة وهي منحنية، لكن لم تستطع التنهد لأنها كانت في قاعة المذاكرة.
وفجأة، شعرت بحضور مألوف. فرفعت إيفيريا بصرها نحو مدخل القاعة، و رأت خصلات شعر سوداء تعرفها جيداً. و اتسعت عيناها قليلاً.
كانت جيا.
أخذت جيا تدير رأسها وكأنها تبحث عن أحد، وحين التقت عيناها بعيني إيفيريا، أشرقت ابتسامةٌ مشرقة على وجهها، ثم بدأت تتجه نحوها.
لكن بما أن القاعة كانت ممتلئةً بالطلاب الذين يدرسون، أدركت إيفيريا أن جيا لا بد أنها جاءت لغرض محدد، وأن الحديث معها هنا قد يزعج الآخرين.
لذلك هزّت رأسها برفق، مشيرةً لجيا ألا تقترب، وبدأت تنهض من مقعدها ببطء.
____________________
ولي العهد عسا ماشر تشبكهم يعني؟😭 شخصيته حلوه الصدق يصلح امبراطور مره
المهم ايرميت وين غرق في ذا الفصل
وجيت وسينثيا ماتصادقوا😔
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 44"