لحسن الحظ، كان الجو بينهما أكثر هدوءًا من قبل، بفضل ضحكة إيفيريا التي قطعت حدة النزاع بينهما.

و بالطبع، لم يكن الأمر يعني أنهما توقفا تمامًا عن الشجار، فمبارزة النظرات بين الأمير نيسبيروس وجيا ما زالت قائمة.

حين أحضر الأمير نيسبيروس حلوى غزل البنات، أسرعت جيا، وكأنها لا تريد أن تُهزم، إلى شراء وجبة خفيفة أخرى. أما إيفيريا، فأكلت من الاثنتين بعدل، ثم ناولت كلًّا منهما مشروبًا.

كان الجو رائعًا؛ سماءٌ صافية زرقاء، وطقسٌ معتدل لا بارد ولا حار، وزهور الكرز تتناثر أحيانًا مع نسمات الريح، فتزيد المشهد جمالًا تحت أشعة النهار المشرقة. 

كانت إيفيريا تمشي ببطء، محدقةً في الحد الفاصل بين أشجار الكرز والسماء. أما الأمير نيسبيروس، فكان يراقبها خشية أن تتعثر بحجر لم تلمحه، أو تخطئ في وضع قدمها فتقع.

وجيا كانت تتابع ذلك المشهد وكأنها تشاهد فيلمًا، تتسلى وكأن الأمر أشبه بمضغ الفشار. 

فمهما كان، من حيث المظهر الخارجي فقط، كانا يشكلان ثنائيًا متناغمًا. أما وجود دخيلةٍ مثلها والحكم على انسجامهما، فكان أمرًا يبعث على السخرية.

لكن وجه جيا غشاه ظلّ خفيف؛ إذ أدركت مجددًا أنها في هذا العالم ليست سوى دخيلة، جسمٌ غريب لا ينتمي الى هنا.

على الأقل، وهي بين الناس، وخصوصًا بجانب إيفيريا، نادرًا ما شعرت بالعزلة أو بالغربة. لكن عندما تكون وحدها، كانت كثيرًا ما تغرق في شعور غريب لا يمكن السيطرة عليه.

قلقٌ حول ما إذا كانت ستستطيع العودة إلى عالمها، شوقٌ للأشخاص الذين تركتهم خلفها هناك، وعجزٌ أمام حقيقة أنها لا تملك ما يمكن فعله لحل الموقف الحالي.

كل تلك المشاعر جاءت من الإحساس بالغربة، وكأنها مزيجٌ معقد من عواطف متشابكة بلا ترتيب.

ستعود…..ستتمكن من العودة…..إلى عالمها الذي يمنحها الطمأنينة.

دفنت جيا هذه الأفكار المولدة لكل ذلك التعقيد.

فعلى الأقل، في هذه اللحظة، كانت سعيدة. وربما، في المستقبل، ستتذكر هذه الأيام وتحنّ إليها.

***

وبعد أن تجولوا قليلًا، التفتت إيفيريا فجأة بدافع فضول نحو جيا وسألتها،

“جيا، في العالم الذي كنتِ..…” 

ثم توقفت فجأة. و رمقت الأمير نيسبيروس بنظرة سريعة، فهو لم يكن يعلم بعد أن جيا جاءت من عالم آخر. 

لقد كانت على وشك أن تفشي الأمر من دون إذن جيا.

فلامت نفسها قليلًا على هذه الزلة، ثم اقتربت منها لتهمس في أذنها. 

كان المشهد بينهما يبدو حميميًا للغاية، أما هو، فاكتفى بالتحديق فيهما بعينين لا تُقرأ مشاعرهما، في حين أن إيفيريا لم تلاحظ شيئًا.

“هل يمكنني أن أخبر الأمير نيسبيروس بحقيقة أنكِ جئتِ من عالم آخر؟”

“نعم، لا مانع لدي.”

الانتقال بين الأبعاد…..حالةٌ نادرة للغاية، نادرةٌ لدرجة أن من يعرف بها قد يجعل صاحبها هدفًا في لحظة.

لهذا، لم يُفصح سيد برج السحر ولا إيفيريا عن حقيقة جيا لأحد، بل ونصحوها إذا سُئلت عن أصلها أن تجيب بأنها قادمةٌ من مكان بعيد وحسب.

وصادف أن لون شعر جيا وعينيها كانا أسودين تمامًا مثل سيد البرج، مما جعل بعض الطلبة يظنون خطأً أنها من نسله.

وحين علمت جيا بهذا الالتباس وشعرت بالارتباك، سألت سيد البرج، لكنه نصحها ألا تُصحح الفكرة، مؤكدًا أن بقاء هذا الظن ربما يكون أمانًا لها من تهديدات مجهولة.

أما هذه المرة، فإخبار الأمير نيسبيروس بالحقيقة كان بدافع أن معرفته قد تجعل حياة جيا وإيفيريا أسهل فيما بعد.

وسيد البرج نفسه كان قد قال أنه لا بأس من إخباره، كما أن الأمير ـ في نظر إيفيريا منذ لقائهما ـ رغم مظهره اللامبالي، كان شخصًا يمكن الوثوق به في أمور كهذه.

ولو أن جيا رفضت، لما كانت إيفيريا لتبوح، لكنها لحسن الحظ وافقت بلا تردد.

فابتسمت إيفيريا بملامح أشرق عليها الارتياح، ثم التفتت نحو الأمير نيسبيروس، لتجده يحمل تعبيرًا كئيبًا واضحًا.

إيفيريا وجيا كلتاهما كانتا متأكدتين أن هذا مجرد تمثيل. 

و سواءً كان كذلك أم لا، فقد أطلق الأمير صوته الحزين ليتوافق مع ملامحه،

“هل تتحدثان الآن وتستثنيانني، يا إيفيريا؟ أنا أشعر بالخذلان..…”

“سيد نيسبيروس، لدي ما أخبركَ به.”

في الأوقات العادية لكانت ستسايره، لكن الآن كان هناك ما يجب قوله، فقطعت ملامحه المتذمرة ببرود واضح.

وحين أدرك الأمير أن إيفيريا جادة، اكتست ملامحه بالجدية بدوره.

“إنه أمرٌ يخص جيا.”

“حسنًا، ما هو؟ قولي، أنا أستمع.”

“…..أولًا، هلا نعود إلى الأكاديمية؟”

فكرت أن تغيير المكان سيكون أكثر أمانًا، فألقت نظرةً حولها، ثم أخذت بيد جيا والأمير لتعود بهم في الطريق الذي جاءوا منه.

حيث يقيم سيد البرج…..كان ذلك المكان، في الوقت الحالي، أكثر موقع آمن يمكنهم اللجوء إليه.

بالطبع، من النادر أن يوجد من يتعمد التنصت على حديثهم، لكن كلما قلّت المتغيرات كان ذلك أفضل. و لم يكن هناك داعٍ لخلق متغيرات لا حاجة إليها.

ساد الصمت لفترة. كان ذلك لأن إيفيريا تقدمت بخطواتها في المقدمة.

حين وصلا إلى مكتب سيد برج السحر الواقع في مقر إدارة السحر، طرقت إيفيريا الباب. و لم يكن هناك أي إشارة على وجود أحد بالداخل.

اعتادت إيفيريا أن تعبث بخاتمها في إصبع السبابة، بينما فدفعت الباب برفق.

في الماضي، قال لها سيد البرج ذات مرة أنه سيجعلها قادرةً على فتح باب مكتبه، حتى إذا اضطرت يوماً لمناقشة أمر بالغ السرية، تستطيع استخدام المكتب متى شاءت.

والآن وهي تستعيد كلماته، خطر ببالها أنه ربما كان يقصد مثل هذا الموقف بالضبط.

جلست إيفيريا على الأريكة المألوفة لها وهي تشعر ببعض الحرج، فالمكان في النهاية ليس مكانها.

جلست جيا على يمينها، بينما جلس الأمير نيسبيروس في الجهة المقابلة. 

نظرت إيفيريا إلى وجه جيا، ثم حولت بصرها نحو الأمير نيسبيروس وفتحت فمها لتتكلم.

“جيا هي..…”

لكن فجأة شعرت وكأن عقلها أصبح أبيض تماماً، فأطبقت شفتيها بعد أن تحركتا مرتين بلا صوت. 

فبمجرد أن همّت بالكلام، تدفقت إلى ذهنها كل المخاوف. 

كيف يمكن أن تبدأ بذكر أن أمامهم الآن حالة أسطورية من القصص القديمة؟ هل سيصدقها؟ 

أم سيظن أنها فقدت عقلها من الإرهاق؟ وإن شك الأمير نيسبيروس، فكيف ستبرر الأمر؟

نظرت جيا إلى إيفيريا، ثم حولت نظرها إلى الأمير نيسبيروس، لتخرج من فمها جملةٌ جافة لا تحمل سوى غرض إيصال المعلومة.

“أنا جئت من عالم آخر.”

“….…”

“أجل، فهمت.”

كان رده هادئاً…..هادئاً أكثر مما يجب، حتى أن إيفيريا نفسها شعرت بالارتباك.

أحقاً يجوز أن يكون رد فعله بهذه السكينة وهو يسمع حكايةً من أساطير الماضي؟ ألا يجب أن يندهش، أو على الأقل يشك في صدقها؟

ارتسمت على وجه الأمير نيسبيروس ابتسامةٌ باهتة. 

ورغم أن إيفيريا كانت تظن أنها تعرفه جيداً بعد كل هذا الوقت، إلا أن ملامحه الآن استعصت على القراءة.

“إذاً، ما السبب في إخباركِ لي بهذه الحقيقة الآن؟”

“فقط…..شعرتُ أنه يجب أن تكون على علم، كما أنني ظننت أن بإمكاننا إخباركَ دون حرج.”

انطلقت كلماتها وكأنها تُساق على عجل، بينما كانت تحدق في وجهه دون أن تنتبه حتى لتعبيراتها. 

ولحسن الحظ، لم تكن ملامحه توحي بسوء.

وما إن أنهت إيفيريا كلامها، حتى بادرت جيا بالحديث.

“على كل حال، أنا شخصٌ سيرحل قريباً، فلا تقلق… لن آخذ أختي. على الأرجح.”

“همم…..هذا يطمئن حقاً.”

ردّ بصوت خالٍ من أي أثر للخوف أو الأسف، حتى بدا وكأنه يجيب برد نموذجي محفوظ. 

صحيح أن نبرته كانت باهتة، لكن ذلك لم يمنعها من ملاحظة جفافه. فشعرت إيفيريا أن الأمر يحتاج لمزيد من الإيضاح، فتابعت بهدوء.

“الآن، لا يعرف بهذه المسألة سوى سيد البرج، وأنا، وأنتَ يا سيد نيسبيروس.”

“أما زال السبب مجهولاً تماماً؟”

“…..هناك افتراض، لكن سأخبركَ لاحقاً.”

سبق كلماتها فراغ قصير، التقطه الأمير نيسبيروس على الفور، فتألقت عيناه ببريق غامض.

***

مرّ الوقت كالسهم، واقتربت فترة الامتحانات بسرعة.

في الآونة الأخيرة، بدت جيا أكثر كآبة. وأثناء الدراسة معها، كثيراً ما كانت تسقط بجسدها منهكةً على الطاولة، أو تحدق في الفراغ دون سبب واضح.

و رغم انشغالها، وجدت إيفيريا نفسها تتوجه مجدداً إلى مكتب سيد البرج. فقد كان عليها أن تعيد جيا إلى عالمها بأسرع وقت ممكن.

في لقائهما السابق لأجل التدريب، سألت سيد البرج عن التقدم، فأخبرها أنه وصل إلى مرحلة تجربة القيم المرشحة التي حددها.

في الواقع، العثور على القيم المرشحة لم يكن صعباً من حيث المبدأ، بل كان معقداً فحسب. لكن المشكلة أن عددها كان هائلاً.

والآن، كان لزاماً عليهم إيجاد قيمة واحدة صحيحة، القيمة التي تقود إلى عالم جيا، وهذا يتطلب اختبار كل القيم الممكنة واحدةً تلو الأخرى.

ولحسن الحظ، كانت جيا قد التقت بهم بعد وقت قصير من سقوطها في هذا المكان، ولهذا بقيت آثار عالمها واضحةً عليها وعلى ممتلكاتها، مما زاد من احتمالية العثور على القيمة الصحيحة بدقة عالية.

بما أن القيمة المطلوبة باتت معروفة، فقد أصبح الأمر الآن مسألة حساب بحتة.

في الحقيقة، ومنذ أن اكتشفت أنها كانت تحسب معادلة السحر الوهمي بطريقة خاطئة تماماً، تراجع قليلاً شعورها بالثقة في الحسابات. 

ومع ذلك، كانت تعتقد أن امتلاك هذه الثقة ولو بقدر قليل أفضل من انعدامها.

و في يومٍ ما، لقد كانت على يقين أنها في المرة السابقة، أخبرت سيد البرج بأنها ستزور مكتبه اليوم، بل ونالت موافقته. لكن رغم الطرق على الباب، لم يصلها أي رد.

و لم يكن الاحتمال سوى أمرين؛ إما أن سيد البرج لم يكن بالداخل، أو أنه كان منهمكاً في عمله لدرجة لم يسمع معها الطرق.

فترددت إيفيريا قليلاً في ما يجب فعله، ثم فتحت الباب بهدوء.

____________________

تضحك ردة فعل ايرميت طيب تفاجأ شوي😭

جيا صدق فانز عنها بس ودها بفشار وهي تشوفهم يمشون سوا😭 بس ياعمري عليها هو طبيعي تكتئب انها نقلت من عالمها فجأة😔

الصدق ايرميت مفروض يحمد ربه ان جيا بنت مب ولد😂

Dana