بعد ذلك، ترك الأمير نيسبيروس قلب إيفيريا في حالة اضطراب غريبة، ثم تصرف وكأن شيئًا لم يحدث.
لكن في الحقيقة، لم يحدث شيءٌ فعلًا. فكل ما فعله هو أنه قدم لها حلوى حين بدت متعبة، ثم ربط لها شعرها.
تصرفاتٌ لطيفة، مصدرها المودة، يمكن لأي شخص قريب أن يقوم بها.
ولو أن سينثيا هي من أسدت إليها هذه اللفتات، لكانت ردة فعلها مختلفةً تمامًا، على الأرجح.
ضغطت إيفيريا بأصابعها ما بين عينيها، في إيماءة تختزل مشاعر متشابكة.
لم يكن موسم الامتحانات قد حل بعد، ومع ذلك، بدا أنها تميل إلى صناعة المشكلات بنفسها والانشغال بها.
أو ربما كُتب عليها أن تمضي حياتها تبحث وتفكر حتى تجد الإجابات.
فاستلقت على المقعد، ثم رفعت رأسها إلى السماء التي تتناثر فيها الغيوم.
ومنذ ذلك الحدث الذي لا يكاد يستحق أن يسمى حدثًا في المكتبة، أصيبت بما يشبه المرض—فكلما رأت لونًا أبيض مائلًا إلى الفضي، خطر في بالها الأمير نيسبيروس.
و حتى الآن، ما زال الهواء والمشهد من ذلك اليوم يتجسدان في ذاكرتها بوضوح تام.
رائحة الكتب التي تحمل شيئًا من الرطوبة، مع الجفاف الدافئ الذي يميز الأماكن المشمسة، كان مزيجًا غريبًا يشبه ما كانت تشعر به داخليًا.
وفوق ذلك، جلس حينها في بقعة تفيض بالضوء، فجعلت الظلال على وجهه لوحة فنية.
الظل الذي انكسر على جانب أنفه، وتلك الظلال التي ألقاها صفّ رموشه الكثيفة على أطراف عينيه، وحتى بريق عينيه البنفسجيتين الشفافتين حين اخترقتهما أشعة الشمس الدافئة…..
كأن المشهد بأكمله كان يصرخ في وجهها: لا تنسي.
وما زالت قادرة على رسمه كما هو لو أرادت.
ثن انسلت من بين شفتيها همهمةٌ ساخرة.
“…..هل سأتحسن قليلًا عندما يحين موسم الامتحانات؟”
“هل أنتِ من النوع الذي يحب الامتحانات؟”
فجأة، دوّى صوتٌ مألوف. فرفعت إيفيريا رأسها من وضعها المائل نحو السماء، وأدارت نظرها.
كان الأمير نيسبيروس واقفًا، ممسكًا بمشروب في يد، متكئًا بذراعه الأخرى على مسند المقعد، يحدق فيها.
كان يبتسم، لكن إيفيريا…..لم تستطع أن تبتسم.
ارتسمت على جانب شفتيه ابتسامةٌ مائلة—علامة أكيدة على أنه يمازحها الآن. فرفعت إيفيريا شفتيها بابتسامة باهتة، والتقت بعينيه للحظة قبل أن تخفض نظرها من جديد.
“مستحيل.”
“…..صحيح؟”
شعرت نحوه بقليلٍ من الأسف. فهو لم يفعل سوى معاملتها بلطفه المعتاد، ومع ذلك كانت المسافة بينهما اليوم أبعد من المعتاد.
وحتى حديثه لم تستطع مجاراته كما ينبغي، والسبب أن مزاجها وسلوكها كانا مثقلين على غير العادة.
ألقى الأمير نيسبيروس نظرةً على الطبيعة الممتدة بمحاذاة الممشى، ففعلت إيفيريا الشيء نفسه، تتفحص بخفة الأعشاب والأشجار المزروعة على جانبيه.
كان المشهد يحمل كل سمات الربيع—بتلات الأزهار تتشكل، والأغصان التي جفّت طوال الشتاء يكسوها خضار البراعم الجديدة، والنسيم المعتدل الدافئ يحرّك أعشاب الأرض برفق.
ثم رفعت إيفيريا يدها لتعدل شعرها مرة أخرى.
لقد كان ربيعًا فوضويًا بكل المقاييس.
“رأيتُ أزهار الكرز وقد تفتحت بشكل جميل.”
“أزهار الكرز؟ هل تفتحت فعلًا؟”
لم يُجب الأمير نيسبيروس عن سؤالها، بل مد يده فجأة وأمسك بخصلات شعرها بخفة. ومجرد اقترابه جعلها تتوتر غريزيًا.
وفي مسافة أقرب من ذي قبل، التقت عيناه البنفسجيتان بعينيها الزرقاوين. لابتسم ابتسامةً صغيرة، ثم التقط شيئًا من شعرها وأطلقه في الهواء ليتبدده مع الريح.
لم تتمكن من تمييز ما كان. وظلّا يتبادلان النظرات حتى ابتعد وعاد إلى مكانه السابق. عندها فقط استطاعت أن تستعيد هدوءها.
“نعم، هناك أماكنٌ تفتحت فيها بالفعل. لكن أزهار الكرز قصيرة العمر، تتفتح سريعًا وتذبل سريعًا.”
“نعم…..صحيح.”
أجابت إيفيريا باختصار. و تذكرت أنها قرأت في الصحف أن موسم تفتح الكرز هذا العام جاء أبكر قليلًا من المعتاد.
كان في أكاديمية لاكانيل بعض أشجار الكرز، لكنها عمومًا كانت تتفتح متأخرةً مقارنةً بالأشجار التي في الخارج. حتى في العامين الماضيين، كانت تتفتح وتذبل خلال فترة التحضير لاختبارات منتصف الفصل.
وما كانت لتعرف مواعيد تفتح أشجار الكرز داخل الأكاديمية بهذه الدقة، لولا أن نصف الفضل في ذلك يعود إلى سينثيا.
كانت سينثيا في كل عام، مع حلول فترة أول امتحانات دراسية، تجرّ إيفيريا إلى أسفل شجرة الكرز القائمة في قلب الساحة الرئيسية لمبنى أكاديمية لاكانيل.
حتى في السنة الأولى، حين لم تكن علاقتهما وثيقةً كما هي الآن، كانت تصحبها إلى هناك إن واجهت يومًا صعبًا، أو في أوقات الراحة من الدراسة.
استعادت إيفيريا ذكرى تلك الأيام التي كانت تُسحب فيها بلا مقاومة تُذكر. وعند التفكير بها الآن، لم تكن ذكرى سيئة تمامًا.
ولولا حدوث أي طارئ، كان الاحتمال كبيرًا أن تجتمع مع سينثيا هذا العام أيضًا في المكان نفسه استعدادًا لاختبارات منتصف الفصل.
لكن قبل أن تصل خيوط استغراقها في الماضي إلى الحاضر والمستقبل، قطع تساؤل الأمير نيسبيروس سلسلة أفكارها.
“…..هل ترغبين في الذهاب لرؤيتها؟”
“…….”
لم تُجب إيفيريا. لكن نبرة صوته التي بدت وكأنها تحمل مسحة استعجال، جاءت ومعها شرحٌ إضافي.
“ما زال أمامنا بعض الوقت قبل فترة الامتحانات، وهناك أماكن كثيرة تزهر فيها أزهار الكرز الآن بشكل جميل…..أعتقد أن هذا هو الوقت الأنسب للذهاب.”
بالفعل، كانت أزهار الكرز في أبهى صورها. وعندما كانت ترى بتلاتها الفاتحة تتساقط في الهواء، كانت تشعر—على غير عادتها—بقليلٍ من الرقة والحنين.
لم تخرج يومًا خصيصًا لرؤية أزهار الكرز خارج أسوار الأكاديمية، لكن تلك التي في لاكانيل كانت تراها أحيانًا. أو بالأحرى، كانت تراها عرضًا أكثر مما كانت تتعمد النظر إليها.
ترددت إيفيريا قليلًا في اختيار جوابها. لكن يبدو أن الأمير نيسبيروس فسر صمتها بطريقته، فشرع في محاولة إقناع عقلانية للغاية.
“…..المكان ليس بعيدًا، ربما يمكننا الذهاب والعودة في غضون ساعات قليلة..…”
“سأذهب. هيا بنا.”
لم يكن هناك ما يمنعها. فأجابت بوضوح وهي ترفع حاجبيها قليلًا وتحرك عينيها نحو وجهه.
وكما هو دائمًا، كان يبتسم. وكأن ذلك الشعور بالعجلة الذي لمسته في صوته قبل لحظات، لم يكن سوى وهم.
***
كانت إيفيريا تخفي مشاعرها المعقدة أمام جيا.
في الواقع، لم يكن من عادتها كشف ما في داخلها بسهولة، لكنها أمام جيا كانت تحرص على إخفائها بإحكام أكبر.
كانا في تلك اللحظة يجلسان معًا على أحد المقاعد في الممشى الجانبي المنعزل داخل الأكاديمية، وقد صادف أن توافقت أوقاتهما النادرة أثناء اليوم الدراسي.
كانت في يد جيا عبوة شراب بطعم الخوخ كانت إيفيريا قد اشترتها وأعطتها لها.
شردت إيفيريا ببصرها في العشب الذي تهزه الريح، وفي الطيور التي تحلق هنا وهناك، ثم ألقت سؤالًا عابرًا.
“كيف تجدين حياتكِ في الأكاديمية؟”
“همم…..جيدة. أشعر وكأنني أعيش تجربة الحياة الجامعية مبكرًا.”
“…….”
ظهر تعبيرٌ جديد لم تسمع به من قبل. فرفعت إيفيريا بصرها نحو جيا دون أن تخفي فضولها.
ترددت جيا قليلًا، وأطبقت شفتيها وفكّتهما مرات عدة وكأنها تنتقي الكلمات، ثم تحدثت،
“الجامعة…..هي مدرسةٌ تذهبين إليها بعد اجتياز امتحان القبول. هناك، مثل الأكاديمية، يمكنكِ وضع جدولكِ الدراسي بنفسكِ.”
أومأت إيفيريا برأسها علامةً على الفهم.
ثم ساد الصمت لبرهة.
كانت جيا تمعن النظر في المكان من حولها وكأنها تحاول أن تحتفظ بكل تفاصيله في ذاكرتها، بينما كانت إيفيريا تحدق بثبات في غصن شجرة اعتادت الطيور أن تحط عليه كثيرًا، مكتفيةً برمشات بطيئة.
كان المشهد هادئًا إلى حد مثالي.
و في تلك اللحظة، وجهت جيا سؤالًا آخر لإيفيريا.
“سينباي، هل توجد أشجار كرز هنا أيضًا؟”
“نعم، توجد. أظن أن هناك واحدةً حتى في ساحة المبنى الرئيسي للأكاديمية.”
أجابت إيفيريا بصدق، ثم مالت شفتاها نحو ابتسامة وهي تنظر إلى جيا.
كان السؤال خارج السياق قليلًا، أو هكذا بدا لمن يراه من الخارج. بل وحتى إيفيريا، التي لم تفهم تمامًا ما الذي دفع جيا لطرحه، وجدته كذلك.
“وهل تزهر أشجار الكرز في هذا الوقت من العام؟”
“نعم.”
بدأت جيا تنقر بأطراف قدميها على الأرض، فتطايرت ذرات تراب صغيرة.
راقبتها إيفيريا لبرهة، ثم حولت بصرها واتكأت للخلف على مسند المقعد وهي تعقد ساقيها.
“آه…..إذاً، هل تعرفين هذه المقولة أيضًا؟”
كان صوتها مفعمًا بخفة المزاح، فاستدارت إيفيريا بجسدها قليلًا نحوها، إشارةً إلى أنها تُصغي.
“يقولون أن معنى زهرة الكرز هو…..الامتحان النصفي.”
“يا لها من…..مقولة حزينة..…”
وبالفعل، لم يكن الأمر بعيدًا عن الواقع، فكلما أزهرت أشجار الكرز، كان وقت الاختبارات النصفية يحل.
فأطلقت إيفيريا بضع ضحكات متقطعة، ثم أعادت ترديد العبارة في ذهنها مرة أخرى.
أزهار الكرز والامتحانات النصفية، الرومانسية والواقع، بينهما تقاطعٌ غريب يفصل بين العالمين.
لم تمنح جيا لإيفيريا فرصةً لتغرق في أفكارها، إذ تسلل صوتها إلى أذنها بنبرة مرحة،
“سِينباي، ما رأيكِ أن نذهب لرؤية أزهار الكرز قبل أن تبدأ فترة الامتحانات؟ سأبحث عن المكان المناسب.”
“…….”
ارتفع حاجبا إيفيريا قليلًا أكثر من المعتاد، وانحسر جزءٌ من شعر مقدمتها للأعلى بينما اتسعت عيناها قليلًا، بملامح نادرة تكشف ارتباكها.
هل أصبح اقتراح الذهاب لرؤية أزهار الكرز موضةً هذه الأيام؟
لم تفهم لماذا يكثر من يقترح عليها مؤخرًا الخروج لمشاهدتها.
لم تكن تدري هل عليها القبول أم الرفض، ففتحت شفتيها وكأنها ستجيب، لكنها لم تنطق بكلمة.
أرخَت جيا حاجبيها بأسى، وإيفيريا كانت تدرك في الآونة الأخيرة أنها باتت تنهزم بلا مقاومة أمام الأشياء الضعيفة واللطيفة.
“أريد أن أصنع ذكرى…..ألا يمكن أن تذهبي معي مرةً واحدة فقط..…؟”
شعرت إيفيريا بوخزة نادرة في ضميرها، و حين تذكرت أن سقوط جيا هنا فيه جزءٌ من خطئها، بدا وخز الضمير أشد حدة.
فتحت فمها لتوافق، لكن عندها دوّى صوت مألوف بخفة،
“تلك الذكرى…..ما رأيكِ أن تصنعيها معي أيضًا؟”
ظهر شعاعٌ من الشعر الفضي المألوف فجأة بين إيفيريا وجيا، فارتدّت إيفيريا إلى الوراء بشكل انعكاسي.
و ابتسم الأمير نيسبيروس نحوها ابتسامةً رقيقة، طبيعية ومتحايلة أكثر من اللازم على شخصٍ تدخّل لتوّه في حديث غيره.
فتسربت إلى شفتي إيفيريا مسحة ذهول وهي تنفرج قليلًا.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 41"