في النهاية، وحتى انتهاء العطلة، لم تُتح لإيفيريا فرصة رؤية سيد البرج مرةً أخرى.
وبما أنها كانت ترى الأمير نيسبيروس باستمرار، سألتْه أحيانًا إن كان لديه أي خبر عن سيد البرج، لكنها لم تتلقَّ منه سوى إجابة واحدة متكررة: “لا أعلم شيئًا.”
حاولت إيفيريا أن تطرد القلق من ذهنها. فليس من السهل أن يقع سيد البرج في مأزق، بل على العكس، هو دائمًا ذاك الشخص الذي يبدو وكأنه يعلو الجميع بخطوة. لا حاجة للقلق إذًا.
بل كان من الأفضل أن تقلق على جدول حصصها الكارثي في الفصل الدراسي الأول من سنتها الثالثة.
جدولٌ لم يُراعَ فيه وقت التنقّل بين المحاضرات. ولا يتيح لها حتى فرصةً لتناول الغداء، ولا يرحمها من الحصص الأولى صباحًا.
ذلك المزيج الكارثي هو تمامًا ما شكّل جدول إيفيريا.
‘……أنا لست في السنة الأولى حتى. كيف ينتهي بي الحال بهذا الجدول وأنا في السنة الثالثة؟’
جدولٌ يدفع للجنون كلما نظرت إليه.
تحدّثت معه بنظراتها للحظة، ثم طوته وأبعدته عن ناظريها.
على ما يبدو، كانت سينثيا قد رتّبت لنفسها جدولًا مقبولًا، ومن المؤكد أن الأمير نيسبيروس هو الآخر أعدّ لنفسه جدولًا مثاليًا.
‘أنا الوحيدة التي دمّرت نفسها، فقط أنا…..’
كلما فكرت بالأمر، ازداد حزنها، فأسندت خدها إلى الطاولة واستلقت عليها يائسة.
كانت الآن قد وصلت باكرًا إلى قاعة أول حصة من صباح الاثنين. و بما أن هناك دائمًا فواصل زمنية مرهقة بين المحاضرات، قررت أن تأتي مبكرًا بدلًا من تضييع وقتها في الانتظار.
وبقيت وحدها في القاعة حتى قبل بدء الدرس بثلاثين دقيقة.
وفجأة، شعرت بحركة عند الباب. فاستدارت بشكل لا إرادي لترى القادم.
“مرحبًا، إيفيريا.”
“سيد نيسبيروس؟”
لم تستطع أن تُخفي دهشتها.
ما الذي جاء بالأمير نيسبيروس إلى هنا؟
حدّقت فيه جيدًا، متسائلةً إن كان جدول حصصه قد انتهى إلى كارثةٍ أيضًا.
رغم أن مجرد وجوده في حصة واحدة صباح الاثنين لا يكفي للجزم، فقد راودها أملٌ غريب بأن يكون مصيره مشابهًا لمصيرها.
“المقرر هذا…..الربط بين السحر والفيزياء في الإمبراطورية المقدسة، صحيح؟”
“نعم.”
أجابت إيفيريا، فجاء وجلس إلى جانبها، وفتح كتابه بشكل عشوائي.
ثم التفت إليها وسألها،
“كيف نظّمتِ جدولك؟”
“آه، لقد دمرتُ كل شيء تمامًا..…”
“وأنا كذلك.”
كان حوارًا مضحكًا…..ومحزنًا في آن واحد.
ضحكت إيفيريا بسخرية، وأخرجت جدولها من الحقيبة.
“انظر. في ثلاثة أيام من الأسبوع عندي محاضراتٌ من الحصة الأولى صباحًا. وفي الأيام القليلة التي يُفترض أن تكون خفيفة، لا وقت لديّ حتى لتناول الغداء. أما يوم الخميس…..فمحاضراتي تمتد فيه سبع ساعات متواصلة. كيف يُفترض بي أن أتنقل بين القاعات؟ ويوم الجمعة، رغم أنه أقل سوءًا، إلا أن الأوقات بين المحاضرات عشوائيةٌ ومربكة.”
يبدو أن ما في قلبها قد تراكم طويلًا. فقد تدفّقت الكلمات من فمها دفعةً واحدة، ثم ارتخى طرفا شفتيها وعينيها من التعب.
وحين أنهت حديثها، شعرت أنها تحدّثت كثيرًا.
لقد بدأ الأمير نيسبيروس يبدو أقرب مما يجب. و لحسن الحظ، لم يُظهر أي انزعاج. بل اكتفى بهزّ رأسه بهدوء وهو يصغي لها، ثم تحدث أخيرًا بعد أن هدأ صوتها،
“لا بأس…..سيمضي الأمر سريعًا.”
“أليس كذلك؟ أتمنى أن تمرّ الأيام بأسرع ما يمكن..…”
استعادت إيفيريا هدوءها المعتاد. و فقط لأنها تحدثت مع أحدهم، شعرت وكأن الغمامة التي خنقتها قد تلاشت قليلًا.
جلست بصمت، ثم التفتت بخفة لتنظر إلى جانب وجه الأمير نيسبيروس.
كان دائمًا ينصت إليها بابتسامة، مهما قالت، وفي النهاية يقدّم لها كلمات مواساة، ربما بسيطة، لكنها كانت دائمًا صادقة، حتى لو بدا عليه بعض التردد.
لهذا السبب، كانت تجد نفسها تُفضي إليه بما في داخلها مرارًا وتكرارًا.
حتى حين تُظهر له جانبًا من شخصيتها لم تعتد إظهاره…..لم يكن الأمر مزعجًا، بل مريحًا.
باتت تتقبّل التغيّرات، أيًّا كانت. ورغم أنها بالكاد كانت تتعرّف على نفسها، لم تشعر بالنفور من ذلك.
نظرت مطولًا إلى وجه الأمير نيسبيروس. الى خصلات شعره الفضي كانت تتدلّى فوق جبهته. وحاجباه، اللذان اختفيا خلف الشعر، بدَوا دائمًا مرتّبين بعناية.
عيناها تابعتا خط ملامحه الحاد، و عيناه الواضحتان رغم لونهما الهادئ، أنفه المستقيم الذي يزيده وسامة، وشفاهه بلونها الخفيف، ترتفع أطرافها بابتسامة شبه خفية.
لو نظر أحدٌ إلى ملامحه فقط، لقال أنه يملك وجهًا صارمًا لا يضاهيه شيء.
لكنها، رغم معرفتها به، لم تشعر يومًا بتلك القسوة منه، وهذا ما بدا لها غريبًا وجميلاً في آنٍ معًا.
لكن أفكارها قاطعها الأمير نيسبيروس، أو بالأحرى….وجهه هو من قاطعها.
لكن، حين نظرت إليه بهذا القرب…..لا بد من الاعتراف، كان وسيمًا فعلًا.
لم تُجب إيفيريا بشيء، بل استمرت تتأمل وجه الأمير نيسبيروس بصمت.
و شيئًا فشيئًا، بدأ طرف أذنه يكتسب لونًا ورديًا خفيفًا. واختفت من عينيه تلك الشقاوة المعتادة تدريجيًا.
حين نظرت إلى وجهه من زاوية مباشرة، بدت الرموش الفاتحة وكأنها ترسم ظلالًا تُضفي على عينيه حدةً أعمق.
وفي كل مرة يرمش فيها، تتحرك رموشه بخفة، فتُضفي على ملامحه لمسةً من الجمال الهادئ.
وبينما كانت إيفيريا تتأمل ملامحه بتمعّن، كما لو أنها تُفكك عملًا فنيًا، قالت جملةً واحدة، بلا نية مسبقة، ولا مجاملة،
“سيد نيسبيروس…..أنتَ وسيمٌ فعلًا.”
“….…”
ثم التفت الى الجهة الاخرى ببطء، و مدّ يده، وغطى جانب وجهه المقابل لها بكفه، مديرًا رأسه جانبًا.
كيف يُمكنها أن تقول أمرًا كهذا بهذا البرود…..دون أن ترفّ لها عين؟
وكأن كل كلمات الإعجاب التي قالها لها من قبل، لم تحرّك فيها ساكنًا.
***
ومع الوقت، اعتادت إيفيريا على نمط حياتها مع ذلك الجدول الكارثي.
وبدا أن الأمير نيسبيروس لم يكن يمزح حين قال إن جدوله هو الآخر سيء. فقد تكررت مصادفتهما في حصص الفترة الصباحية، وفي الأيام التي كانت إيفيريا لا تجد فيها وقتًا للغداء، كان هو الآخر بالكاد يجد فرصةً لتناول شيء.
فتساءلت في سرّها: كيف انتهى به الأمر هكذا؟ لكنها لم تشأ أن تسأله، خشية أن تُثير في نفسه ضيقًا لا داعي له.
و ذات يوم، كانت إيفيريا تسير وحدها في الممر الخلفي المؤدي إلى قاعة الدراسة الذاتية.
فقد كانت قد تناولت طعامها متأخرة، وتحتاج إلى المشي قليلًا لتساعد جسدها على الهضم.
عندها شعرت فجأة بهالة غريبة في المكان. فرفعت عينيها بسرعة، ونظرت نحو مصدر الإحساس بنظرة حادة.
“آه!”
صدرت صرخةٌ خفيفة، تبعتها أصوات ارتطام خافتة.
لقد كانت الأشجار الكثيفة والعشب العالي تحجب الرؤية، لكنها استطاعت أن تجزم بأن شيئًا ما كان هناك.
فخفضت خطواتها قدر الإمكان، وتقدّمت ببطء نحو ذلك الاتجاه. و كانت قد أمسكت كتابها بيدها، وكأنه سلاح تتحسّب به لأي طارئ.
ولم تمضِ خطوات قليلة، حتى رأت فتاةً تقف على مسافة قريبة. ذات شعرٍ أسود طويل، ترتدي زيًا غريبًا، وعلى ظهرها شيءٌ غير مألوف.
لم ترَ سوى ظهرها، لذلك لم تتمكن من رؤية لون عينيها.
“أوه…..ما هذا؟”
“….…”
حبست إيفيريا أنفاسها، وانكمشت خلف شجرة قريبة. و إن اضطرت، كانت مستعدةً لاستخدام السحر فورًا.
صحيحٌ أن استخدام السحر خارج ساحة التدريب محظورٌ داخل الأكاديمية، لكن حتى لو تلقت عقوبة لاحقًا، فالتعامل مع الوضع الآن كان أولى.
“آه، اتّسخت ملابسي بالتراب…..أين سقطت؟ هل تعثرت قدمي؟”
لحسن الحظ، لم ينبعث من تلك الفتاة أي أثر للطاقة السحرية.
رغم وجود وحوش أحيانًا تستطيع إخفاء طاقتها، إلا أن حواجز الأكاديمية تمنع تمامًا دخول أي مخلوق خطير من هذا النوع.
ثم اقتربت إيفيريا منها بحذر شديد.
“أين أنا الآن؟ آه، كان يجب أن أعود للمنزل..…”
كانت الفتاة تنفض الأتربة عن ملابسها وأغراضها، حينها لمستها إيفيريا بخفة باستخدام كتابها. فانتفضت الفتاة من المفاجأة، واستدارت نحوها بسرعة.
و للحظة، بدت وكأنها فقدت القدرة على الكلام من شدة الذهول، فاكتفت باتساع عينيها والتراجع خطوةً إلى الخلف دون أن تنطق بحرف.
“م-من أنتِ؟”
“ألا…..تعرفينني؟”
ندمت إيفيريا على عبارتها ما إن نطقتها. فقد بدت وقحة دون قصد.
ففي العادة، معظم طلاب الأكاديمية يعرفون من هي، خاصةً أولئك الذين في نفس المستوى الدراسي، لكن طريقتها في السؤال جعلتها تبدو وكأنها تفترض أن الجميع يجب أن يعرفها.
نظرت إليها بتفحص، كانت عيناها سوداوان لطيفتان، و نظرتها خجولة، و حاجباها المرتخيان وشفاهها المضمومة منحا وجهها تعبيرًا أقرب للبكاء.
وفي اللحظة التالية، بدأت الفتاة تخرج أغراضها وتضعها على الأرض ببطء.
“أنا لا أملك شيئًا…..لا أريد إيذاء أحد، ولا أملك ما يؤذي أصلًا…..ها هي حقيبتي، سأضعها أرضًا.”
طريقة تصرّفها جعلت إيفيريا تشعر بالحرج من حذرها الزائد.
لم تكن تشعر بأي سحر ينبعث منها، وعيناها الطفوليتان كانتا صادقتين. فخفضت إيفيريا حذرها قليلًا وسألتها بهدوء،
“من أين أتيتِ؟”
“أنا؟ أنا من كوريا…..في السنة الثالثة من الثانوية..…”
“….…”
لم تفهم إيفيريا شيئًا مما قالته…..باستثناء عبارة “السنة الثالثة”. فظلت صامتة، لا تدري كيف ترد.
ولسببٍ ما، اعتبرت الفتاة هذا الصمت إشارةً سلبية، فبدأت تتحدث بتوتر، ثم بدت عليها فجأة لمحة أمل،
“آه، ربما لو أخبرتكِ بعنوان منزلي! أنا من سيول، العاصمة..…”
“ما الذي تقولينه الآن؟ لم أفهم شيئًا…..آسفة، حاولت أن أفهمكِ قدر الإمكان.”
“ماذا؟”
بدت الفتاة مذهولة، ولم تكن إيفيريا بأفضل حال منها.
من أين ظهرت هذه الفتاة فجأة؟ وما قصتها؟
أخذت إيفيريا، التي كانت بارعةً في إخفاء مشاعرها، ترتب سترتها بهدوء و تحدثت بنبرة ثابتة،
“سأبدأ أنا بالتعريف بنفسي إذًا. اسمي إيفيريا ديل، طالبةٌ في السنة الثالثة بأكاديمية لاكانيل.”
“عفوا؟”
“ألا تعرفين أكاديمية لاكانيل..…؟ ألم تسمعي بها أبدًا؟”
مرّت لحظة صمت غريبة، وملامح الفتاة بدت خاويةً من أي فهم.
في المقابل، لم تتمكن إيفيريا من إخفاء دهشتها.
هل جاءت من قرية نائية في أعماق الجبال؟ كيف يمكن ألا تكون قد سمعت باسم لاكانيل؟
ربما يجدر بها الاتصال بسيد البرج فورًا.
كان لديها شعورٌ قوي بأن أمرًا مزعجًا على وشك الحدوث.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 36"