عاد إيرميت حقًا بعد وقتٍ قصير جدًا، وكأنه لا يطيق فكرة ترك إيفيريا بعيدةً عنه ولو للحظة.
و ابتسم سيد البرج ابتسامةً صغيرة، فقد شعر أن ذلك التوتر الذي يحيط به ما هو إلا صورةٌ واضحة لقلقه العميق.
نظرات إيرميت كانت غارقةً في السكون، عميقةً وثقيلة، وما زالت قطرات الماء تتساقط من خصلات شعره الفضي التي لم تجف بعد، تنساب على عنقه وكتفيه،
ورغم ذلك لم تتحرك عيناه قيد أنملة عن إيفيريا، وكأن كل كيانه متعلقٌ بها.
لكن الغريب أنه لم ينظر مباشرةً إلى وجهها، بل كانت عيناه تتنقلان على الغطاء الذي يغطي جسدها، أو تمر سريعًا على خصلات شعرها المبعثرة، وإن لامست نظراته وجهها دون قصد، كان يصرفها فورًا كأنها محرّمةٌ عليه.
لو تمعنت فيه أكثر، لكان المشهد مؤلمًا بحق.
اقترب سيد البرج بوجه يحمل ملامح القلق، ومدّ يده ليمسح جبهة إيفيريا برفق. و كانت حرارتها لا تزال منخفضة.
في العادة، انخفاض الحرارة يدل على نقص في السحر، لكن في حالة إيفيريا، يُحتمل أن سحر العقل – أو بالأحرى السحر الذي يتصل بالوعي والروح – قد لعب دورًا أيضًا.
بل في الواقع، لم تكن هناك حدودٌ فاصلة تمامًا بين الأمرين.
فتح سيد البرج فمه ليقول شيئًا، لكن لم تخرج منه سوى تلك العبارة المتكررة، الباهتة من كثرة التكرار.
“صدقني…..ستستيقظ قريبًا.”
“لقد قلت ذلك أيضًا قبل ثلاثة أيام.”
“إيفيريا على قيد الحياة بفضلي. تعلم ذلك، أليس كذلك؟”
“هاه..…”
كان محقًا في ذلك. ولهذا السبب، ورغم أن وجه إيرميت كان يحمل ملامح كثيرة يريد أن ينطق بها، فقد التزم الصمت، وكأن الاعتراف بفضله حبس الكلمات في حلقه.
راقب سيد البرج ملامح وجهه المتقلبة، ثم استند بظهره إلى كرسيه. و جلس بطريقة مسترخية أكثر من اللازم، بساقٍ فوق الأخرى، وذراعه متكئةٌ على ركبته، وذقنه مسنودة على يده، هيئةٌ لا يمكن وصفها إلا بأنها مستهترة.
وصوته حين نطق، لم يختلف عن مظهره في شيء؛ كان جريئًا، فوضويًا، وقليلًا ما يراعي الحساسية.
“دعني أسألكَ بصراحة، لماذا تحبها بهذا الشكل؟”
“أنا لا أحبها.”
كان واضحًا أنه لا “يحبها” فقط. لكن نظرات إيرميت تجاه إيفيريا لم تكن نظرات حب عادي، بل شيء أشبه بالهوس، شيءٌ أعمق من العاطفة، أقرب إلى التقديس.
أحيانًا، كانت عيناه تمتلئان بشيء لا يمكن وصفه سوى بأنه إيمان أعمى، وكأن حبّه لها تجاوز المشاعر، ولامس حدود الطبيعة.
في هذه المرحلة، لم يعد الأمر يشبه أن شخصًا مجنونًا يعيش قصة حب، بل بدا كأن شخصًا مجنونًا بالحب يحاول أن يعيش حياةً ما.
انفجر سيد البرج ضاحكًا ضحكةً عريضة، ثم غيّر سؤاله.
“حسنًا، يبدو أن سؤالي لم يكن صائبًا. لماذا هذا التعلّق الأعمى إذًا؟”
“…..ببساطة، مهما فعلت إيفيريا، لا يمكنني أن أكرهها.”
كان اعترافه هادئًا، كأن الحب قد سبقه، ولم يترك مكانًا لأي كراهية، بل ازداد عمقًا مع كل لحظة.
عندها، راح سيد البرج يمرر بصره بعناية على جسد إيرميت، باحثًا عن أي أثر لسحر قد يكون سببًا في هذه المشاعر.
لو كانت هذه الأحاسيس وليدة تعويذة من تعاويذ إيفيريا، فإن النهاية ستكون كارثية بلا شك.
لكن لحسن الحظ، لم يجد سوى آثار السحر الذي وضعه بنفسه على إيرميت. فتنفّس الصعداء بصمت.
أغمض إيرميت عينيه ببطء، وارتجفت أهدابه الفضية برقة. حتى حدة زوايا عينيه بدت جميلة، وكان كل ما فيها يثير إعجابه: عنادها، وإصرارها، وتحديها لكل شيء.
لكن ما أقلقه هو أنها تضغط على نفسها أكثر مما تحتمل.
وفي الوقت نفسه، كان يحب رؤيتها تتعثّر وتصطدم بجدار الواقع، وربما لأن الجدار الذي اصطدمت به هذه المرة كان هو نفسه.
لو لم يكن هو من أطاح بها وأخذ مكانها في صدارة الأكاديمية، لربما كان قد أبعد من فعل ذلك عن وجه الأرض تمامًا.
هناك أمرٌ واحد كان سيد البرج متأكدًا منه. كل تصرف جنوني صدر عن إيرميت في الأكاديمية، كان خلفه دائمًا اسم واحد…..إيفيريا.
بينما ابتسم ايرميت ابتسامةً خافتة،
“لهذا السبب…..أتمنى أن تستيقظ إيفيريا قريبًا.”
لمعت في عينيه نظرة توشك على الانهيار، فذلك الحب العنيف بدأ يتخذ شكلاً مختلفًا، أقرب إلى شيء لا يمكن احتواؤه.
***
ومضى يومان آخران بعد ذلك. وأصبح إيرميت يشعر أن العالم من حوله بدأ يختل.
و الشيء الوحيد الذي ما زال يبدو طبيعيًا في نظره…..هي إيفيريا.
كان ولي العهد في الأكاديمية لمتابعة جدول أنشطته المعتاد، أما سيد برج السحر، فقد قال أنه بحاجة لبعض الهواء وخرج برفقته.
وهكذا، لم يبقَ في هذه الغرفة سوى إيرميت وإيفيريا.
كان يحب ذلك، ويكرهه في الوقت ذاته.
أَحبه لأنه أعاده إلى زمن طفوليٍ قديم، حين كانت عوالمهما لا تتسع لغير بعضهما البعض. وكرهه لأن الحاضر الملعون هذا، حيث لا تفتح إيفيريا عينيها، يجعله يختنق.
جلس إيرميت قرب رأسها، يراقبها بصمت.
وجهها، الذي كان شاحبًا بطبيعته، ازداد بياضًا حتى بدت أقرب للظل منها للحياة، وشعرها الداكن لم يزد إلا من شحوب ملامحها.
كم من الوقت مضى قبل أن يستطيع النظر مباشرةً إلى وجهها هكذا؟
وفي كل مرة تمر فيها نظراته على وجهها الخالي من الحياة، كان يشعر بقبضة في صدره، بينما كان يتأكد مرارًا وتكرارًا من أنها لا تزال تتنفس، كأن قلبه لا يصدق حتى يرى.
و زاد إيمانه بأن إيفيريا ستعيش، لكنه لم يعد يثق في سيد البرج كما كان من قبل.
تحت جفنيها المغلقين، تختبئ تلك العينان الزرقاوان الساحرتان. أيا كانت المشاعر التي تلمع فيهما، أو النور الذي تشعّان به، فكلّه كان محبوبًا بالنسبة له.
لكن بما أنه لا يراها، لم يكن قادرًا على أن يشعر بها. فحتى الذكريات لها حدود.
نهض إيرميت ببطء واقترب من النافذة، و أزاح الستارة قليلاً. لكن السماء كانت ملبّدةً بالغيوم.
مشهدها لم يكن يشبه إيفيريا، بل أقرب إلى ولي العهد،
ولم يكن في يده أن يشق السماء ليفتح فيها نورًا.
فتنهد بانزعاج وأعاد الستارة إلى مكانها.
“…..أشتاق إليكِ.”
غيابها جعله يشعر في آنٍ واحد بالخوف والاشتياق. مزيجٌ مروع. كأن قلبه مثقلٌ لا بعاطفة واحدة، بل باثنتين في آنٍ معًا.
لهذا السبب، كان في بعض الأحيان يتمنى ألا تستيقظ إيفيريا أبدًا، إن كان نسيانها له هو الثمن. وفي أحيان أخرى، كان يرجو من أعماقه أن تستيقظ حتى لو فقدت كل ذكرياتها عنه، فالمهم أن يرى مجددًا تلك العينين الصافيتين، لمرة واحدة فقط.
لقد اعترف بخوفه. وحتى إن فقدت ذاكرتها، فهو مستعد أن يعيد بناءها، بل أن يملأ عقلها بذكريات أجمل من تلك التي ضاعت.
لكن أكثر ما كان يرعبه، هو أن يرى في عينيها نظرةً لا تعرفه.
ألهذا السبب، يخشى أن تستيقظ؟
كبح جماح أفكاره بنفسه.
ماذا سيكون تعبير إيفيريا لو علمت بما يدور في ذهنه؟
على الأرجح، ستتظاهر بالهدوء، لكن طرفي شفتيها المرتجفين، وارتجاف عينيها، سيفضحانها.
فأغمض عينيه، ورسم في ذهنه تعبير وجهها.
“حقًا…..أشتاق إليكِ.”
لكن، ماذا لو أن إيفيريا نظرت إليه حين تستيقظ وكأنه مجرد غريب تمامًا؟
شعر وكأن رأسه سينفجر. و مشاعره كانت تتقلب بعنف، حتى هو نفسه لم يعد يفهم ما يشعر به.
ثم تذكّر أنه في الماضي، وللحظة خاطفة، فكّر بقتل ولي العهد فقط لعلّ إيفيريا تستفيق. و كان وقتها يظن أنه قد بلغ ذروة الجنون.
لكن ما يشعر به الآن…..ربما ليس أكثر جنونًا، بل هو جنون من نوع آخر، أكثر عمقًا، أكثر خطرًا.
‘لا، هذا ليس صائباً..…’
بدأ يشعر بانحراف ذلك الحب النقي الذي كان يسكنه.
كان ذلك مرعبًا. لأن الحب حين يفقد نقاءه، لا يبقى منه سوى التعلّق الأعمى.
ذكريات الطفولة، الحنين لتلك الأيام البريئة، أول حب، لحظات السعادة التي كانت تملأ القلوب بمجرد النظر، وإيفيريا ديل، التي كانت تغدق عليه مودةً لا تنتهي…..
تلك الأمور كانت الدافع الحقيقي لحياته. رغم أنه نشأ في بيئة مليئة بكل ما يمكن أن يمنحه دوافع للحياة، إلا أنه اختارها هي، بإرادته.
أن تكون مجنونًا بحب شخص، يختلف كثيرًا عن أن تكون مجنونًا فقط.
حتى الآن، كان جنونه نتيجة الحب، لكن إن استمر الأمر على هذا النحو، سيصبح الحب نتيجة الجنون.
وذلك، بالنسبة له، كان خطًا فاصلًا لا ينبغي تجاوزه. لذا، كان يرجو من قلبه أن تستيقظ إيفيريا بسلام.
خرج منه صوت اندهاش خافت، وقطعت تلك الفكرة تيار أفكاره.
لا يدري لماذا، لكنّه لم يتخيّل يومًا أن تتذكره عندما تستيقظ. ربما لأن الفكرة وحدها كانت تجلب له سعادةً طاغية.
أو ربما لأن عقله، المرتبك والمُنهك، لم يتحمّل احتمال الفرح الكامل فراح يرفضه بلا وعي.
رمش عدة مرات، ثم ارتسمت ابتسامةٌ طفيفة على شفتيه.
مجرد تخيّل الأمر جعله سعيدًا على الفور. و ربما لهذا السبب كان يتجنّب هذه الفكرة.
لأن مجرد تخيّل أن تستيقظ إيفيريا وتتذكره، كان كافيًا ليجعل حياته العادية…..لا تُطاق من شدّة السعادة. فحتى الآن، كانت حياته اليومية مشلولةً تمامًا بسبب بقائه إلى جانب إيفيريا طوال الوقت.
عض إيرميت شفته بخفة.
‘أرجوكِ،افتحيعينيكِقريبًا…..’
كان يتوق لرؤيتها تستفيق وتجيبه، كان يريد أن ينظر في عينيها مباشرة، أن يتقابل وجهاً لوجه معها دون هذا الحاجز البارد من الصمت والغيبوبة.
بكل ما فيه من شوق وحنين وسعادة خفيفة، أمسك بكمّ ردائها بقليلٍ من القوة.
لكنها لم تتحرّك. ولا حتى طرف رمش. فتبدّلت مشاعره فجأة، واختنق صدره بخيبة ثقيلة.
ماهذا؟وكأننيمصابباضطرابٍ مزدوج…..
سخر من نفسه.
ثم هجم عليه الاكتئاب في لحظةٍ واحدة. فما من شيء أكثر إنهاكًا من انتظارٍ لا نهاية له.
لو قال له أحدهم فقط: انتظرلشهر،أوسنة،أوحتىعشرسنوات،ثمستستيقظ، لكان الأمر أهون عليه.
فالأمل المحدد له قوةٌ ساحرة، أما العذاب مجهول النهاية…..فهو وحشٌ يفترس الروح.
مدّ إيرميت يده ووضع أصابعه على ظهر يد إيفيريا. حرارتها كانت لا تزال أقل من حرارة يده، لكن لم تكن باردةً كما كانت يوم سقطت.
شعر ببعض الارتياح، وشدّ أصابعه عليها ثم بسطها، و أعاد الكرّة مرارًا في حركة لا إرادية.
وفجأة—
“آه..…”
خرج صوت أنينٍ خافت، ضعيف، شق سكون الغرفة وقطع عليه أفكاره كليًا.
___________________
قاااامت بنتييييييي اخيرا
ايرميت مجنون هوسه من يومه صغير والحين يحسب حبه كان نقي؟😭
هو واضح مجنون فيها بس ماتوقعت لذا الدرجة
بعدين سيد البرج وش مسوي بالضبط؟ ليه سحره في ايريميت وش ذا الغموض
وسينثيا من يوم طردها مارجعت😭
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 26"