عاد صوت العالم الذهني يخاطب إيفيريا بعد أن عادت إلى المكان الذي بدأت منه.
“الآن فهمتِ، أليس كذلك؟”
كانت السنة والنصف الأولى في أكاديمية لاكانيل فترةً خصّصها عالمها الذهني لترميم ذاكرتها واستعادة استقرارها الكامل.
في تلك المدة، لم يأتِ سيد البرج ولا إيرميت للبحث عنها علنًا، وكانت أيضًا مرحلةً لنموّها وتطوير قدراتها.
“في النهاية، كان ذلك القرار صائبًا.”
“لكنني لا أحبّ أن أُقرّ له بالفضل.”
بدا أن العالم الذهني يضايقه أن يكون الفضل في تلك الفكرة لسيد البرج. فابتسمت إيفيريا بخفة.
شعرت كأن أحدًا يراقب تلك الابتسامة. ثم سألها العالم الذهني بعد تردّدٍ قصير،
“أيمكنني أن أُبقيكِ هنا؟ ألا يمكنكِ البقاء؟”
“هل تظنّ أن ذلك ممكنًا؟”
“كنتُ فقط……أسأل.”
تنازعت الأصوات في داخلها بخفة، تتجادل وتتذمر.
في النهاية، كانوا جميعًا قد اتخذوا القرار من أجلها فحسب. فأرسلت إليهم كلمات اعتذارٍ صادقة.
“آسفة……وشكرًا، لأنكم فعلتم كل ذلك من أجلي.”
“….…”
“وجودكم يمنحني الطمأنينة. حقًا……شكرًا لكم.”
ولأنهم كانوا قادرين على قراءة أفكارها، أدركت كم ربما آذتهم نظراتها السابقة.
لم يجيبوا، وكادت تعتذر مرة أخرى حين اندفعت طاقةٌ غير مرئية نحوها. و أحسّت كأن شيئًا دافئًا يحتضنها.
توسّعت عيناها دهشةً، ثم ما لبثت أن ابتسمت حين تعرّفت إلى تلك الطاقة — إنهم يودّعونها على مضض.
“عليكِ أن تزورينا كثيرًا!”
“أحمق، إن زارتنا إيفيريا فهذا يعني أنها في خطر!”
“آه……إذًا، فلن نراها أبدًا!”
حتى آخر لحظة، أضفوا على الرحيل خفةً وبهجة.
لوّحت لهم بيدها مودعة، ولاحظت أن أصابعها تتحرك قليلًا — أمرٌ لم تستطع فعله قبل لحظات.
“سـ……سيدي! إصبعها……تحرّك!”
“اصمتوا.”
“هل……هل تستيقظ؟!”
تردّد الضجيج من حولها ثم خيّم الصمت ثانيةً.
من وراء حجابٍ رقيق، تسرّب إليها ضوء. و فتحت عينيها نحو الجهة التي يتسلّل منها النور ومشت بخطواتٍ بطيئة داخل العتمة.
تسارعت خطواتها تدريجيًا حتى أخذت تجري. و كانت أنفاسها تغمرها بالعاطفة — فكرة أن بينها وبين إيرميت ذكرياتٌ مشتركة ملأت قلبها فرحًا.
وقبل أن تزيح الحجاب، فكّرت في أول ما ستقوله له.
هل تعتذر لأنها أقلقته؟ أم تخبره أولًا بأنها استعادت ذاكرتها؟ أم تطمئنه بأنها بخير؟
وفي النهاية، أزاحت الحجاب دون تردد.
كل ما تنوي قوله كان واجبًا قوله، فلماذا تنتظر ترتيب الكلمات بينما يمكنها أن تراه الآن؟
ما إن خطت إلى الأمام حتى غمرها نورٌ أبيض صافٍ ولفّها هواءٌ دافئ.
شعرت بوخزٍ خفيف عند عنقها وصدرها. في البداية كان بصرها ضبابيًا، فطرفت بعينيها مراتٍ عدّة.
ثم راحت الرؤية تتضح تدريجيًا. و تعرفت على ملمس الجدران والمفارش المألوفة، فأدركت أنها ترقد في غرفةٍ داخل برج السحر. كان المكان الأكثر أمنًا بعد أن فقدت وعيها.
كان حولها عددٌ من الناس، بعضهم تعرفه وبعضهم لم تره من قبل. و بحثت بعينيها عن لونٍ تعرفه — الفضي.
وبالفعل، كان إيرميت إلى جوارها مباشرة.
حين التقت عيناهما، ارتجف قليلًا وأفلت يدها التي كان يمسك بها. أرادت أن تقول له: لا تتركها. لكن صوتها لم يخرج.
كانت تخشى أنه فقد مشاعره نحوها بعد كل ما فعلت، لكن وجوده قربها حتى الآن بدّد ذلك الخوف.
أغمضت عينيها بارتياح ثم فتحتهما من جديد. بينما كانت نظراته كانت لا تفارق عينيها، كأنه يحاول قراءة ما في أعماقها.
رفعت يدها المرتجفة تلمس عنقها، فارتفعت الأصوات من حولها فجأة.
بمساعدة من حولها، رطّبت حلقها بالماء ثم نظرت إليه مجددًا — و عيناه كانتا ترتجفان.
“أنتِ……أنتِ حقًا……إيفيريا……”
عجز عن متابعة الكلام، وأطرق برأسه بشدة.
و مدّت يدها ببطء وأمسكت بيده، فارتعش طرف أصابعه لحظة، ثم قبض عليها بقوةٍ كأنّه يخشى أن تفلت وتختفي.
ثم تسللت ضحكةٌ صغيرة من بين شفتيها. وسرعان ما اجتاحها ألمٌ خفيف من الداخل، لكنها كتمته كي لا تقلقه أكثر.
غير أن إيرميت لاحظ الاضطراب الطفيف في ملامحها. فنهض جزئيًا، وألقى نظرةً سريعة حوله، ثم سألها بصوتٍ مفعمٍ بالقلق……
“هل تتألمين؟ هل أستدعي سيد البرج؟”
“….…”
هزّت إيفيريا رأسها نفيًا ببطء.
“……هل أنتِ حقًا بخير؟”
أومأت مجددًا بابتسامةٍ خفيفة رسمتها على شفتيها، وكأنها تطمئنه.
فالألم لم يكن شديدًا على أية حال. كان عالمها الذهني لا يزال يعمل داخل جسدها بنشاط، وستتعافى مع مرور الوقت.
راح إيرميت يراقبها بوجهٍ يعلوه القلق، وعندما شعرت بنظرته، التقت بعينيه القرمزيتين بنظرةٍ ثابتة تقول: قل ما تريد.
تردّد طويلًا. وفي تلك المدة، قرأت إيفيريا في عينيه كل ما لم يستطع قوله.
وأخيرًا، كأنه حسم أمره، سأل بصوتٍ مرتجفٍ قليلًا،
“إيفيريا……هل تذكرين يوم لقائنا الأول؟”
كان سؤالًا مألوفًا على نحوٍ غريب. لكنها لم تجد صعوبةً في استرجاع الماضي.
حتى في المرة السابقة، حين أفاقت بعد أن سقطت مغشيًا عليها، كان أول ما سألها عنه هو هذا.
يومها لم تكن قد استعادت ذاكرتها بعد، فأجابته بأنها التقته أول مرةٍ بعد دخوله الأكاديمية. لكن الآن، أخيرًا، تستطيع أن تجيبه بالحقيقة.
أول لقاءٍ بينهما. تذكّرت اليوم الذي رأت فيه شعره الفضي لأول مرة.
كان الغروب في ذلك اليوم غريب الجمال، والسماء تصطبغ بحمرةٍ شفافة تنعكس على عينيه البنفسجيتين.
تذكّرت كيف لم تعرف كيف تعبّر عن امتنانها له، وما اختلط في قلبها من مشاعرٍ غامضة.
و تذكّرت أيضًا تلك الفكرة العابرة: لو أنني تصرّفتُ بشكلٍ مختلفٍ يومها، لربما أخذت حياتنا طريقًا آخر تمامًا.
ثم استعاد ذهنها أول ما قاله لها في ذلك اللقاء — لقد كان يقولها بوجهٍ جادٍ تمامًا…..
“……ما بكِ؟ مزعجة.”
لكنها لم تستطع أن تنقل كلماته حرفيًا، فاختارت صيغةً أكثر تهذيبًا بعد رقابةٍ ذاتية.
شعرت بالرضا لمجرد أن ذاكرتها استعادت تفاصيل المشهد بكل وضوح، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ صغيرة.
بينما ساد صمتٌ محرج لوهلة، فرمشت بعينيها بارتباك.
كان طبيعيًا أن لا يفهم الآخرون ما يجري، فهذا أمرٌ يخصّهما وحدهما.
حين نظرت إليه مجددًا، رأت أن عينيه البنفسجيتين قد غمرتهما دموعٌ خفيفة، ورموشه الفضية ترتعش.
ظنّت للحظة أنّه متأثرٌ بعودتها، لكنها فوجئت بأن ملامحه انطفأت فجأة، وكأن شيئًا انكسر في داخله.
“آسف….آسف يا إيفيريا..…”
قال ذلك وهو يُفلت يدها بارتباك.
لم تفهم، أليس من المفترض أن يفرح؟ ألم يكن هذا ما كان ينتظره؟
ثم أدركت — ببطءٍ فادح — أن عبارتها الأولى قد أوحت له بأنها لا تذكره حقًا. فاتسعت عيناها، وسارعت لتصحيح الموقف، لكن صوتها تعثر، وسعلت قليلًا قبل أن تبرر،
“لا، في الحقيقة قلتَ: ما الأمر؟ مزعجة. — هكذا قلتَ لي بالضبط.”
“……آه.”
رفع رأسه بوجهٍ خالٍ من التعابير للحظة، ثم تمتم بذلك الصوت القصير.
لقد تذكّر فورًا — لا يمكن أن ينسى ذلك اليوم. لقاؤهما الأول، الطريقة التي ساعدته بها، كلماته الغريبة التي قالها خجلًا ليخفي ارتباكه…..
كل شيءٍ عاد إلى ذاكرته واضحًا.
وما قالته إيفيريا الآن يعني شيئًا واحدًا، أن ذلك الماضي الذي كان يملكه وحده، أصبح الآن مشتركًا بينهما.
ارتعشت شفتاه، فغطّى فمه بيده، والعَبَرات بدأت تتلألأ في عينيه البنفسجيتين.
ثم أدرك أنه يبكي فعلًا، فخبّأ وجهه بكفّيه.
لماذا يخفي وجهه؟ — كانت هذه اللحظة بالذات أكثر ما أرادت أن تراه.
مدّت يدها المرتجفة وأمسكت بكمّ معطفه، تشدّه نحوها. و لم تكن تملك القوة الكافية، لكنّها لم تُفلت.
فانحنى نحوها طائعًا، حتى جثا على ركبتيه بجانب السرير.
رفعت يديها وأزاحت كفيه عن وجهه، فرأت وجنتيه وقد بلّلهما الدمع واحمرّتا بحرارة المشاعر.
وحين التقت عيناه بعينيها الزرقاوين، تجمّعت الدموع مجددًا في محجريه.
لقد ظنّ، بصدق، أنّها هذه المرة ستفقد ذاكرتها إلى الأبد. حاول إقناع نفسه أن الأمر لا يهم، وأنه سيكون بخير حتى لو نسيت كل شيء.
بل حاول أن يُقنع نفسه بأن البدء من جديدٍ معها سيكون جميلًا أيضًا.
لكن…..لم يكن ذلك صحيحًا. لم يكن يريد البدء من جديد.
ما حدث الآن لم يكن سوى هديةٍ عظيمةٍ فاقت كل ما يمكن أن يُرجى.
فجأةً أحاطت إيفيريا عنقه بذراعيها برفق، فاستسلم لها دون مقاومة، ودنا منها.
وبينما كانت تضمّه إليها، همست عند أذنه بصوتٍ مرتعشٍ وهادئ،
“……آسفة….لقد استغرقتُ وقتًا طويلًا.”
“……لا، لا بأس، إيفيريا.”
كانت الدموع تنهمر على خديه بلا توقف، حتى ابتلّت كتفاها.
شددت على عناقه أكثر، وابتسمت ابتسامةً ناعمة تُشبه الربيع بعد عاصفةٍ ثلجية — ابتسامةً لا تشبه وجه من نجا لتوّه من السمّ.
“……حين يأتي الشتاء، فلنذهب معًا إلى منتجع الجنوب….لنرقص هناك، ما رأيكَ؟”
التعليقات لهذا الفصل " 122"