ما إن انفتح سدّ الذكريات حتى تدفّق كلّ شيءٍ دفعةً واحدة.
ذكرياتٌ تراكمت لسنواتٍ عديدة تدفقت كالسيل، فتشابك بعضها ببعض، ولم يكن في وسعها إلا أن تتقبّل ذلك.
من الآن فصاعدًا، لم يتبقَّ سوى أن تُرتّب ما استعادت من ذكريات.
وقفت إيفيريا هذه المرة تحت شجرةٍ ضخمة، تراقب الطفلة التي كانتها يومًا، وإلى جانبها إيرميت.
“سيد، سيد إيرميت!”
“هاه؟ هل ناديتِني؟”
علت وجهها ابتسامةٌ متوردة بدت في غاية اللطافة، وظهرت على وجه إيرميت ابتسامةٌ تشبهها.
“هل……تريد أن ترى سحر الوهم؟”
عينان تلمعان كالبحر انعكست فيهما صورته، فأطال النظر فيهما قبل أن يومئ برأسه.
في اللحظة التالية، أحاط بهما سحرٌ أسود قاتم. وانتشر أمامهما ليلٌ داكن، بلون الفجر الذي يسبق طلوع الشمس، وصارت خيوط السحر السوداء نجوماً تملأ السماء.
مدّ إيرميت يده بدهشة، فوضعت إيفيريا نجمةً هي الأشدُّ بريقًا على كفه. و ارتجف طرف أصبعه في انبهار.
“واو……”
“جميلة، أليست كذلك؟”
قالت الطفلة ذلك، وقد ارتسم على وجهها فخرٌ واضح، تنظر إلى عينيه البنفسجيتين. فأومأ مبتسمًا.
وقبل أن يتبدّد الوهم كليًا، سحبته إيفيريا إلى داخلها.
عاد السحر الداكن يتدفّق في جسدها، وتحوّل الليل في لحظةٍ إلى سماء نهارٍ زرقاء.
فرفع إيرميت نظره عن السماء نحو عيني الطفلة من جديد، و تحدّث بتوسّلٍ عميق،
“ألا يمكنكِ أن تبقي إلى جانبي……طيلة حياتكِ؟”
“سأبقى معكَ مدى الحياة، لا تقلق.”
جاء صوتها الطفولي مليئًا باليقين.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ يعدها بمستقبلٍ يجمعهما، وهي لم تتردد في قبول ذلك.
ثقةٌ متبادلة، وعالمٌ لم يسكنه سواهما، عالمٌ كانا يتقاسمانه وحدهما.
ذلك الزمن كان مثاليًا أكثر مما ينبغي……وجميلًا أكثر مما يُحتمل.
أغمضت إيفيريا عينيها ببطء، كان المشهد سعيدًا إلى حدٍّ يوجع الصدر، وكأن السعادة ذاتها تخنق أنفاسها.
وحين فتحت عينيها من جديد، تغيّر المشهد.
جاء الشتاء هذه المرة، والثياب كانت أطول وأثخن من أيام الصيف.
النار المتّقدة في الموقد تنشر ضوءًا دافئًا يملأ المكان. بينما وقفت إيفيريا إلى جوار الموقد، تراقب نفسيهما من الماضي.
كان إيرميت يمد يده نحوها، نحو إيفيريا كما كانت قبل سنوات.
رغم مرور الوقت، ظلّ يحذر من لمسها حتى بأطراف أصابعه. كان ذلك جزءًا من جهده لمساعدتها على تجاوز صدماتها القديمة.
سمعت صوته الشاب، لكنه بدا مألوفًا وعميقًا في ذاكرتها،
“هل تسمحين لي أن أعلّمكِ الرقص؟”
“….…”
كان يرتدي قفازًا، وكمّا ثوبها طويلين، ومع ذلك لم تستطع أن تمسك يده بسهولة.
ابتسم بخفة، ابتسامةً ناضجة لا تليق بسنّه الصغير. وبعد ترددٍ طويل، وضعت يدها المرتجفة فوق كفه.
لم يكن سوى تماسٍّ خفيفٍ بين أطراف الأصابع، لكنه كان كافيًا.
وحين اضطربت يدها، شدّها قليلًا برفق، فاختنق نفسها، لكنّها لم تتراجع.
ثم سألها بنبرةَ هادئة وحنونة،
“أليست الأمور أفضل مما توقعتِ؟”
“أشعر أنّ هذا……لا يجب أن يكون هكذا……لا أدري……”
رمشت بعينيها مرارًا وهي تتلعثم.
كان الضوء في الغرفة بلونٍ أحمر كالمرّة الأولى التي التقيا فيها، لكنّ نظراته كانت أكثر دفئًا هذه المرة.
وتحدّث بهدوء،
“تغيّر الإنسان دليلٌ على أنّه ما زال حيًّا.”
اللون الذي ملأ الغرفة كان نفسه، لكنّ حرارة عينيه اختلفت، ونضجت كلماته كما لم تكن من قبل.
أحسّت إيفيريا بشعورٍ غامض من التكرار، وكأنها سمعت هذه الجملة في زمنٍ مضى، ظلت تسكن في زاويةٍ من ذاكرتها.
رغم نسيانها له، ظلّ إيرميت يؤثر في حياتها بعمقٍ لا يُمحى.
شعرت بغصّة، وكأن الهواء انقطع عنها. كم كانا كلٌّ منهما كلَّ شيءٍ للآخر، إلى حدٍّ لا يمكن محوه.
وحين استوعبت ذلك الثقل، تنفست بصعوبة، بينما تابع إيرميت،
“كلّ ما هو حيّ يتغيّر، سلبًا أو إيجابًا. وما يحدث الآن……هو تغيّرٌ جميل.”
“….…”
“فلا تحاولي أن تسجني نفسكِ داخل قفصٍ صنعته بيديكِ.”
في تلك المرحلة، كانت إيفيريا قد فقدت ذاكرتها، لكنّ صدمتها لم تختفِ، و كانت عالقةً فيها كغريزة.
ما زالت تخاف الظلام المفاجئ، وتهاب دفء الجسد إذا اقترب منها.
وربما قد يظنّ البعض أنّ كلماته كانت خفيفةً لا وزن لها، لكنها بالنسبة إليها……لم تكن كذلك أبدًا.
ثم تابع حديثه ببطء،
“لكن إن كان الرقص يرهقكِ، فلنخرج غدًا في المساء. سنكتفي بمشاهدة الآخرين وهم يرقصون.”
“….…”
“وحين تتحسنين……سنتمكن من السير سويًا في الصيف، ويدانا متشابكتان.”
أضاء وجهه الشاب نورٌ لطيف، وما زال يحتفظ بمسحة الصبا. و قد كانت وجنتاها محمرّتَين حين أومأت برأسها موافقة.
لكن الغريب أن عالمها الذهني لم يُغيّر المشهد هذه المرة.
فقضت إيفيريا الليل بطوله تراقب نفسها القديمة، تلك الفتاة الصغيرة التي لم تستطع النوم شوقًا إلى الغد.
وفي اليوم التالي، لم تخرج إيفيريا مع إيرميت كما وعدت. فقد انهار إيرميت.
أدقّ وصفٍ هو أنه لم يستيقظ من نومه.
في لحظة، تحوّل جوّ القصر الهادئ والمفعم بالسلام إلى فوضى كاملة.
كانت في غاية السعادة……ثم سقطت في أعمق تعاسة.
في أكثر لحظات حياتها إشراقًا، ساءت الأمور إلى أقصى حد. وكان أصل كل ذلك هو إيفيريا، وعالمها الذهني ذاته.
ربما لم يكن ما حدث يُعدّ تعاسةً حقيقية مقارنةً بما عاشته في طفولتها، لكن قدرتها على الاحتمال كانت قد ضعفت كثيرًا.
جاء سيد برج السحر بنفسه إلى القصر، وبناءً على نصيحته حبست إيفيريا نفسها في غرفتها، غارقةً في الكتب لتُسكّن قلقها.
حتى نهاية ذلك العام لم يفق إيرميت من غيبوبته، وفي النهاية نُقل إلى قصر دوقية نيسبيروس.
نظرت إيفيريا إلى انعكاس جسدها الواقف عند النافذة.
لم يوجه أحدٌ إليها اللوم، لكنها كانت تعرف في أعماقها أن سبب انهيار إيرميت يعود إليها.
سحر الوهم……وسحر العالم الذهني……أصواتٌ كانت تطنّ في رأسها دون توقف.
نظرت طويلًا من النافذة نحو العربة التي أقلّت إيرميت والدوق، ثم جلست على سريرها منهارة.
عالمها الذهني اهتزّ بعنف. ذكرياتٌ كانت قد دفنتها عادت تطفو بلا رحمة.
وكأن عقلها أراد أن يُريها الحقيقة كي لا توجه كرهها لهم، أظهر لها كل التفاصيل الدقيقة لذلك اليوم.
وجهها الذي كان ممتلئًا بالحياة صار شاحبًا وهزيلًا، وعيناها الزرقاوان فقدتا بريقهما. وبعد أيامٍ قليلة فقط، سقطت مريضةً بشدّة.
كلما فتحت عينيها في مرضها، كانت ترى إيرميت إلى جوارها، إلا في تلك المرة.
كان الغياب طاغيًا — أحيانًا لا ترى إلا سيد البرج، أو بعض الخدم، وأحيانًا لا أحد على الإطلاق.
لكنها لم تكن تملك الحق في الاعتراض، فهي السبب في كل ما حدث. لذلك، بدلاً من الشكوى، كانت تسأل عن حال إيرميت كلما استعادت وعيها.
“……وسيد إيرميت؟”
“بخير، لكن ربما لن يتذكّركِ بعد الآن.”
كانت تلك الكلمات كطعنةٍ في قلبها. فشعرت بانقباضٍ حاد، وسحبت أنفاسها بصعوبة.
أول حبٍّ في حياتها، من أنقذها ومن كان عالمها بأسره……
مجرد فكرة أنه قد ينساها كانت كافيةً لتحطيمها.
وقفت تراقب نفسها وهي راقدةٌ على السرير، فيما المشهد حولها يتغير بسرعة — تعاقب النهار والليل عشرات المرات.
حالها ظلّ يتذبذب شهورًا طويلة، يومًا تتذكّر كل شيء، ويومًا تنسى كل ما عاشته حتى الأمس.
كان عالمها الذهني يريدها أن تنسى، لكن الواقع من حولها كان يجبرها على التذكّر.
وبعد وقتٍ طويل، أمسكت إيفيريا الماضية بيد سيد البرج وعيناها غارقتان في الدموع.
“……سيدي، أعتقد أنني فقدتُ عقلي حقًّا.”
“…….”
“لم أعد أستطيع الاحتمال……لا بد أنني مجنونة.”
في ذلك اليوم بكت بحرقةٍ لم تبكِ مثلها من قبل. و بدا سيد البرج في حيرةٍ نادرة، وكاد يمدّ يده ليواسيها ثم تراجع.
وبعد صمتٍ طويل،
“يجب أن تفتحي صفحةً جديدة في حياتكِ، صفحةً تنفصلي فيها كليًّا عن الماضي.”
“….…”
رفعت عينيها المبللتين بالدموع نحوه، فيما كانت إيفيريا الحاضرة تراقب المشهد بهدوء.
“اذهبي إلى الأكاديمية. سأحميكِ حتى يحين ذلك الوقت……مهما كلّف الأمر.”
وكانت تلك اللحظة هي السبب الحاسم في التحاقها بأكاديمية لاكانيل.
***
كانت إيفيريا تعرف أنها قد شاهدت كل الذكريات التي كان عليها أن تراها.
لا تدري كم مرّ من الوقت — ربما لأنها عاشت سنواتٍ كاملة في لحظاتٍ معدودة، فقدت إحساسها بالزمن.
الذكريات التي استعادتْها لم تكن تشعر بعد بأنها تخصها كليًا، لكنها تذكّرت المشاعر بوضوحٍ مؤلم.
أول حبٍّ بين روحين لم يعرفا سوى بعضهما، عالمٌ صغيرٌ لم يسكنه سواهما.
آثار إيرميت في ماضيها كانت أعمق وأقوى مما تخيّلت. وشعرت بأن سعيها لاستعادة الذاكرة لم يكن عبثًا، بل كان إنقاذًا لذاتها.
فقط تلك الذكريات، بكل دفئها وسعادتها، كانت كافيةً لأن تمنحها سببًا للعيش عمرًا كاملًا.
ورغم أنها لم تكن متأكدةً من مكانتها في قلب إيرميت، إلا أنها كانت متيقّنةً من أنه كان خلاصها.
كذلك سيد البرج، والدوق نيسبيروس، مهما كانت النتائج، فقد أنقذوها على طريقتهم.
و تساءلت بذهول: كيف أمكنها أن تنسى كل هذا؟ كيف نُزِعت من ذاكرتها أعمدة حياتها ذاتها؟
وحين تذكّرت أن إيرميت هو من حافظ على ذكرياتها منذ البداية، تحوّل الذهول إلى ألمٍ وذنبٍ دفين.
لكن النهاية كانت كما شاء القدر — التقيا من جديد.
أحبّته مرة أخرى، ونسجت معه حكاياتٍ جديدة تخصّهما وحدهما. والآن، لم يكن هناك شيءٌ في الدنيا تتوق إليه أكثر من رؤيته.
فشعرت بدقات قلبها تتسارع، وبحرارةٍ لطيفة تسري في أطراف أصابعها.
_______________________
طيب دمعت الصدق اشوا حسبت شي كبير صار بس ايرميت اغمى عليه سنه عشان سحرها😦 اويلاو
وابوه ياناس اكيد انه خاف عليه بس عنه مره ثانيه مخليه معها😔🤏🏻
وايرميت اول لقاء يوم مدح نظارتها كان يتذكرها هي كشخص بس مايتذكر طفولتهم😔
طيب متى تطلعون للطلعة الي ماطلعتوا لها وترقصون؟ وسيد البرج يوم بكت وهي ماسكتك كيف ماقدرت تضمها؟ مجنون؟ وكيف ماتبنيتها؟😔
المهم قوه لآخر فصل😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 121"