إن كان الأمر كذلك، فقد يكون هذا هو لقاؤهما الأول الحقيقي. فتسلّل إليها شعورٌ بالتوقع، هل يمكن أن ترى شكله وهو طفل؟
“نعم، عليكِ أن تري ذلك أيضًا. لقاءكما الأول كان مؤثرًا للغاية.”
بدأت أصوات الأرواح العقلية تتلاشى تدريجيًا وكأنها تضحك بخفة. و تمنت إيفيريا ألا تكون هيئتها حينها مزريةً للغاية.
كانت تعرف مسبقًا أن ذلك مجرد أمنيةٍ مستحيلة، ومع هذا أخذت نفسًا خفيفًا. و في غمضة عين، تغيّر الزمن من حولها.
قبل قليل كان النهار مشرقًا، والآن أصبح الوقت غروبًا. المكان ذاته، لكن الأجواء مختلفةً تمامًا.
كانت أشعة الشمس تصبغ الجدران والمباني بلونٍ قرمزي، بينما تمتد الظلال الكثيفة على الجانب الآخر.
وفجأة……سمعت حركةً قريبة. وزحف شعورٌ مشؤوم إلى صدرها.
إيفيريا الحاضرة كانت تعلم جيدًا أنه لا ينبغي التدخل في مثل هذه المواقف، لكن الصغيرة……نظرت إلى الوقت ثم أخذت تتفحّص المكان بدقة، وكأن شيئًا ما يدعوها.
اقتربت بحذر، فاندفع قطٌ كان مختبئًا في الزقاق وهرب بسرعة.
همّت بأن تتنفس الصعداء ظنًا أن الصوت كان منه، لكن رنين قطع معدني ارتفع قريبًا. و لم تكن بحاجة لرؤيته……كان واضحًا أن شيئًا خطيرًا يحدث.
ومع هذا، لم تهرب. بل تابعت السير ببطء وحذر.
رغم أنها تعلم أنها تشاهد ذكرى فقط، إلا أن التوتر كان يزداد.
كل شيء سيكون بخير……بدليل أنها في الحاضر ما زالت على قيد الحياة.
كما أن الأرواح العقلية كانت معها، ومن المؤكد أن ثقةً الصغيرة بها كانت السبب الذي جعلها تتحرك بلا تردد.
أجبرت إيفيريا نفسها على الهدوء ورفعت بصرها مجددًا.
وهنا……كان أول ما وقع عليه نظرها……فتى بشعرٍ فضي.
وفي اللحظة التي رأت فيها عينيه البنفسجيتين……هوى قلبها فجأة.
……آه، إذن هنا كان أول لقاء.
فهمت ذلك بلا حاجةٍ لشرح. وبدأت تتذكر تلك المشاعر الأولى التي غمرتها حين رأته لأول مرة.
شفتيه المضمومتان بإصرار، ووجنتاه الطفوليتان اللتان لم تفارقهما النضارة بعد، كل شيء لا يتناسب مع الوضع……ومع ذلك بدا لطيفًا بشكل لا يصدق.
الصغير إيرميت لاحظها بدوره وقطّب حاجبيه قليلًا.
كان واضحًا أنه محاصرٌ من قِبل أشخاصٍ مريبين. فاختلّ توازن إيرميت للحظة، وفي اللحظة التي اندفعت فيها الشفرات نحوه، رفعت إيفيريا الصغيرة يدها بسرعة.
شعرت إيفيريا الحاضرة بقلقٍ حاد، فاندفعت نحو نفسها الصغيرة دون وعي. و انبثقت الطاقة السحرية السوداء من كفها بقلقٍ عارم.
صدّت الضربة أولًا، لكن الشفرات التالية اتجهت نحوها مباشرة. وقبل أن تتمكن من الدفاع، خرجت الأرواح العقلية بمفردها. وانتشر الدخان الأسود منها ككيانٍ هائل، ابتلع المهاجمين بلا رحمة، ثم انهارت أجسادهم.
خطر في ذهنها أن زعيم برج السحر ربما يشعر بالطاقة العقلية التي انطلقت الآن……فما استُخدم لم يكن منضبطًا، بل خرج في حالته الخام تمامًا.
الصغيرة نظرت إلى كفها في ذهول. بينما اقترب إيرميت من الأجساد الساقطة، وأخرج شيئًا صغيرًا من جيبه.
عرفت فورًا أنه أداة سحرية. وقد قيدهم بإحكامٍ ثم التفت إليها ونظر من أعلى.
ظنت أنها ستكون أطول منه الآن……لكنها لم تكن.
كانت أعينهما على مستوى واحد تقريبًا. فتبادلا النظر طويلاً.
أشعة الغروب المنعكسة على شعره الفضي منحته هيئةً شبه خيالية. و ملامحه كانت أنحف مما هي عليه في الحاضر.
الصغيرة رفعت وجهها بعينين صافيتين، تراقبه بتركيز. ورغم أن الإحمرار على وجهه ربما كان انعكاس الشمس……إلا أنه بدا خجولًا للحظة.
مرت لحظة صمتٍ قصيرة. ثم صرف بصره عنها وتحدّث بنبرةٍ تشبه التذمر،
“……ما هذا، مزعجة.”
“….…”
أهذه العبارة التي تُقال لمن خاطر بحياته لإنقاذكَ؟
يبدو أن إيرميت في صغره كان أكثر وقاحةً مما تتذكر.
فتح فمه مجددًا وكأنه سيضيف شيئًا، فانتظرت إيفيريا بفضول ساخر. و لحسن الحظ أن الصغيرة لم تقاطعه.
“……تبدين وكأنكِ تعتقدين أنكِ أنقذتيني، لكن لا. لو لم تظهري فجأة، كنتُ سأهزمهم وحدي بسهولة.”
“.……”
كيف يمكن لشخص أن يكون مستفزًا إلى هذا الحد؟
رفعت إيفيريا حاجبها وشدّت على خصلات شعرها قليلًا.
ومع هذا……رغم وقاحته، كان صوته الطفولي وشفتاه المزمومتان تبدوان……لطيفين للأسف.
إن كانت ترى حتى هذا الجانب لطيفًا، فلا شك أن وقوعها له قد بلغ حده الأقصى.
لكن……كيف ترد على مثل هذه الوقاحة؟
يبدو أن الصغيرة وقعت في الحيرة نفسها، لأنها ظلت صامتة.
كانت بعض المشاهد تُستعاد في ذاكرتها سابقًا فور أن تعيشها، وتفهم مباشرةً ما الذي حدث فيها، لكن هذه اللحظة……لم تتضح تفاصيلها بعد.
ربما كان هذا من الذكريات التي أُغلقت بإحكام داخل وعيها. لذلك لم يكن أمام إيفيريا إلا أن تراقب سير الأحداث وتسير معه.
مرر إيرميت يده على شعره عدة مرات، قبل أن يسأل فجأة بنبرةٍ محرجة،
“……أين بيتكِ؟”
“……ولماذا تسأل؟”
كان ذلك أول صوتٍ تنطق به الطفلة منذ مواجهته، لهجةً دفاعية حادة ومتحفّزة.
تذكرت إيفيريا كلمات إيرميت بأنه أحبها منذ أول لحظة رآها. لكن بعد رؤية هذا الموقف، تساءلت إن كان ذلك منطقيًا حقًا……ومع ذلك، استعادت ملامحه العابثة ذاتها وهي تنتظر إجابته.
ارتجفت عيناه، تلك اللمعة الصافية كانت تهتز بوضوح. كان مختلفًا كليًا عن إيرميت في المستقبل الذي يجيد الحفاظ على اتزانه مهما حدث.
وحين همّ أن يفتح فمه……انبثق تيارٌ من المانا في الأجواء.
ثم التفتت إيفيريا بحذر، لتسمع صوتًا مألوفًا يحيّي باستخفاف،
“مرحبًا، ألم نلتقِ قبل قليل؟”
“…….”
بعد أن استخدمت الطفلة قدرات الذهن، توقعت إيفيريا أن يظهر سيد البرج السحري، وربما الآن تأكد ظنها.
وعلى عكس هدوء إيفيريا، كان إيرميت والطفلة في حالة صدمةٍ واضحة أمام ظهوره فجأة.
وعندما نظرت إلى تعبير إيرميت، راودها سؤال أكثر بدائية: كيف اجتمع إيرميت وسيد البرج هنا أصلًا؟ هل ستفهم أكثر إذا تابعت الذكريات؟
فتراجعت خطوة لتشاهد المشهد بوضوحٍ أكبر.
كانت الطفلة متوترة، عينان زرقاوان تجوبان المكان بقلق، كمن يستعد للهرب في أي لحظة.
كانت الشمس توشك على المغيب تمامًا، وفي تلك الفترة كان لديها وقتٌ محدد للعودة، وإذا تأخرت……كانت تُعاقب بشدة.
ومع ظهور سيد البرج المفاجئ، تضاعف خوفها. نبضات قلبها تسارعت وكأن القلق معدٍ.
تمعّن سيد البرج في الطفلة بعينيه السوداوين، بينما هي تتراجع خطوةً بخطوة، عاجزةً حتى عن التعبير عن خوفها أو غربتها.
لم يكن لديها وقت. و لو ركضت الآن، ربما ستصل في اللحظة الأخيرة.
وفي تلك اللحظة……ظهر من بعيد رجلٌ يشبه إيرميت يمشي بخطواتٍ سريعة وعاجلة.
لم تحتج إيفيريا لكثير من التفكير لتعرف أنه الدوق نيسبيروس، والد إيرميت. فقد كان الشبه بينه وبين ابنه واضحًا إلى حدٍ مذهل.
و بمجرد أن رأى إيرميت، ارتسم الارتياح على وجهه. و تفحّصه ببصره الفضي من رأسه إلى قدميه.
“إيرميت.”
“……هي لم تهاجمني.”
بادر إيرميت إلى الدفاع عنها. فانتقلت نظرة الدوق إلى الطفلة، و تفحّصها بدقة، ثم ابتعد.
بعد لحظةٍ طويلة من التردد، تحدّثت الطفلة بصوتٍ منخفض،
“……سأذهب الآن. عودوا بسلام.”
كان ممكنًا لها أن تقول ذلك فقط لأنها لم تكن تعرف أن من أمامها دوقٌ وسيد برج.
هي لم تكن جاهلةً بأنهم أشخاصٌ غير عاديين، لكنها لم تخشَ من مناصبهم، بل من احتمال تعرضها للعنف في تلك اللحظة.
التعليقات لهذا الفصل " 119"