تلوّن ضوءٌ خافتٌ في المكانَ الذي لا يمكن وصفه بالنظيف.
وأمامها تراكمت كتبٌ وأوراقٌ على هيئة جبل. بينما رفعت الصغيرة نظرها إليها بعينين مرتجفتين من الخوف.
وخلف إيفيريا، وقف الرجل الذي كان يضربها، ثابتًا كجدارٍ هائل.
منذ أن اكتشفوا أنها لا تمتلك موهبةً السحر، أصبحت تُثقل بما لا يُطاق من الأعمال الشاقّة.
لم تكن يداها يومًا سليمتين؛ تتشققان صيفًا وشتاءً، تنزفان بلا وقتٍ للشفاء. و كان عالمها الذهني يحاول حمايتها، لكن ما دامَت هي تُكبِحه، فالحماية لها حدود.
تذكّرت إيفيريا يدَيها في الحاضر……لا شيء سوى ثفنةٍ خفيفة من الإمساك بالقلم.
فغامَت ملامحها بينما تراقب المشهد القديم بعينٍ مظلمة.
“أنتِ……تعرفين القراءة؟”
انتفض جسد الصغيرة، فهذا اليوم هو اليوم الذي ضُبطت فيه تقرأ سرًا.
كانت تجيد القراءة والكتابة منذ طفولتها الأولى. ففضولها نحو المعرفة قادها للكتب منذ دار الأيتام، وبغض النظر إن كان ذلك نعمةً أم نقمة، كانت لغتها أمتن من أقرانها من أبناء العامة.
دفعها الرجل من ظهرها وهو يبتسم، فاهتزّ توازنها خطوةً إلى الأمام.
استدارت إليه بعينين مذعورتين، فأمسك برأسها بخشونة وأدار وجهها نحو الأكوام من جديد.
رغم قسوة قبضته، لم تصدر عنها أنّة واحدة، فقط نظرت للأوراق بخوفٍ صامت.
“إن نسختِ هذا كلّه، سنحصل على المال. والمال هو ما يوفّر لكِ الطعام الذي نطعمه لكِ.”
لم تُجِب. فشدّ قبضته على رأسها حتى شعرت إيفيريا بألمٍ نابض، كأن اليد تعتصر رأسها هي.
و أعاد سؤاله بصوتٍ لا يقبل الرفض.
“إيفيريا……تستطيعين، أليس كذلك؟”
“……نعم.”
لم يكن لديها خيارٌ سوى الموافقة. وبعدها، تضاعف عبء حياتها بلا رحمة.
الأعمال المنزلية لم تقل، بل بقيت كما هي، وأضافوا فوقها النسخ……ثم توصيل ما تنسخه أيضًا.
ورغم ذلك، كان شغفها بالمعرفة وشرهها للعلم هو ما جعلها تُكمِل كل شيءٍ رغم المستحيل. فبنسخها الكتب، كانت تلتهم المعارف دون أن تدري.
لكن……كيف نسيت كل ذلك؟ بل كيف أمكن محو أصلها نفسه من ذاكرتها؟
“حتى نحن كنا نعاني……وأنتِ لم تكفّي عن الشكوى من استهلاك المانا……”
همس الصوت في داخلها بتردد، وكأنه يبرّر نفسه. فابتسمت إيفيريا بطرف عينٍ تخالطه المرارة.
لم تعرف متى انتقلت المشاهد، لكنها أفاقت لتجد نفسها صغيرةً، جالسةً تنسخ من جديد.
شيءٌ ما هنا كان مألوفًا بشكل غريب. كتاب تاريخ الإمبراطورية المقدسة أمامها……شكل الحبر حين يسيل……و تراكم الورق……حتى ارتعاش ضوء الشمعة……كان كل شيءٍ يوقظ شعورًا راسخًا بالسبق.
والقادم بعد ذلك كان……
قطرة…ثم أخرى…
وقبل أن يكتمل تفكيرها، تناثرت قطرات الدم على الصفحات. فارتبكت عينا الطفلة، تجولان دون استقرار.
ارتفعت يدها الصغيرة المتشققة نحو أسفل أنفها بتأخّر، لتجد الدم يلوّث أناملها. و لطّخ اللون الأحمر الورق……بينما تسللت قشعريرةٌ باردة إلى عنق إيفيريا وظهرها.
كان الشعور ذاته، يعيدها للّحظة كاملة.
أطبقت الطفلة على أنفها بكفّ مرتعشة، ثم راحت تحاول مسح الورق بكمّ ثوبها في هلع.
كانت إيفيريا تعرف ما سيأتي……تعرفه جيدًا……
ذكرى قاسية تكاد تُغرِقها بالدمع.
ومع ذلك……عادت الصغيرة للإمساك بالقلم، ويدها ترتجف دون توقّف.
وحين قاربت الصفحة على الانتهاء……دخل الرجل مرة أخرى. فتجمّد جسد الطفلة، وانكمش كتفاها بحجمٍ أصغر من احتمالهما.
وقعت عيناه على بقعة الدم. ورفعت إيفيريا الصغيرة رأسها ببطء……ببطءٍ مؤلم.
“يا لكِ من عديمة الفائدة……!”
أغمضت إيفيريا عينيها بقوة قبل أن ترى الضربة. وفجأة……تغيّر الهواء.
حين فتحت عينيها، كانت واقفةً في شارعٍ تملؤه المتاجر. و كانت الرؤية أعلى قليلًا مما تتذكره.
أما النسخة الصغيرة منها فكانت تعبر الطريق مسرعة، تضمّ حقيبة كتبٍ ثقيلة بكلتا يديها.
التعليقات لهذا الفصل " 118"