تلقّى إيرميت جسد إيفيريا الذي كان ينهار بشكلٍ غريزي قبل أن يسقط.
الدم كان يلطخ زاوية فم إيفيريا. و شفاهها التي فقدت لونها كانت مغطاةً بالدم القاني.
حتى وجهها الذي كان شاحبًا أصلًا بدا الآن خاليًا تمامًا من أي أثر للدم.
ماذا حدث بحق؟
أدار إيرميت رأسه المتصلب ليرى سيد البرج السحري. وكان تعبير سيد البرج يعكس نفس الصدمة والارتباك.
انتشرت قطراتٌ حمراء متناثرةٌ على الأرض. فمسح إيرميت وجنتيها بيد مرتجفة وعاجلة.
“……إيفيريا؟”
لماذا……لماذا لا تفتح عينيها؟
وضع يده بسرعةٍ على عنقها. و ما زال دافئًا ولم تفقد نبضها بعد.
فسحبها إيرميت إليه أكثر، ضامًا جسدها.
إنها حيّة……لا تزال حيّة.
ضمها بقوةٍ كما لو يخشى أن تتلاشى من بين ذراعيه. وكانت الدموع الشفافة قد تجمعت في عينيه البنفسجيتين، ثم انزلقت على خده عندما رمش.
وضع سيد البرج يده بصمت على كتف إيرميت وقاده إلى غرفة إيفيريا. و تم إرقادها على سرير غرفتها.
ما عدا شحوب وجهها وغياب لونه، بدت كما لو كانت نائمةً كالمعتاد.
جلس إيرميت بجانبها ممسكًا يدها كمن يخشى أن تتلاشى إن تركها.
و كان المشهد يعيد إليه ما حدث قبل عامين، حين سقطت إيفيريا من قبل. فأغمض عينيه بإحكام.
***
كانت إيفيريا معلّقةً في فراغ. بإحساسٍ بالطفو يغمرها.
كانت تعرف أنها فقدت الوعي. وتتذكر نظرات إيرميت المرتبكة قبل أن تنهار.
لابد أنه خاف كثيرًا. يجب أن أخبره أنني بخير.
‘يجب أن أكون بجانبه.’
لوّحت بذراعيها اللتين لا تستجيبان للحركة.
كانت متأكدةً من شيء واحد: هي لم تمت. فقد كانت تشعر بذلك بشكل غريزي.
كما عرفت أيضًا أنها هنا لاستعادة جسدها المتضرّر، ولإزالة ما تسلل داخله.
‘……إذاً، هل يمكنني استعادة ذكرياتي أخيرًا؟’
وفي لحظة تفكيرها، تردد صدى صوتٍ مألوف في الفضاء.
“مر وقتٌ طويل.”
كان نفس الصوت الذي سمعته عندما انهارت سابقًا. حينها لم تفهم، أما الآن فقد أدركت…..إنه صوت عالمها العقلي.
“نعم، صحيح. ذكيةٌ كما توقعت.”
ابتسمت إيفيريا بخفة. يبدو أنهم يقرؤون أفكارها دون أن تتكلم.
امتزجت عدة أصواتٍ في ضحكة رفيعة، قبل أن يتساءل أحدها بفضول،
“لكن……أليست هذه مغامرةً جنونية؟ أكلتِ السم لتستدعيني؟”
لم يكن سؤالًا بقدر ما كان دهشة.
لم تجب، واكتفت بابتسامة. بينما واصلت الأصوات الحديث بلا توقف، حتى دون أن ترد. ولهذا اكتشفت أشياء لم تكن تحتاج أن تعرفها.
عرفت أن عالمها العقلي يكره أن يُنعت بـ “الحساس”، ولهذا لا يحب سيد البرج الذي يطلق عليه هذه الكلمة دائمًا.
وعرفت أيضًا أن كبت مشاعرها يؤلمهم، وأن العالم العقلي الذي يحتفظ بذكرياتها مترددٌ بشأن إعادتها إليها.
كان ذلك خبرًا جيدًا……لكنه جعلها تتساءل: لماذا يحتفظون بذكرياتها أصلًا؟ ولماذا يترددون في إعادتها؟
من طريقة كلامهم، يبدو أنهم يهتمون بها بشكلٍ مبالغ فيه.
و كأنهم قرأوا تساؤلاتها، فانفجروا بالكلام دفعةً واحدة،
“أزلنا كل شيءٍ قد يجلب لكِ البؤس، لأنكِ يجب أن تكوني في حالة استقرارٍ دائمًا.”
“الذكريات……تمتزج بالمشاعر يا إيفيريا.”
وبرغم الفوضى في كلامهم، كانت هناك جُملٌ تصلها بوضوحٍ تام.
و شعرت وكأن أنظارًا غير مرئيةَ تحيط بها، فأنصتت باهتمام.
“إن استعدتِ ذكرياتكِ، ستعود معها مشاعركِ التي عشتِها حينها.”
“الناس لا تغرق في الذكريات لأنهم يتذكرون الأحداث……بل لأنهم يتذكرون ما شعروا به.”
“أخشى عليكِ……ألا يمكنكِ التعافي هنا ثم العودة دون أن تستعيدي الذكريات؟ فقط……لا تنظري إليها.”
بدوا وكأنهم يخاطبونها حينًا، ويتشاجرون فيما بينهم حينًا آخر. وقد كان الحوار فوضويًا، بلا ترتيب.
كانت تتساءل ما الذي حدث بالضبط حتى تتحدث العوالم الذهنية بهذه الطريقة.
وشعرت بيقينٍ غريب بأنها قادرةٌ على تحمّل أي ذكرى، وأي مشاعر كانت تسكن الماضي.
وخاصةً إن كان إيرميت موجودًا في ذلك الماضي، فمهما كانت المشاعر المرتبطة به، كان لابد من العثور عليها.
‘فهو الآن أثمن ما لدي، ولا يمكنني دفن الماضي إلى الأبد.’
وعندما بدت عزيمة إيفيريا راسخة، لم يضيفوا كلمةً أخرى.
“……يبدو أنها تريد معرفته فعلاً.”
“أجل……يبدو ذلك.”
كانت أصوات العوالم الذهنية كئيبةً على نحوٍ غير معتاد، وبما أنها كانت تريد المعرفة حقًا، لم تستطع إيفيريا الاعتراض.
“هل نريها مباشرة؟”
“ألن تكون الصدمة أكبر من اللازم؟”
“كمّ الذكريات ضخم……لا يمكن إعادته دفعةً واحدة، يجب أن تراها.”
“المشاهدة أفضل من المعايشة……لقد مرّت به مرة من قبل، في النهاية.”
وسرعان ما بدأوا يتجادلون فيما بينهم، متجاهلين وجودها تمامًا.
ولا تعرف كم مرّ من الوقت قبل أن تُسحب فجأةً إلى مكانٍ حالك الظلام. فأغمضت عينيها بقوة، ثم فتحتهما، لتجد نفسها في مكانٍ مهمل وغريب.
تلفتت بحذر……لم يكن المكان موجودًا ضمن ذكرياتها، لكنه بدا مألوفًا على نحو لا يُفسَّر.
تجمد بصرها عند طفلةٍ صغيرة تقف على مقربةٍ منها……طفلةٌ بشعر أسود وعيونٍ زرقاء تشبهها إلى حدٍ مدهش.
مدّت يدها دون وعي، لكنها لم تلتقط شيئًا……و اخترقت يدُها جسد الصغيرة وكأنها هواء. فأدركت سريعًا أنها ليست سوى مُشاهِدةٍ لذكرياتها، لا أكثر.
وبينما كانت تحاول التأقلم، سُمعت أصواتاً عند الباب، ودخل عدة أشخاصٍ إلى المكان. و تحدثوا فيما بينهم دون أن يلاحظوا وجودها.
“إنها موهوبةٌ في السحر، إن أحسنتم تربيتها فستكون ذات فائدةٍ عظيمة.”
وفجأة، شعرت بصداع يشبه تهشم الجمجمة، ثم اندفعت الذكريات كسيولٍ محبوسةٍ انفتح سدّها.
الصغيرة……تم بيعها تقريبًا مع هذه الكلمات، ثم جرى تبنيها.
وبعد إجراءات تبني قصيرة وسطحية، اصطحبوها إلى المنزل الذي عاشت فيه طفولتها.
وبمجرد أن ظهر المنزل، أغمضت عينيها غريزيًا، وما إن فتحتهما حتى وجدت نفسها في مكان آخر.
بحسب الذكرى الضبابية، كان هذا داخل ذلك المنزل. وبينما كانت تتلفت محاولةً فهم ما حولها، دوّى صوتٌ عالٍ غاضب،
“لا فائدة منها! قلتم أنها موهوبة بالسحر! لقد خُدعنا!”
“أ……أنا……آسفة.…”
ارتجف جسد إيفيريا، والتفتت نحو مصدر الصوت.
استقبلت عيناها مشهد يدٍ تهوي بلا رحمةٍ على طفلةٍ بشعر أسود……الطفلة كانت تحدب جسدها المرتجف محاولةً لاحتماءٍ لا وجود له.
هل……هذا كان واقعًا؟ هل حدث هذا فعلاً؟
لم تستطع إيفيريا حتى أن ترفّ……و تجمّدت أمام المشهد.
ركلاتٌ لا تحمل سوى الغضب……جسدٌ صغير يرتجف كطائرٍ مكسور……كل شيء بدا بطيئًا حد الألم.
حاولت منع الضرب بيأس، لكن يداها كانتا تعبران الفراغ بلا أثر.
ورغم العنف، لم تتوقف الطفلة عن تكرار كلمةٌ واحدة…… “آسفة”. فانفجرت دموع إيفيريا بلا مقدمة.
القسوة كانت مؤلمة……والذكرى أكثر واقعيةٍ مما ظنت يومًا.
وعادت إليها الذكرى كاملة. ذلك اليوم الذي أخفت فيه سحر العوالم الذهنية الذي ولد معها بالفطرة……ذلك اليوم الذي ضُرِبت فيه بلا رحمة.
مرّ عليه أكثر من عشر سنوات، لكنه كان واضحًا كجرحٍ طازج.
ورغم أن العنف لم يصل لهذه الدرجة مرةً أخرى، فإن هذا اليوم وحده كان كافيًا لترسيخ ندبةٍ لا تُمحى.
وحين سقط جسد الطفلة بلا قوة، غادر الرجل بعد أن فقد السيطرة على غضبه، وأغلق الباب بعنفٍ كاد أن يحطمه.
جلست إيفيريا بجانب جسدها الصغير الفاقد للوعي، تنظر إليها بمرارة.
دموعها سقطت لكنها لم تلمس الطفلة……و تبخّرت في الهواء. وعلى الأرض، بقيت الطفلة لساعات قبل أن تزحف ببطءَ إلى غرفتها.
أغلقت الباب……وسقطت على الأرض متكوّرةً حول نفسها.
“……يا للراحة……لا يمكن أن يروكم……”
كانت تعلم، حتى في طفولتها، أن انكشاف سحرها الذهني سيجعلها أداة مطاردةٍ للأعمال القذرة……وهو مصيرٌ أبشع من الضرب نفسه.
تدفقت المشاهد بعدها بترابطٍ لا يتيح التهرب.
عبست إيفيريا……فقد كان ثقل الذكرى يفوق قدرتها على التحمّل.
رفعت الطفلة الصغيرة يدها، تراقب شيئًا أسود يتلوّى عند أطراف أصابعها، وابتسمت ببطءٍ ووهن،
“حقًا……هذا رائع……”
ثم غابت عن الوعي من جديد، بينما التف ضوءٌ أسود خافتٌ حولها.
لم يستطع السحر أن يتمرّد على إرادتها حينها، لكنه فعل ما استطاع……خفّف الألم قليلًا……وسرّع التعافي بقدرٍ يسير.
فهمت إيفيريا حينها لماذا كانت عوالمها الذهنية شديدة الحساسية……لقد كبرت وهي ترى كل هذا، كان طبيعيًا أن تصبح دقيقة……حذرة……مفرطةً في الشعور.
وخطر ببالها أن أولئك القوم……ربما كانوا سيموتون ذلك اليوم لو لم تكبح سحرها.
أرادت أن ترى الطفلة تستيقظ……لكنها نُقلت قسرًا قبل ذلك بلا رحمة.
_________________________
اهلها باعوها🤡 لو انهم فاطسين احسن
والحمار الي تبناها ضربها جعل يده الكسر
طيب شلون شافت ايرميت كيف قدروا يتقابلون وهو ولد دوق وهي كذا😭
المهم يوجع ياعمري هي وش استقبال الذكريات ذاه😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 117"