لحسن الحظ، ترك الإمبراطور يد إيفيريا سريعًا. فأطلقت إيفيريا أنفاسها التي كانت تحبسها دون أن تُظهر ذلك.
و سألها الإمبراطور وهو يُعيد ارتداء قفازه، واضعًا إحدى يديه فوق طقم الشاي.
“هناك شايٌ يناسب أصحاب الأجساد الباردة، هل ترغبين به؟”
“……نعم، سأكون ممتنةً إن قدمته.”
بدا وكأنه كان سيجعلهـا تشربه حتى لو رفضت. و بعد لحظة صمتٍ قصيرة، أجابت بابتسامة مهذبة.
بدأ الإمبراطور يُحضّر الشاي بعنايةٍ بالغة. و راقبته إيفيريا بنظرةٍ منخفضة قليلًا.
وُضع أمامها كوب شايٍ بلونٍ قرمزي. و قلّب الإمبراطور فنجانه بملعقةٍ فضية بطريقة مقصودة كمن يستعرض أمامها.
رفعت إيفيريا فنجانها، بينما كانت أطراف أصابعها مشدودة بالقوة. انكشفت يدها اليسرى المخفية، ليلتقط ضوء الخاتم الفضي في إصبعها البنصر.
ارتشفت رشفةً صغيرة ثم أعادت الكوب بكلتا يديها. ثم رفع الإمبراطور فنجانه نحو فمه مرة أخرى، كما لو يشير لها بأن تشرب.
فلم يكن أمامها سوى أن ترتشف مرة أخرى. وفي اللحظة التي أعادت فيها الفنجان بصمت……
فُتح الباب ثم أُغلق. يبدو أن أحدهم وصل. و تقدّم الفارس الواقف عند الباب نحو الإمبراطور. ألقى نظرةً خاطفة على إيفيريا ثم همس بشيء للإمبراطور.
تلونت ملامح الإمبراطور بلمسةٍ غامضة. و تبادل النظر بين مدخل القاعة وبين إيفيريا، ثم تحدّث بابتسامة،
“أدخِلوهم.”
فُتح الباب. ارتفعت أصوات اقتراب، ثم تردد صوتٌ رنان عند أذن إيفيريا.
“جلالة الإمبراطور.”
“نعم، ما الذي أتى بكما إلى هنا؟”
قال الإمبراطور ذلك بصوتٍ ودود.
أدركت إيفيريا أن الزائرين هما وليّ العهد والأميرة. لم تكن تعرف من هو سابقًا لذا لم تُلقِ التحية، أما الآن فقد عرفت. نهضت قليلًا وأحنَت رأسها.
“……أتشرف بلقاء سمو ولي العهد وسمو الأميرة.”
اكتفى وليّ العهد بإيماءةٍ خفيفة كردّ للتحية، بينما لمست الأميرة ظهرها بلطف، كمن يأمرها بالجلوس.
جلست إيفيريا بهدوء، ونظرت إلى سيلينا الواقفة بجانب الإمبراطور، بينما كان وليّ العهد يقف بجوارها، يحدّق بتفاصيل وجه إيفيريا دون خجل.
كلاهما كان أكثر أناقةً مما كانا عليه في الأكاديمية، لكن……كان هناك شيءٌ مضطرب في هيئتهما.
انهارت ملامح الأميرة، واتجهت نظرتها إلى الطاولة بين إيفيريا والإمبراطور، وتحديدًا إلى فنجان الشاي الذي أصبح نصفه فارغًا.
شدّت سيلينا زاوية فمها المرتجف في محاولةٍ للتماسك. وعلى عكس ملامحها، كان صوتها ثابتًا بشكلٍ مذهل.
“جلالتك، هل تسمح لي أن آخذ ضيفتكَ معي؟”
نظر الإمبراطور بين سيلينا وإيفيريا ثم أطلق ابتسامةً باهتة. و في تلك اللحظة، سحبت إيفيريا طاقتها العقلية المضطربة التي كانت تحاول التسرّب، وأعادتها بهدوء إلى داخل جسدها.
مرّت لحظات طويلة……لكن الإمبراطور لم يُجب. فتحدث وليّ العهد أخيرًا.
“……جلالتك، أود أنا أيضًا……قضاء بعض الوقت مع شخصٍ عزيز التقيته في لاكانيل.”
“من واجب الأب أن يمنح ابنه وقتًا مع أصدقائه. خذوها. على أي حال، حديثنا انتهى.”
أجاب الإمبراطور فورًا، وعيناه—المشابهتان تمامًا لعينيهما—انحنيتا بابتسامة.
فنهضت الأميرة وتقدّمت نحو إيفيريا. و بحركة غير عنيفة، ساعدتها على الوقوف ثم انحنت للإمبراطور.
“شكرًا لكَ، جلالتك.”
أومأ الإمبراطور مغمضًا عينيه. ثم أمسكت الأميرة بذراع إيفيريا وسارت بها بخطى سريعة. بينما لاحظت أن وجه وليّ العهد، الذي لمحته للتو، كان أكثر صلابةً مما رأته عليه يومًا.
لم تقل إيفيريا شيئًا، فقط تبعتهما بهدوء. ثم وصلا أخيرًا إلى إحدى الغرف. و أغلقت الأميرة الباب دون صوتٍ، ثم صرفت جميع الحرس والخدم فيها.
أجلست إيفيريا على أريكةٍ وثيرة، ثم جلست بمقابلها، فيما جلس وليّ العهد إلى جانب الأميرة.
و انطلق صوتٌ متوتر باتجاهها،
“هل شربتِ؟”
كان وجه الأميرة كمن يتمسك بآخر بصيص أملٍ في العالم. فتهرّبت إيفيريا من نظراتها.
الآن فهمت سبب قدومهما بتلك السرعة. لابد أنهما عرفا أن الإمبراطور استدعاها، وخشيا أن يُلحق بها ضررًا.
أومأت إيفيريا ببطء. كانت الإيماءة بطيئةً……لكنها مؤكدة. ومنح ذلك الجواب وجه الأميرة انهيارًا تامًا. و وليّ العهد لم يكن أفضل حالًا.
“يا إلهي……”
“……لا بأس. كل شيء سيكون بخير، سموك.”
كان سيصبح بخير حقًا. فإيفيريا تثق تمامًا بطاقتها العقلية، فقد شعرت بتماسكها قبل قليل وأيقنت بذلك.
لكن الأميرة وولي العهد لم يعرفا. فهمست الأميرة لنفسهاً،
“كان يجب……أن نكسب وقتًا……كان يجب ألا تشربيه.”
“….…”
و لم تستطع إيفيريا أن تنطق بكلمة واحدة.
أخذت الأميرة تتنفس بعمقٍ مرارًا وتكرارًا. ثم رفعت يدها عن عينيها و تحدّثت بصوتٍ مرتجف.
“لا……كان يجب أن آتي أسرع. كان عليّ ألا أنتظر أخي بل أن أذهب مباشرة……أنا آسفة، كل هذا خطئي.”
“ليس كذلك يا سمو الأميرة.”
رمشت إيفيريا بسرعة في ارتباك. لم تفهم سبب شعور الأميرة بالذنب إلى هذا الحد. فلم يكن شربها للشاي الذي أعده الإمبراطور بسبب الأميرة أصلًا.
بل إن الأميرة سبق وأن حذّرتها بلطفٍ من قبل. وإيفيريا هي من تجاهلت التحذير، وهي من لم تستعن بقوة برج السّحر رغم قدرتها على ذلك.
تمنت لو أن ولي العهد يهوّن على أخته قليلًا، لكنه لم يكن أفضل حالًا منها. فقد كان يبدو كمن قتل شخصًا بيديه، خليطٌ من الصدمة والذنب واليأس يرتسم على وجهه.
رفعت الأميرة وجهها عن يديها، ثم أمسكت بذراع إيفيريا. ولأنها كانت تمسكها من فوق القماش، لم تشعر بالقشعريرة التي أحست بها أمام الإمبراطور.
“دعينا نعود. الآن. أنتِ في برج السحر، صحيح؟ اذهبي إلى سيد البرج. ربما يستطيع إيجاد حل.”
“….…”
ازداد وجه الأميرة ذعرًا حين طال صمت إيفيريا. كانت تبدو يائسةً جدًا لدرجة أن إيفيريا لم تستطع سحب ذراعها من قبضتها.
“أرجوكِ يا إيفيريا. أنا سأتكفل بالعواقب.”
“……حسنًا يا سمو الأميرة. سأفعل ذلك.”
حينها فقط بدا على وجه الأميرة شيءٌ من الارتياح. فمسحت عينها بيدها ثم سألت من جديد.
“تعرفين إحداثيات البرج، أليس كذلك؟”
“……نعم.”
كانت لا تزال تتذكر الإحداثيات التي حسبتها حين انتقلت من الأكاديمية إلى برج السحر سابقًا.
بل إن سيد البرج أعطاها إحداثياتٍ أدق قبل قدومها إلى القصر، وطلب منها استخدامها إن اضطرت للهروب.
فارتسم الارتياح على ملامح الأميرة، وتحدّثت بسرعة،
“يمكنكِ استخدام السحر في هذه الغرفة، اذهبي الآن مباشرة.”
شعرت إيفيريا بأنها لو تأخرت أكثر، فالشخص الذي سيفقد وعيه لن تكون هي، بل الأميرة نفسها. و كادت أن تومئ، لكنها تذكرت أمتعتها التي تركتها في غرفتها.
نظرت إلى الأميرة المتوترة ثم إلى ولي العهد الذي يحمل تعبيرًا لم تره من قبل، ثم تحدّثت بصوتٍ خافت،
“سأجلب أمتعتي أولًا……”
“هنا. لقد أحضرتها بالفعل.”
رفعت الأميرة حقيبةً كانت موضوعةً في زاوية الغرفة وناولتْها لها.
لم تكن تحمل شيئًا لا يمكن استبداله، مجرد بعض الملابس. لذلك ذكرت الأمر دون أملٍ كبير، لكن استعداد الأميرة كان يفوق توقعاتها.
ضحكت إيفيريا بخفة وهي تأخذ الحقيبة. و وقفت في مكانٍ خالٍ قدر الإمكان حتى لا يتأثر شيءٌ من حولها بسحر النقل. حتى الأميرة وولي العهد حافظا على مسافةٍ آمنة.
بدأت إيفيريا الحساب بسرعة، مستخدمةً موقعها كنقطةٍ مرجعية. وكما قالت الأميرة، لم يكن هناك ما يعيق استخدام السحر في الغرفة.
ثم أخذت المانا تتدفق حولها، وبدأت الرياح تهب.
شاهدتها الأميرة ويداها متشابكتان بقلق، بينما كان ولي العهد يربّت على كتفها. وبمجرد أن اختفت إيفيريا تمامًا، انهارت الأميرة على الأرض كمن خذلته قدماه.
كل شيءٍ كان بسببها……موت صديقتها القديمة، وموت مربيتها، والآن، إيفيريا التي شربت السم بعد أن استدعاها الإمبراطور……كل ذلك كان بسببها أيضًا.
***
فتحت إيفيريا عينيها اللتين أغمضتهما بقوة. و أحست بالغثيان والدوار.
أمامها ظهر برج السحر الذي بات مألوفًا لعينيها. ففتحت حقيبتها وأخرجت شِارة الدخول، و وضعتها على الباب ودفعت المانا فيها، فانفتح الباب الضخم ببطء.
في داخل جسدها كانت الطاقة العقلية تتحرك باضطرابٍ غير اعتيادي. فنظرت إليها داخليًا ثم ابتسمت بخفة.
تراجعت خطوةً واحدة……وقبل أن تشعر بوجود أحد، كان سيد برج السحر واقفًا أمامها مباشرة. وقد ابتسم لها،
“كيف تشعرين الآن؟”
“لا بأس……حتى الآن.”
كان وجهها شاحبًا بشكلٍ مريب، لكنه افترض أن الشحوب نتيجة الانتقال السحري، إذ يحدث ذلك أحيانًا. فتنفّس بارتياح وأدخلها إلى البرج.
كان الطلاب غارقين في حسابات المعادلات، لكن بعضهم أطلّ برأسه بعد أن شعر بتذبذب المانا في الجو.
وفي اللحظة نفسها، قرأ شخصٌ آخر تدفق المانا، شخصٌ ذو شعرٍ فضي، أسرع نحوها بخطواتٍ واسعة.
ثم ركض أخيرًا، وعندما وصل……جذب إيفيريا بين ذراعيه في عناقٍ قوي.
“……إيفيريا. إيفيريا……لقد اشتقت إليكِ.”
كان في صوته راحةٌ عميقة. فحاولت إيفيريا أن تبادله العناق، لكنها شعرت بشيءٍ يصعد من أحشائها، فدفعته بسرعة.
و اتسعت عينا إيرميت بدهشة. بينما انحنت إيفيريا فورًا، ورفعت يدها التي لا تحمل الحقيبة لتغطي فمها.
لكن الدم الذي لم تستطع حجبه كاملًا……تسرّب عبر أصابعها ليسقط قطراتٍ متتابعة على الأرض.
و مع كل نوبة سعال، شعرت وكأن أحدًا ينتزع أعضاءها من الداخل. فتراخت أنفاسها شيئًا فشيئًا……وسقطت حقيبتها من يدها.
التعليقات لهذا الفصل " 116"