فتحت إيفيريا عينيها بعد أن أغلقتهما بقوة، لتقع نظراتها على مشهدٍ مألوف وغريب في آنٍ واحد.
كان هناك، على مسافةٍ ليست ببعيدة، مبنى ضخمٌ مهيب، يكفي النظر إليه مرة ليفهم المرء أنه القصر الإمبراطوري.
منذ أن تقرر قدومها إلى القصر، كانت إيفيريا قد بحثت في كتبٍ تتعلق بجغرافيا المنطقة المحيطة به، ولهذا رغم أنها لم تزره من قبل، بدا لها مألوفًا إلى حدٍ ما.
استحضرت ذاكرتها وسارت نحو البوابة المؤدية إلى داخل القصر. ورغم أن الوقت كان صباحًا، إلا أن عدد الناس هناك لم يكن قليلًا.
أخرجت بطاقة تعريفها الطلابية ورسالة الإمبراطور التي استلمتها عند قدومها إلى برج السحرة، ثم انتظرت قليلًا. و لحسن الحظ، لم يستغرق الطابور وقتًا طويلًا.
ما إن رأى الفارس الواقف عند البوابة ختم الإمبراطور، حتى تجمدت ملامحه كمن أوشك على الإغماء.
لكن على عكس غيرها، لم يكن مسموحًا لإيفيريا أن تدخل وحدها وتتجول بمفردها. فأوقفها الفارس معتذرًا، موضحًا أنه سيبلغ المسؤولين وسيوفّر لها من يرافقها.
بعد انتظارٍ ليس بالقصير، جاء شخصٌ من داخل القصر ليرافقها إلى الجناح الذي يقيم فيه الإمبراطور، إلى غرفة الضيوف المخصّصة لها.
كل ما في القصر كان فخمًا ومهيبًا وجميلًا. أينما اتجهت عيناها، كانت التفاصيل نظيفةً ومنسّقة حد الكمال.
ورغم أنها كانت مناظر تسلب الأنفاس، إلا أنها لم تشعر برغبةٍ حقيقية في التجوّل أو الاستكشاف.
وضعت أمتعتها على عجل، وجلسَت على الكرسي في الغرفة. و حتى ما يظهر من النافذة كان مشهدًا مُعتنى به على نحوٍ دقيق.
وعلى الرغم من غرابة المكان، كانت إيفيريا هادئةٌ على نحوٍ غير متوقع. ولهذا، لم تتسرّب قواها الذهنية خارج نطاق سيطرتها.
أخبرها الشخص الذي أوصلها إلى الغرفة أنه ما إن يتم تحديد موعد الإمبراطور، سيتم إبلاغها، وأضاف أنه إن احتاجت أي شيء أو شعرت بعدم الراحة، يمكنها قرع الجرس.
بما أنها لم تزُر القصر من قبل، كانت تتصور ببساطة أن مقابلة الإمبراطور تتم بمجرد الوصول. فكرةٌ لم تكن لتخطر ببال إلا من يجهل الواقع.
في البداية كان لديها الكثير من الوقت. فراحت تتدرب على التحكم بسحرها الذهني، وتخفي تدفق المانا داخل جسدها بإحكام.
كان هناك نظامٌ سحريٌ داخل القصر وفي كل غرفة، معدّ لكشف السحر ومنعه، لأسبابٍ أمنية. لكن بما أنها كانت تتحكم بالسحر داخل جسدها فقط، لم يتداخل ذلك النظام معها.
ومع مهلةٍ محددة بأسبوع فقط، كانت تشعر ببعض القلق. لكن سيد برج السحرة لم يكن ليجهل المدة التي قد يستغرقها لقاء الإمبراطور. لا شك أنه أخذ الأمر بالحسبان حين اقترح هذا الجدول.
دفعت إيفيريا قلقها إلى مؤخرة وعيها. فإن طال الانتظار أكثر، كانت ستسأل المسؤولين بنفسها.
لكن لحسن الحظ، لم يطل الأمر كثيرًا حتى تم استدعاؤها لملاقاة الإمبراطور.
في الليلة السابقة لم تستطع النوم، فقد جاءها موعد المقابلة بشكلٍ مفاجئ. و سمعت عنه الكثير……ولم تكن أيٌّ من الروايات التي وصلتها إيجابية. وحتى في الصحف، كانت الإشادات به نادرةً جدًا.
وفي اللحظة التي خطت فيها نحو قاعة المقابلة، شعرت وكأن الواقع يتصدّع من تحت قدميها.
كان قلبها يدق بسرعةٍ مخيفة. ما بين تخيّل الأمر وعيشه فرقٌ شاسع. و شعرت وكأن قلبها سيقفز من حلقها. فبلعت ريقها الجاف بصعوبة.
ولحسن الحظ، لم يكن الإمبراطور حاضرًا بعد. فضغطت بأطراف أصابعها فوق راحة يدها المرتجفة محاولةً السيطرة على نفسها.
لو كان الإمبراطور حاضرًا منذ اللحظة الأولى، لربما فقدت وعيها.
لا تدري كم مرّ من الوقت، لكنها بعد أن هدأت قليلًا، استطاعت أن تدير رأسها المتخشب وتتأمل القاعة. وكانت، كغيرها من أرجاء القصر، غارقةً في الجمال والتفاصيل الدقيقة. لو كانت في ظرفٍ غير هذا، لوقفت مبهورةً لساعات.
حينها، جاء صوتٌ من جهة الباب. فنهضت إيفيريا بشكلٍ غريزي.
ومن عند المدخل، ظهر الإمبراطور بشعره الذهبي، يسير نحوها. فانحنت إيفيريا بسرعةٍ احترامًا.
“أتشرف بلقاء جلالتك.”
هبطت عيناه عليها، يفحصها بلا تردد، كما لو كان يقرأ مكوّناتها. و شعرت بعرقٍ بارد ينساب على ظهرها تحت وطأة نظره.
وقف قليلًا، ثم تجاوزها وجلس أولًا. عندها فقط شعرت بالارتياح لأن نظره انصرف عنها.
ثم ارتفع صوتُه بنبرةٍ مهيبة،
“اجلسي. ما اسمكِ؟”
“إيفيريا ديل.”
كانت تجلس أمامه مباشرة. أقامت ظهرها بحذر، ووضعت يديها على حجرها.
و سألها مرة أخرى بعد قليلٍ من السكون،
“تابعةٌ لـ لاكانيل؟”
“حاليًا أنا تابعة لأكاديمية لاكانيل وبرج السحرة في آنٍ واحد.”
مسألة الانتماء كانت مهمةً، لذا أجابت بدقة. هل كان من المبالغ فيه أن تظن أن وراء كل كلمةٍ منه معنى خفي؟ لا……لم يكن كذلك. كان من الحكمة أن تفترض وتستعد.
عضّت خدّها من الداخل بخفة، ليقابل كلماتها بإيماءةٍ خفيفة،
“آه، صحيح. التدريب الميداني كما قيل.”
“نعم، في السنة الرابعة نخرج للتدريب العملي.”
كان يمرّر يده على وجنته وذقنه وهو يومئ برأسه.
“والآن بعد أن ذكرتِ ذلك، أظن أنني رأيتُ في القصر الإمبراطوري أشخاصًا قادمين من لاكانيل أيضًا.”
أومأت إيفيريا برأسها بخفة، محافظةً على ابتسامتها المهذبة.
لقد كانت تجيب باختصارٍ على أسئلة الإمبراطور فقط. لم يكن هناك داعٍ لأن تُقدّم معلوماتٍ إضافية من تلقاء نفسها، فالإمبراطور رجلٌ قادر على معرفة ما يثير فضوله سريعًا، دون مساعدة.
الأسئلة يمكن الرد عليها، لكن بخلاف ذلك، لم تكن تدري أي إجابةٍ ستكون الأنسب في حضرة الإمبراطور. ورأت أن الصمت أفضل من التلعثم في كلامٍ لا يستدعي الرد.
و لحسن الحظ أو سوءه، كان الإمبراطور بارعًا في استمرار الحوار.
“وليّ العهد قليل الكلام، فكيف هي أكاديمية لاكانيل إذًا؟”
“……على الأقل، كانت مثاليةً في نظري.”
كان السؤال واسعًا للغاية.
ترددت إيفيريا للحظة، تفكر كيف تصف التعليم والأنظمة والفعاليات في الأكاديمية، ثم اختصرت كل ذلك في كلمةٍ واحدة عامة.
وكأنه طرح السؤال لمجرد استمرار الحديث، لم يعترض الإمبراطور على إجاباتها المقتضبة. و اكتفى بأن أومأ وخفّض بصره قليلًا وهو يكمل كلامه.
“وليّ العهد صامتٌ جدًا، والأميرة مفرطةٌ في حيويتها، وهذا يرهقني.”
“….…”
“خصوصًا أنني لم أعاقبها يومًا مهما أخطأت، فكبرت ببراءةٍ مفرطة.”
ابتسمت إيفيريا وهي تستمع لحديثه الذي بدا كأنه موجهٌ لنفسه.
لكن عدم العقاب لا يصنع دائمًا تلك البراءة. ترى، على أي جزء من حديثه ينبغي أن تركز؟
لا بد أن وراء كلامه مقصدًا ما، لكن مواضيع الإمبراطور كانت تتغير بشكلٍ مفاجئ، وتتقافز بلا توقف.
وكما توقعت، رفع نظره نحوها مباشرةً ما جعلها تواجه نظراته حينها،
“سمعتُ عن معجزة لاكانيل، إيفيريا ديل. والآن وقد رأيتكِ، أظنني فهمت سبب اللقب.”
“إنه لشرفٌ لي.”
أجابت بابتسامةٍ رصينة.
ما معنى هذا الحوار كلّه؟ كلما طال الحديث، داهمها شعورٌ بالارتباك.
كانت تدرك منذ صغرها أن لكل كلمةٍ ينطق بها النبلاء مغزى، لكن الإمبراطور كان يقول كلامًا يبدو بلا مغزى على الإطلاق. بل كان غير مباشر أكثر مما ينبغي.
شعرت وكأنها تواجه لغزًا صعبًا دون استعدادٍ مسبق. بينما واصل الإمبراطور طرح أسئلةٍ صغيرة متفرقة.
وبعد أن ضاع بعض الوقت، سألها فجأة،
“وبالمناسبة……أمير نيسبيروس ذهب إلى البرج السحري، أليس كذلك؟”
“نعم، هذا صحيح.”
شددت إيفيريا قبضتها على يديها المتشابكتين. و أخذ الإمبراطور يكمل حديثه ببطء، وعيناه الداكنتان أكثر عتمةً من عينيها تتوهجان بلمعةٍ غامضة.
بمجرد أن أصبح الحديث عن إيرميت محور الموضوع، عاد قلبها الذي كانت قد هدّأت نبضه أخيرًا، ليدق بسرعةٍ مضاعفة.
كان كلام الإمبراطور هذه المرة مباشرًا أكثر بكثيرٍ من قبل. بدا وكأنه يريدها أن تفهم شيئًا.
لم تُطِل الرد، بل أطبقت شفتيها بصمت. فضحك الإمبراطور ضحكةً خافتة.
“نعم……إنني أريده حقًا.”
“….…”
“لذلك، عندما جاءتني الأميرة مع أمير نيسبيروس، شعرتُ حقًا بالفخر.”
اضطرب نبضها في كامل جسدها. فجمعت إيفيريا خيوط حواسها المتناثرة، وهدّأت قواها الذهنية الداخلة في الفوضى، مقنعةً نفسها أن وقت استخدامها قد يقترب على أي حال.
رفع الإمبراطور زاوية فمه حين رأى شحوب وجهها. ثم وضع يده فوق طقم الشاي الذي يرافقه دائمًا.
“لقد أصبح الجو دافئًا، لكن يبدو أنكِ ما زلت تشعرين بالبرد. هل أنتِ حسّاسةٌ للبرد عادةً؟”
“……نعم، أنا كذلك.”
رمشت إيفيريا ببطء. ثم خلع الإمبراطور قفازه ومد يده نحوها.
مدّت يدها المرتجفة لمصافحته. وقبل أن تلامس يدها يده، كبحت كل جزء من سحرها المتصل بالعقل، و ضغطته حتى اختبأ داخل قلبها كأنه محبوسٌ هناك.
وحين خف تدفق السحر في جسدها، ازداد وجهها شحوبًا حتى بدا مقلقًا.
ظنت مسبقًا أنها لم تعد تتأثر باللمس، لكن ما إن صافحت الإمبراطور حتى اجتاحتها قشعريرةٌ عنيفة.
لو فقدت تركيزها لجزءٍ من الثانية……لربما نفضت يده بعيدًا دون وعي.
فحبست إيفيريا أنفاسها بصعوبة.
_____________________________
يوتر وش يبي بالضبط 🤨 لذا الدرجة يبي قوة ايرميت؟ صدق النبلاء مجانين
المهم ياعمري ايفيريا بسرعه متى يعدي ذا اليوم😭
يارب مايناديها مره ثانيه بعد تكفى لوء خل باقي الفصول للذكريات
التعليقات لهذا الفصل " 115"