كانت إيفيريا تقف أمام إيرميت بقلبٍ يشعر كما لو أنه مذنب.
ثم بعد لحظةٍ من الصمت، سألها إيرميت مجددًا.
“في أي ساعة ستذهبين غداً؟”
“…….”
دار في رأس إيفيريا حسابٌ لا إرادي، وكما فعل إيرميت قبل قليل، التزم الصمت للحظات.
ثم اجتاحها فجأةً شعورٌ طاغٍ باحتقار الذات، فقبضت يدها بقوة. حتى أن أظافرها المرتبة غرست نفسها في جلدها، و الغريب أنها لم تشعر بالألم.
في النهاية، السبب الذي جعلها تقرر استعادة ذكرياتها كان من أجل إيرميت ومن أجلها هي. كان هدفًا لا معنى له إن لم يكن معه. والآن……ماذا تفعل هي بالضبط؟
فتحت إيفيريا فمها بهدوء.
“مع بزوغ الفجر.”
لو كان إيرميت يريد حقًا رؤيتها لحظة رحيلها، فهو من النوع الذي قد ينتظر أمامها منذ الصباح الباكر دون حراك. وهذا ما لم تكن ترغبه.
بعد أن سمع إجابتها، ظل إيرميت صامتًا لفترة طويلة. وبعدها بقليل، قال أن الوقت قد تأخر كثيرًا، ثم تركها تذهب.
كانت نهاية الحديث غائمةً وغير حاسمة. و هي لم تكن تعرف بالضبط ما الذي يفكر به.
غمرتها مشاعر غريبة ومربكة وتلاطمت بداخلها دون انتظام. بينما بدأت إيفيريا تجمع أمتعتها ببطءٍ ووجهٌ يزداد تعقيدًا.
***
في الصباح الباكر، غادرت إيفيريا غرفتها حاملة أمتعتها القليلة.
كانت تخطط لاستخدام أداةٍ سحرية خارج برج السحرة، ولذلك اختارت وقتًا مبكرًا لا يكون الناس فيه نشطين.
أرادت أن تُبقي الأمر هادئًا قدر الإمكان تحسبًا لأي خطر قد يصيبها. وبما أن للأمر علاقة بالعائلة الإمبراطورية، فلم يكن من الممكن أن يمرّ دون علم أحد، لكن ذلك لا يعني أن تجعله علنيًا كإعلان.
لمحت إيفيريا باب الغرفة التي يقيم فيها إيرميت، فتجمدت في مكانها. فقد كان واقفًا أمام غرفته، مستندًا إلى الجدار مغمض العينين.
ظلت إيفيريا جامدةً للحظة، ثم انكمش جسدها بتوتر لا إرادي.
بعد أن افترقا بالأمس بتلك الطريقة المربكة، لم تكن تعرف كيف تتصرف أمامه الآن.
فدار عقلها بسرعة. إن اقتربت أولًا وألقت التحية ستشعر بالأسف، وإن تجاهلته ومضت فسيكون ذلك أسوأ. فجزءٌ منها أراد التحدث معه قبل أن تتجه إلى القصر الإمبراطوري.
بينما هي غارقةٌ في تفكيرها، شعر إيرميت بحركتها وفتح عينيه واقترب منها. وبطريقته المعتادة، حيّاها.
“صباح الخير، إيفيريا.”
“……صباح الخير.”
تصرف إيرميت كما لو أن شيئًا لم يحدث بالأمس. حتى الابتسامة على وجهه كانت نفسها.
ترددت إيفيريا ثم بدأت تتحرك ببطء، وتبعها إيرميت بخطى طبيعية.
لم يحدثها، لكنه كان يتفحص وجهها بعنايةٍ كما لو أنه يريد حفظه بعينيه.
مشيا عبر الممر الطويل حتى وصلا إلى طابق آخر. و حتى تلك اللحظة لم يقل أي كلمة غير التحية. فشعرت وكأن صدرها يضيق بالصمت، بالكاد تمكنت من النطق.
“……سيد.”
“نعم؟”
“أنا……آسفة.”
اتسعت عينا إيرميت قليلًا كما لو أنه لم يتوقع سماع ذلك.
نقلت إيفيريا أمتعتها إلى يد واحدة ثم أمسكت بيده. ولحسن الحظ، لم يسحبها. بل أنه شبك أصابعه بين أصابعها أيضًا.
ابتسم وكأنه يعني ما يقول، لكنها لم تستطع أن تطمئن، فخفضت نظرها.
تقبّل إيرميت اعتذارها بسهولة، ثم مد يده فجأة ليسحب جزءًا من أمتعتها. و قاومته إيفيريا قليلًا، لكنها فقدتها في لحظة.
انتقلت إليه كل الحقائب ما عدا حقيبةٍ صغيرة خفيفة. فقبضت إيفيريا يدها الفارغة عدة مرات.
راقب إيرميت تعابيرها، ثم لاحت على وجهه مسحةٌ من الحزن.
وبينما كانا يقتربان من بوابة برج السحرة، تكلم أخيرًا.
“وأنا أيضًا آسف. ظللتُ قلقًا لأنني خشيت أن يبدو الأمر كأني لا أثق بكِ.”
“لكن……لماذا تعتذر أنت؟”
للحظة، ظنت أنها سمعت خطأ. لم تستطع فهم لماذا يعتذر لها هو حتى في موقفٍ كهذا.
رفعت إليه نظرةً مليئة بالحيرة، لكنه كان يبتسم كما لو أنه قال أمرًا طبيعيًا يجب أن يُقال.
“لماذا تعتذر أنتَ……”
شعرت أن الذنب الذي تحمله تجاهه تضاعف. فخفضت عينيها عنه.
و شدّ إيرميت قبضته حول يدها المتشابكة، ثم استخدم بطاقة العبور التي يحملها منذ قدومهما إلى البرج، وخطوا معًا نحو الخارج.
لم تخرج إيفيريا إلى الخارج تقريبًا منذ دخولها برج السحرة.
و لا تدري إن كان السبب ذلك، أم لأنه الصباح الباكر، لكن الهواء الذي لامس أنفها بدا باردًا بشكلٍ غير معتاد. فارتجفت إيفيريا قليلًا.
لقد خرجت أبكر بقليلٍ من الموعد الذي أخبرت به سيد البرج، ولهذا لم يكن موجودًا بعد.
و كان ما أمام برج السحرة مفتوحًا على امتدادٍ واسع. ثم ثبتت إيفيريا عينيها عند النقطة التي تلتقي فيها السماء بالأرض. و كانت الشمس تشرق تدريجيًا.
قبضت إيفيريا أطراف أصابعها وهي تراقب المشهد. بينما كان إيرميت ينقل نظره بينها وبين المكان الذي تستقر عنده عيناها.
وخيوط الشمس التي راحت تستيقظ واحدةً تلو الأخرى، سقطت على وجهها. فحدّق طويلًا في عينيها العاكستين لشروق الفجر، ثم تحدّث بهدوءٍ عميق،
“فقط……عودي سالمة.”
صوتُه كان أثقل مما اعتادت، فالتفتت نحوه. و خرجت منها إجابةٌ بذلت فيها قصارى ما تستطيع.
“……سأحاول.”
“إن عدتِ مصابة، سأغضب حقًا.”
هَرَبَتْ بعينيها عنه سريعًا. فالأرجح أنها ستعود بجروح، أينما ذهبت.
ماذا تفعل الآن؟ إن استعادت ذكرياتها، هل سيخف غضبه قليلًا؟
‘أتمنى فقط……ألا يطلب الافتراق.’
أدارت جسدها للأمام مجددًا محاولةً إخفاء اضطرابها. و في تلك اللحظة، أحسّا بحركةٍ مألوفة عند مدخل البرج خلفهما.
التفتا معًا في التوقيت ذاته. و كان سيد برج السحرة يقترب، يرتدي ثيابًا أخف وأكثر استرخاءً من المعتاد.
حيّاهما بصوتٍ مفعمٍ بالحيوية رغم الصباح الباكر.
“ها أنتما قد خرجتما مبكرًا. هل انتظرتما طويلًا؟”
“لا، لقد خرجنا للتو.”
أجابت إيفيريا بابتسامةٍ حرجة، ثم أضاف إيرميت إيماءةً تأييد.
ثم تنقّل سيد البرج بنظره بينهما، ليستقر أخيرًا على إييريا، و تحدّث بصوتٍ خافت يحمل قلقًا واضحًا،
“إيفيريا، تعلمين أنكِ يجب أن تكوني حذرة، أليس كذلك؟”
“نعم، سأحرص على ذلك.”
لم يكن شعور تلقي القلق عليها سيئًا، بل العكس. فابتسمت بعينيها هذه المرة.
لكن سيد البرج بدا غير مطمئن، فأكمل متمهلًا، موصيًا،
“إن شعرتِ أن الوضع خطير، استخدمي تعويذة النقل إلى البرج فورًا. ما بعد ذلك……سأتصرف أنا و……هذا، أعني إيرميت.”
قال ذلك بنبرةٍ خفيفة عن عمد. فأومأت إيفيريا بابتسامةٍ صغيرة.
لم يعترض إيرميت على إقحامه في الجملة. فهو أيضًا كان قلقًا عليها. وإن حدث الأسوأ حقًا واحتاج الأمر إلى تدخل، فسيكون أول من ينهض بلا تردد.
عجيب……هو الذي يعتز بها إلى هذا الحد، لماذا يسمح لها بالذهاب إلى القصر الإمبراطوري؟
تملّكه السؤال مجددًا. ثم تذكر لحظة أنه رغم اعتزازه بها أكثر من سيد البرج نفسه، لم يستطع تغيير قرارها.
فتسربّت ضحكةٌ ضعيفة من بين شفتيه بلا صوتٍ يذكر. حتى وإن أحب شخصًا وأراد له الأفضل، لا يمكنه أن يقرر عنه كل شيء.
كان يعرف ذلك جيدًا……ومع ذلك، كانت تراوده هذه التساؤلات الحمقاء.
بينما كان سيد البرج لا يزال يُسدي لإيفيريا نصائحه، كانت تستمع بإصغاءٍ عميق.
نظر إيرميت إلى المشهد لحظة، ثم أنزل يده بهدوءٍ ليلتقط يدها من جديد بعد أن أفلت منها دون شعور. و غمر كفَّها دفءُ يده، فابتسمت.
كان سيد البرج يشرح الآن كيفية استخدام أداة النقل السحرية بدقة وتفصيل. وهي قد تعلمتها من الأكاديمية، ثم شرحها لها بنفسه مرةً ثانية من قبل.
لم تكن صعبة، في الحقيقة. بل كانت ممتعةً بالنسبة لها حين تعلمتها لأول مرة، ولم تجدها معقّدة قط.
كانت تحفظها عن ظهر قلب. ومع ذلك……ها هو يشرحها لها مجددًا، حتى أبسط التفاصيل، بقلقٍ وحرصٍ واضحين. فشعرت كما لو أن نسيمًا دافئًا، بل ساخنًا، قد هبّ داخليًا في قلبها.
و ما إن انتهى الشرح، حتى فعّلت إيفيريا الأداة من دون تردد، دافعةً إليها بسيل من السحر. فلو ترددت أكثر، لتأخر انطلاقها كثيرًا.
بدأت الريح تدور من حولها بهدوءٍ ملحوظ. فلوّح لها سيد البرج حين شعر بتغير تدفق السحر.
“حسنًا، عودي بخير.”
“نعم، شكرًا لكَ.”
أفلتت إيفيريا يد إيرميت لتلوّح للوداع، فانفرجت أصابعه عنها ببطءٍ يائس. و نظر إليها بنظرةٍ يصعب تفسيرها.
أراد، وعلى الفور، أن يخطفها إلى مكانٍ آمن ويحجبها عن العالم. وكان يعرف أن ذلك غير معقول……لكن قلبه أراد ذلك رغمًا عنه.
فأخفاه في أعماقه. و انزلق صوته مثقلًا، كمن ينتزعه من مكانٍ ضيق.
“……فقط عودي بصحةٍ جيدة.”
“نعم، سأحاول.”
“وإن شعرتِ بالخطر، استخدمي التعويذة فورًا كما قال سيد البرج.”
كانت هناك كلماتٌ كثيرة أراد قولها، لكنه اختصرها في تلك الجمل القليلة المضغوطة.
أومأت إيفيريا بفهم. وفي اللحظة التالية……غمر جسدها ضوءٌ ساطع.
____________________________
العد التنازلي باقي 8 فصول 😔
وش بتسوي في ذا الفصول وش بيصير وبيمديها ترجع ونشوف نهايه حلوه؟ الوضع يخوف معليش
التعليقات لهذا الفصل " 114"