قبل لحظاتٍ فقط كان الجو صاخبًا قليلًا، فليس هذا وقت بدء الدروس بعد، لكن الآن صار الهدوء مطبقًا لدرجة أن سقوط قلمٍ واحد يمكن أن يُسمَع بوضوح.
ومن هذا الصمت أدركت إيفيريا أن الجميع سمعوا ما قاله إيرميت. فغطّت وجهها بكلتا يديها حتى لم يبقَ منه ما يُرى.
إيرميت دائمًا ما كان يتحدث بصراحة، لكنها لم تتخيل قط أنه سيتفوه بمثل هذا الكلام الجريء أمام هذا العدد الكبير من الناس.
كانت الإطراءات منه جميلةً بلا شك، لكن قوله لها ذلك علنًا أمام الجميع سيجعل الشائعات تنتشر أسرع وأوسع…..وكان الأمر محرجًا إلى حدٍّ لا يُحتمل.
جلست إيفيريا في مقعدها كما لو كانت تنهار، ووجهها يشتعل بحرارة. و حاولت أن تبرده بظهر يدها على خدها، لكن دون جدوى.
في تلك اللحظة، اقتربت منها هالةٌ مألوفة. فرفعت بصرها عن الزهور لتنظر إلى القادم— وكان سيد برج السحر ذو الشعر الأسود.
توجهت إليه كل أنظار الطلاب، وسمع بعضهم صوت شهقةٍ خافتة. بينما كان يبتسم بصدقٍ وكأنه يستمتع بالموقف.
“علاقةٌ غرامية في برج السحر المقدس، يا للعجب.”
“…..مرحبًا يا سيدي.”
لم يكن يليق أن تبقى جالسةً أثناء التحية، فنهضت بسرعة وانحنت احترامًا. لكنها شعرت بمزيدٍ من الإحراج، فالهدوء من حولها جعل صوتها يبدو واضحًا جدًا.
كانت كل العيون كانت مسلطةً على الثلاثة: إيفيريا، إيرميت، وسيد البرج. فنظرت إيفيريا إلى شفتيه بشيءٍ من التوتر.
“يمكنكِ الجلوس، يا من تشبه زهرة الدلفينيوم*.”
*الوردة الي اهداها ايرميت صورتها آخر الفصل
كان صوته يحمل نغمةً خفيفة مازحة. فجلست إيفيريا من جديد وكأنها تنهار في مقعدها، وعاد الاحمرار يغمر وجهها الذي بدأ بالكاد يهدأ.
تمنت لو تستطيع الآن استخدام سحر الانتقال لتختفي فورًا إلى مسكنها، وتغرق في عالمها تحت الأغطية.
ومع أنها كانت هي من قررت أن تبوح بعلاقتها مع إيرميت، إلا أنها لم تستطع توبيخه. فنظرت إليه بعينين فيهما عتابٌ خفيف قبل أن تحول نظرها إلى سيد البرج من جديد.
و كان هو يتأمل الزهور الزرقاء الموضوعة في المزهرية، ثم تحدّث فجأة،
“هل يمكنني التحدث معكِ على انفرادٍ للحظة؟”
“نعم.”
أطبقت يدها على يد إيرميت في إيماءةِ طمأنة قبل أن تتركها وتنهض بهدوء. بينما زاد الصمت من حولهما أكثر من ذي قبل.
كانت هذا أول مرة يستدعي فيها سيد البرج أحد الطلاب على انفراد، فبدت على الجميع ملامح الفضول—لأي سببٍ استدعاها يا ترى؟
حتى إيفيريا نفسها كانت تشعر بالفضول، فما الذي يمكن أن يكون مهمًا إلى درجة أن يأتي بنفسه ليأخذها في بداية الدروس؟
وحين وصلا إلى المدخل، التفت سيد البرج نحو الطلاب مبتسمًا،
“لا تقلقوا، فقط لا أطيق أن أراها وهي تثير إعجاب إيرميت فحسب.”
لم يكن في صوته أي جدية، فتنفس الطلاب الصعداء وعادوا إلى أعمالهم، وإن ظلّت نظرات الفضول تتسلل نحو الباب من حينٍ لآخر.
نظرت إيفيريا تلقائيًا إلى وجه إيرميت، فلم تجد عليه أي انزعاج ولا ارتياح، بل ابتسامةً هادئة كالمعتاد ولوّح لها بيده. فابتسمت بخفةٍ يائسة وردّت التحية.
استخدم سيد البرج سحر الانتقال داخل البرج دون أي تردد—فهو لا يحب المشي أصلًا.
وهكذا نقلهما السحر إلى غرفته في الأعلى، حيث أشار لها بالجلوس في مكانها المعتاد. لكن إيفيريا لم تنخدع بنبرته الخفيفة، فهي تعلم أن خلف ابتساماته ولامبالاته يكمن دوماً ما لا يُقرأ.
إن شخصيته المرحة لا تعني أبدًا أن الأمور غير جدّية.بل على العكس، كثيرًا ما كان يتحدث عن أخطر الأمور بنغمةٍ خفيفةٍ لا تحمل وزنها الحقيقي. وهذا بالضبط ما جعل القلق يتعمّق في صدرها.
جلس سيد البرج يبحث بين أوراقه المتكدسة على مكتبه حتى التقط ورقةً تتلألأ بهالةٍ سحريةٍ خافتة. وقبل أن تزداد أفكار إيفيريا تشعبًا، دفع الورقة أمامها بحركةٍ هادئة.
نظرت إليها بعينيها الزرقاوين فقرأت جملةً مألوفة كانت قد رأتها من قبل في أكاديمية لاكانيل—عبارةً تحمل ختمًا رسميًا مألوفًا ومهيبًا في آنٍ واحد.
ثم رفعت نظرها نحوه وعيناها ترتجفان، فتحدّث بصوتٍ واثقٍ لا يحتمل الشك،
“وصلت رسالةٌ من القصر الإمبراطوري.المرسل هو…..الإمبراطور نفسه.”
تجمد نفسها للحظةٍ دون وعي.
ربما كان هذا هو سبب مجيئه إليها، وهو ما كانت تتوقعه فعلًا…..لكنها رغم ذلك شعرت فجأةً بخوفٍ عميق.
صحيحٌ أن ما يحدث كان ضمن ما خططت له وتوقعته، لكن الواقع دائمًا يحمل ما لا يمكن السيطرة عليه.
لم يكن هذا مثل أيامها السابقة حين كان كل شيءٍ تحت سيطرتها وحدها. كان على الأفراد ذوي الإرادة والاختيار الحر أن يتحركوا وفق توقعات إيفيريا من بين عددٍ لا يحصى من الخيارات حتى تتمكن من الحصول على النتيجة التي تريدها.
والآن، أدركت كم كان من المتهور أن تحاول مواجهة مثل تلك الاحتمالية الضئيلة.
ربما لأنها كانت سعيدةً جدًا طوال الوقت الماضي، بدا لها الأمر أكثر حماقةً الآن.
تبعثر مجالها العقلي تبعًا لانفعالها. فعضّت داخل شفتيها بقوة.
أما سيد برج السحر فظلّ هادئًا كعادته. و كان يرى بوضوح اضطراب مجالها العقلي ومع ذلك لم يُبدِ أي رد فعل.
ثم تابع كلامه بصوت خالٍ من أي خفة سابقة.
“يبدو أن خطتكِ قد نجحت بالفعل إلى نصف الطريق.”
قال ذلك مهنئًا بصوتٍ خافت، ثم حدّق بعينيه السوداوين في وجه إيفيريا. التي كان وجهها قد شحب تمامًا.
خفض نظره قليلًا إلى الورقة أمامه، متأملًا ختم الإمبراطورية وتوقيعها بنظرةٍ يصعب قراءتها. بينما نظرت إيفيريا إلى حافة الطاولة محاوِلةً تهدئة مجالها العقلي المضطرب ببطء.
ومع مرور الوقت بدأت مشاعرها بالانطفاء، فهدأ مجالها العقلي كثيرًا، ولهذا استطاعت التعامل معه بسهولةٍ نسبية.
اتجهت نظراتها التي تحمل بعض الارتياح نحو سيد البرج. و كانت عيناها الزرقاوان قد استعادتا بريقهما المعتاد.
فابتسم سيد البرج في وجهها ابتسامةً خفيفة.
“سأقولها أخيرًا. قد تخسرين قليلًا، لكن يمكنني أن أوقف كل هذا تمامًا.”
“…….”
“أعني أنه بإمكانكِ أن تواصلي حياتكِ كما هي الآن، مع إيرميت، دون الحاجة لأن تتحدّي أي شيء.”
صمتت إيفيريا بهدوء. و تابع سيد البرج كلامه بصوتٍ منخفض.
“أنتِ، إيفيريا الحالية…..ماذا تريدين حقًا؟”
***
استعادت إيفيريا ذكرى زيارة سيد البرج المفاجئة في اليوم السابق.
فقد سألها حتى اللحظة الأخيرة عن رغبتها الحقيقية. بل وحتى أثناء الرد على رسالةٍ القصر الإمبراطوري ظلّ يسألها إن كانت بخيرٍ حقًا.
لكن جوابها لم يتغير من البداية حتى النهاية.
صحيحٌ أنها ارتبكت كثيرًا في البداية، لكنها تمكنت من التماسك مع مرور الوقت.
كانت بخير. وحتى لو لم تكن بخير، كان عليها أن تكون كذلك.
‘إن لم تعودي خلال أسبوع، فسأعلن أنكِ الوريثة التالية لبرج السحر.’
قال سيد البرج أنه سيجد أي ذريعةٍ مهما كانت سخيفةً ليجلبها مجددًا.
إيفيريا التي لم تتوقع سوى أن يكون المقصود مجرد “موهبةٍ قيّمة في البرج” فوجئت بإشارته إلى “الوريثة التالية” وشعرت بانقباضٍ غريب.
لم تكن تعلم كم من الوقت سيبقى سيد البرج الحالي في منصبه، لكنها لم ترد أن يضطر خلفه المستقبلي إلى مواجهة الحرج بسبب كذبةٍ قيلت من أجلها.
كان عليها أن تعود خلال أسبوع، حتى لا تُقلق الآخرين أو تسبب لهم أي إزعاج.
لقد تم تحديد الموعد بالفعل بأمرٍ من الإمبراطور دون استشارتها. ولحسن الحظ، ما زال أمامها بعض الوقت.
كانت الرسالة تحتوي على رغبة الإمبراطور بلقاء صاحبة الشائعات شخصيًا.
و كما ورد فيها أن إيفيريا طالبةٌ في أكاديمية لاكانيل، وأن الأكاديمية تقع داخل حدود الإمبراطورية، لذا لا توجد أي مشكلةٍ في الاستدعاء.
وكان بداخل الرسالة أيضًا أداةٌ سحرية مرفقة، منقوشٌ فيها إحداثيات بوابة الانتقال المؤدية إلى مدخل القصر الإمبراطوري.
غير أنه لم يكن بالإمكان استخدامها للعودة إلى البرج، لأنها تعمل باتجاهٍ واحد فقط.
منذ الأمس، كان الموعد بعد أسبوعين بالضبط. في ذلك اليوم، كان عليها التوجه إلى القصر الإمبراطوري.
وبالنظر إلى الوقت الذي ستقضيه في الذهاب والعودة، وإمكانية فقدانها للوعي خلال تلك الفترة، رأت أنه من الأفضل أن تُنهي أعمالها مسبقًا.
فإذا لم يتمكن أحد الطلاب من إنجاز مهمته لسببٍ قهري، كان الآخرون يتقاسمون العمل نيابة عنه.
وقد قيل أن الطلاب سيعملون معًا لمدة شهر كامل على تلك المهام، ولم يتبقَ من هذا الشهر سوى بضعة أيام.
سألت إيفيريا سيد البرج عن نوع التدريب الذي سيجري بعد ذلك. فقال أن ضغط العمل في البرج كان شديدًا لدرجة أن مهام الحسابات ستستمر على هذا النحو لمدة شهرٍ آخر على الأقل.
وأضاف أنه بإمكانها تعلم مهام أخرى إن رغبت، لكن ذلك ليس إلزاميًا، لأن الحسابات وحدها كانت تستهلك يومًا كاملًا في الغالب.
وافقت إيفيريا كأنها مسحورةٌ بكلامه. فقد كان حتى السحرة العاملون في البرج يبدون مرهقين ومنهكين من كثرة الحسابات.
قال سيد البرج بعد ذلك أن الأعمال البسيطة في الحسابات ستبقى موكلةً إليها بشكلٍ دائم، تمامًا كما يفعل السحرة الآخرون يوميًا.
لكن بعد ذلك ستُشارك أيضًا في صنع الأدوات السحرية ورسم الدوائر السحرية وغيرها من الأنشطة. بمعنى آخر، كان ما تقوم به الآن سيستمر حتى بعد مرور الشهر.
ولذلك بدأت إيفيريا تُنجز ما يمكنها إنجازه مسبقًا.
في الأيام الأولى، بقيت هناك تعمل على الحسابات. لكن إيرميت الذي أنهى عمله بسرعة مدهشة ظلّ ينتظرها حتى ساعةٍ متأخرة من الليل.
وعلى الرغم من أنها كانت تطلب منه أن يصعد وحده، إلا أنه لم يفعل، وبقي معها حتى النهاية، وحتى عندما أجبرته على المغادرة كان يعود ليتفقدها كل بضع عشراتٍ من الدقائق، مما جعلها تشعر بالأسف نحوه أكثر فأكثر.
التعليقات لهذا الفصل " 112"