بما أن سيد برج السحر كان يعرف إيرميت جيدًا، فقد بدا أنه فهم كلام إيفيريا تمامًا.
فضحك بخفة،
“نعم، نعرف جميعًا أن ذاك الرجل طباعه صعبة.”
“و يمكنني أن أطلب من شخصٍ آخر أن يحصل لي على السم، لكن..…”
ترددت قليلًا قبل أن تتابع بصوتٍ خافت،
“سيكون ذلك مُحرجًا بعض الشيء بالنسبة لي.”
ابتسمت إيفيريا ابتسامةً محرجة، فأومأ سيد البرج بتفهم، بينما أضافت بهدوء،
“ثم لا أستطيع أن أؤذي نفسي أيضًا.”
“صحيح. النظام العقلي الذي تملكينه سيمنعكِ على الأرجح في اللحظة التي يلتقط فيها وجود أي شيءٍ حاد.”
ابتسمت بخجل، إذ لم تكن تلك احتمالاتٍ مريحة.
لم ترغب أن تلقي بنفسها من منحدر، ولا أن ترمي نفسها عمدًا في البحر. فلم تكن قادرةً على تحمل فكرة وضع نفسها في موقف ينتهي بالموت الحقيقي.
ربما لهذا السبب بالتحديد، كان سيد البرج يفترض أنها اختارت السم كوسيلةٍ أخف خطرًا نسبيًا لتعرض جسدها للخطر.
وإن فشلت الطرق التي كانت تفكر بها الآن، فكانت تخطط للبحث عن وسيلةٍ أخرى تُحدث جرحًا خطيرًا دون أن تودي بحياتها.
أما عن إيرميت، فلم تخبره بشيءٍ من هذا. لم ترد أن تربط بين تصرفاتها وذكرياتها في ذهنه، ولم ترد أن تمنحه أي خيطٍ يقوده إلى الحقيقة. بل أرادت أن تبقيه بعيدًا تمامًا عن أي تخمين.
تساءلت، إن استعادت ذكرياتها يومًا، فبأي وجهٍ سيراها؟ وهل ستُحل تلك الأسئلة الصغيرة التي طالما راودتها عنه؟
كانت تمسّ إصبعها البنصر الفارغ بتوترٍ غامض، لا تدري إن كان مصدره الحماس أم القلق.
قرأ سيد البرج آثار النظام العقلي لديها، فوجده حساسًا كعادته لكنه مستقر. وبعد لحظاتٍ توقف عن القراءة و تحدّث بهدوء،
“سأساعدكِ كما ترغبين، فالأمر ليس صعبًا.”
“شكرًا جزيلًا.”
انحنت بعمقٍ وهي تشكره، فابتسم كأن الأمر لا يستحق الامتنان الكبير.
“سأتدخل في الوقت المناسب فقط، وهذا سيزيد من فرص نجاح خطتكِ. لكن هناك شرطٌ واحد..…”
توقف قليلًا، فحدقت به بعينين متطلعتين ترجوانه أن يُكمل. و ضحك بخفة.
“إن مرّ أسبوعٌ ولم تعودي إلى البرج، فسأذهب بنفسي إلى القصر الإمبراطوري.”
“….…”
“وإن سألوني عن السبب، فسأعطيهم عذرًا سخيفًا لا يُقنع أحدًا.”
كانت تلك طريقته في القول: كوني حذرةً وعودي بسرعة.
و ابتسمت بعينين ضاحكتين، فأعاد سؤاله برقة،
“هل ستكونين بخير؟”
“نعم، سأكون بخير. شكرًا لك.”
بعد ذلك تحدثا قليلًا في تفاصيل صغيرة ومتفرقة، وكانت إيفيريا تصغي بإخلاص. ثم بدا أن فكرةً ما خطرت له فجأة، فسألها،
“آه، هل تعرفين قدرات العائلة الإمبراطورية؟”
ترددت إيفيريا قليلًا. و تذكرت أن الأميرة أخبرتها سابقًا عن قدرةٍ مميزة يملكها أفراد السلالة الإمبراطورية.
“…..قراءة الطاقة السحرية من خلال اللمس، أليس كذلك؟”
“بالضبط، تعرفين إذاً.”
أومأ سيد البرج وتابع،
“أظن أنه سيكون من الأفضل أن تتعلمي كيف تخفين طاقتكِ عن القراءة.”
أطلقت إيفيريا همهمة دهشةٍ صغيرة. لم يخطر ببالها يومًا أن هناك طريقةً لإخفاء الطاقة السحرية. فمجرد أن يستطيع إنسان قراءتها دون أداة كان أمرًا يصعب تصوره أصلًا.
طمأنها سيد البرج قائلاً أن ذلك أسهل بكثير من التعامل مع السحر العقلي، وأن قدرتها على التعلم ستجعلها تتقن الأسلوب بسرعةٍ بمجرد فهم نظريته.
فضحكت بخجل أمام ثقته الكبيرة بها.
استحضر سيد البرج في ذهنه جدوله اليومي. لقد اعتاد أن يفرغ وقته بعد الموعد الذي تزوره فيه عادةً، ولم يكن لديه شيءٌ عاجل اليوم. فابتسم متحدثاً بنبرةٍ لطيفة،
“ما دمنا قد تطرقنا إلى الأمر، هل تريدين أن أُعلمكِ اليوم؟ أم أن لديكِ التزامات أخرى؟”
“لا، لا شيء عندي.”
أجابت وهي تنهض ببطءٍ من مقعدها، معتقدةً أنهما سيخرجان إلى مكانٍ مخصص للتدريب، كما كانا يفعلان عادةً في كل مرة يتدربان فيها على السحر خارج الغرفة.
بدت على سيد البرج لحظة حيرةٍ خفيفة، ثم تذكر أن تدريباتهما السابقة كانت تتم فعلًا في ساحة أو مساحةٍ مفتوحة.
أما الآن، فقد تجمدت إيفيريا في مكانها بترددٍ واضح، بينما كان هو يحدق بها بهدوء. ثم ضحك بخفة ولوّح لها بيده أن تجلس.
“لا حاجة للخروج، فالتدريب اليوم بسيطٌ ويمكننا القيام به هنا.”
“آه…..”
احمر وجهها خجلًا، وجلست ببطءٍ كما لو كانت تذوب في مقعدها. و عبثت بأطراف أذنها الساخنة من الإحراج.
وبكل صدقٍ واهتمام، بدأ سيد البرج يشرح لها طريقة حجب الطاقة السحرية. وكما وعدها، لم يكن الأمر صعبًا على الإطلاق.
كل ما كان عليها فعله يشبه ما اعتادت عليه في سحرها العقلي، فقط هذه المرة لم يقتصر على الجانب الذهني، بل شمل الطاقة السحرية بأكملها.
كانت تمسك بطاقتها، تكبحها ثم تطلقها مرارًا بانبهارٍ طفولي، بينما كان سيد البرج يراقب تدفق السحر الأسود حولها — يتناثر ويختفي، يعود ويُحتوى — بعينين يملؤهما الإعجاب والابتسامة.
قبل أن يتأخر الليل كثيرًا، عادت إيفيريا إلى غرفتها.
و شعرت بالسرور لأن الأشياء التي باتت قادرةً ظل على فعلها قد زادت.
***
في اليوم التالي، حين تفقدت الصحيفة كعادتها، لم تستطع إيفيريا إخفاء دهشتها.
فقط البارحة كانت تفكر بأنها ستتورط بشكل مباشر مع إيرميت، ومع ذلك، كانت الصحيفة قد نشرت الخبر بالفعل على صدر صفحتها الأولى.
كانت تظن أن الأمر سيستغرق بضعة أيامٍ على الأقل. و لم يخطر ببالها أن الشائعات يمكن أن تنتشر في يومٍ واحد فقط.
فبرج السحرة معزولٌ عن العالم الخارجي، والأخبار تصل إليه ببطء، وهذا يعني أن ما يحدث داخل البرج عادةً ما يستغرق وقتًا طويلًا حتى يُعرف خارجه.
تساءلت إيفيريا إن كان هناك شخصٌ من عائلة تمتلك صحيفةً يعمل داخل البرج، لكن حتى وإن وُجد، فالأخبار لا تصل إلى الصحف في أقل من يومٍ ما لم تكن حادثةً كبيرة.
وهذا يعني أن الأحاديث عنها بدأت في الانتشار أبكر مما كانت تتوقع.
خطر لها أنه حتى لو لم تكن هي من بادرت بالارتباط بإيرميت، لكان الأمر قد تطور بشكلٍ مشابه على أي حال.
قررت أن تنظر إلى الأمر بإيجابية. فهي كانت تريد في الأصل أن تُعرف علاقتها بإيرميت، وما دامت الأمور تسير أسرع مما توقعت، فذلك حسن.
ومنذ ذلك الحين، راحت إيفيريا تتصرف بحريةٍ وترافق إيرميت بلا تردد.
بدأت الشائعات تدور حولها من كل جانب.
فبعضهم قال أنها تجرأت وتدخلت بين إيرميت والأميرة، بينما رأى آخرون أن إيفيريا موهوبةٌ للغاية، وأن إيرميت قد فسخ خطوبته من أجل ربحٍ سياسي يتعلق بعائلته عبر الارتباط بها.
وانتشرت أقاويل أخرى كثيرة أيضًا.
ومع ذلك، كان هذا أكثر رأيٍ إيجابيّ سمعته إيفيريا في أي إشاعةٍ تتعلق بها. وبما أن المكان رسميٌ وحساس، لم يجرؤ أحدٌ على الهمس أمامها أو إظهار عدائه علنًا.
أما إيرميت، فبدا أنه يحاول البقاء قربها قدر الإمكان.
رغم أن إيفيريا هي من رغبت في هذا التقارب، إلا أنه كان يشعر ببعض الذنب تجاهها على ما يبدو. فقد صار يُنهي عمله باكرًا كل يوم، لكنه لا يصعد إلى غرفته، بل ينتظرها بهدوءٍ ليصعدا معًا.
وكان، بعد إنهاء أعماله، يواصل النظر إليها، دون أن يخفي نظراته المليئة بالحنان.
وبينما كان الآخرون الذين لم ينهوا عملهم بعد ينظرون إليهما بفضول، استمرت تلك العادة لعدة أيام متتالية، ومع ذلك بدا الأمر جديدًا كل مرة.
في اليومين الأولين، كانت إيفيريا ترتبك من نظرات الجميع حتى أنها كانت تخطئ في الحساب أحيانًا، لكنها اعتادت سريعًا على ذلك وتمكنت من إنجاز عملها بسرعة.
وحين انتهت من مراجعة آخر الأوراق ورتبت مكتبها باختصار، مدت يدها نحو إيرميت و تحدّثت بصوتٍ منخفض،
“لنذهب، يا سيد.”
رفع إيرميت رأسه نحوها ثم أمسك بيدها. واتسعت أعين من كانوا يتظاهرون بعدم النظر إليهما.
سارا جنبًا إلى جنب، فرفعت إيفيريا يده قليلًا. و كان سوارٌ فضيّ يتدلى من معصمه يصدر رنينًا خفيفًا.
نعم، لونه يشبهه تمامًا. فابتسمت وهي تنظر إلى السوار ثم إلى إيرميت.
“يسعدني أنكَ ترتديه دائمًا.”
“…..لن أنزعه أبدًا.”
تبع بصره نظراتها إلى السوار.
أدارت إيفيريا يده قليلًا تتفقد حالة السوار، ولاحظت أنه لا يزال بريقه كما هو.
ثم أنزلت يدها أخيرًا ونظرت إلى الأمام. بدا الطريق إلى غرفتهما أقصر مما اعتادت عليه. رغم أنها لم تكن قصيرة، إلا أنها بدت كذلك هذه المرة.
وحين وصلا إلى الطابق الذي تقع فيه غرفهما، تباطأت خطواتهما بشكلٍ واضح.
اشتد ضغط يد إيرميت حول يدها. فالتفتت إيفيريا نحوه، وشعرت بقوة قبضته الناعمة التي لم تكن مؤلمة.
وفي عينيه البنفسجيتين الشفافتين، انعكست صورتها بوضوح.
“أنا حقًا آسف….لكن، مؤخرًا…..أشعر بسعادةٍ غامرة.”
“وأنا كذلك. أنا أيضًا سعيدة.”
عضّت إيفيريا شفتها محاولةً حبس ابتسامةٍ تتسلل منها رغماً عنها.
وتوقفا أخيرًا أمام باب غرفتها. كان إيرميت يقف أمامها بوجهٍ مائل إلى الحزن.
مدّت يدها لتداعب شعره الفضي المبعثر، فأمال رأسه قليلًا لتسهل عليها الحركة. و عندما سحبت يدها بخفة، أمسكها بلطف وأعادها فوق رأسه.
فضحكت إيفيريا بخفة وأخذت تمرر أصابعها في شعره مرة أخرى، بحركة دافئة وناعمة.
التعليقات لهذا الفصل " 110"