سألها إيرميت بنبرةٍ هادئة وكأنه كان ينتظر منها أن تبدأ الحديث أولًا، وكان وجهه جادًا إلى درجةٍ جعلت إيفيريا تُخفض نظرها نحو الطاولة قبل أن تعود وتنظر إليه.
“أنا بخير.”
جاء صوتها هادئًا على نحوٍ مبالغٍ فيه، كأنه يصف الحال لا أكثر.
“والوضع أيضًا بخير. على الأقل الآن، لا تنتشر عني أقاويل سيئة.”
لم تكن كلماتها محاولةً لإقناعه، بل كانت تعبيرًا عن قناعتها الحقيقية.
فبعد أن نالت سمعتها نصيبها من الكلام الجارح في الماضي ثم تغيّر الرأي العام فجأة لصالحها، صار الناس أكثر حذرًا حين يذكرون اسمها.
لم تكن متأكدةً تمامًا من حدسها، لكنها واثقةٌ أن أي شائعاتٍ جديدة عنها لن تكون كما كانت من قبل.
ورغم مظهرها الهادئ، كان قلبها بعيدًا عن السكون.
وربما كان أكثر ما يربكها في خطتها كلها هو رد فعل إيرميت نفسه. فعلى الرغم من أنها عرفته منذ وقتٍ طويل، إلا أنها لم تكن قادرةً على استيعاب طريقة تفكيره بالكامل.
ظل إيرميت صامتًا، غارقًا في التفكير.
ولو كان الأمر مسألة لومٍ أو مسؤولية، فهي تعلم أن الخطأ الأكبر يقع على عاتقها. ولهذا لم تستطع أن تطلب منه إجابةً مباشرة.
فاكتفت بأن أضافت بصوتٍ خافت،
“…..تعلم أنه لا ينبغي لكَ استخدام نفوذ دوقية نِسبيروس في الوقت الحالي، أليس كذلك؟ إن أردنا أن نُبقي الأمور منفصلةً حقًا، فعليكَ أن تبقى على الحياد.”
كانت تقصد أن عليه ألا يُقحم نفوذه النبيل في المسألة، خصوصًا وأنه قد ألغى خطوبته الأخيرة ليظل تحت حماية برج السحر بوصفه أحد أعضائه.
وحتى لو انتشرت الشائعات عن علاقتهما وأخذت منحنى سلبيًا تجاهها، فهي لا تريد أن يتدخل إيرميت بقوة دوقيته لاحتوائها أو كبحها.
بقيت نبرتها ثابتة كما هي دائمًا، فابتسم إيرميت ابتسامةً أقرب إلى الضحكة الخافتة المليئة بالأسى.
“ما الذي يدور في رأسكِ بالضبط؟”
“…….”
“لا بأس، أظن أنني أستطيع تخمينه إلى حدٍّ ما..…”
مرّر يده في شعره وهو يحدّق في وجهها بعينين مركزتين، وقد تقوّس حاجباه قليلًا في محاولةٍ لقراءة ما تخفيه.
أما إيفيريا فاكتفت بابتسامةٍ هادئةٍ مألوفة على وجهها.
كانت تعلم أنه ذكيٌّ بما يكفي ليُدرك أن الأمر أعقد من مجرد تصرفٍ عابر، ولم تتوقع أن تخدعه تمامًا.
فهي تعلم أن قولها “أردتُ فقط أن أمسكَ يدكَ” لن يكون مقنعًا في مثل هذا الموقف — رغم أن تلك كانت رغبتها فعلًا، إلا أن الظروف لم تكن بتلك البساطة.
كان إيرميت يعرف أن في ذهنها دومًا حساباتٍ كثيرة، وأنها نادرًا ما تتصرف بدافع العاطفة وحدها.
حتى إن تجاوزا الموقف مؤقتًا، فهو لن يتوقف عن الشكّ، وربما يقترب كثيرًا من الحقيقة. لذلك فكرت أن من الأفضل أن تُلقي أمامه جزءًا صغيرًا من الحقيقة لتُغيّر مسار تفكيره قليلًا.
فتحت شفتيها المرتجفتين و تحدّثت بصوتٍ منخفض،
“لم أُرِد أن تُوجَّه إليكَ كل سهام اللوم.”
“….…”
كانت قد عقدت العزم على قول الحقيقة فقط. فرفعت بصرها بحذرٍ لتلتقي بعينيه.
“ظننت أنه لو بدا بيننا بعض القرب، فقد تتوزع الانتقادات عليّ أيضًا، فلا تكون كلها موجهةً إليكَ.”
لم يعلّق إيرميت، فتابعت حديثها بهدوء،
“ولم أخبركَ مسبقًا لأنني كنت متأكدةً أنكَ لن تتعاون معي أبدًا.”
وكانت محقةً في ذلك. فضحك إيرميت ضحكةً قصيرة،
“أنتِ تعرفينني أكثر مما ينبغي.”
“يجب أن أعرف هذا القدر على الأقل.”
أجابته بابتسامةٍ خفيفة، فبدا عليه الإنصات بجدية، كأنه يشجعها على المتابعة.
و ترددت قليلًا، ثم تابعت،
“أتذكر حين سألتكَ من قبل عن ميزان القوة بين العرش الإمبراطوري وبرج السحر؟ كنت أسأل لأجل هذا السبب بالضبط. فحقوق البرج توسعت مؤخرًا أكثر من ذي قبل، أليس كذلك؟ لذا، فأنا سأكون بخير.”
“….…”
ظل إيرميت صامتًا مرة أخرى، وعيناه البنفسجيتان لا تفارقانها.
وبعد لحظةٍ طويلة، حرّك شفتيه أخيرًا و ردّ بهدوءٍ مائلٍ إلى الحزن،
“…..حسنًا، فهمت.”
كان صوته يحمل مسحة كآبةٍ غريبة.
فازدحمت المشاعر في صدر إيفيريا — الذنب، والندم، والشفقة — لكنها كبحتها جميعًا، وضغطت شفتيها في صمت.
في تلك اللحظة تذكّرت كلماته القديمة حين قال أنه إن سقطت مريضةً مرة أخرى، فسيحبسها في غرفته ويطعمها بيده طوال اليوم.
ورغم أنه قالها حينها مازحًا، إلا أن فكرة أن يكون جادًا بدأت تتسلل إلى عقلها الآن.
فابتسمت برقةٍ وقالت بنغمةٍ مرِحة،
“حين أنتهي من العمل، سأسمح لك بحبسي كما تشاء. سأبقى إلى جانبكَ ولن أبتعد أبدًا.”
“يمكنكِ أن تفعلي ذلك من الآن.”
قال ذلك بجديةٍ مدهشة رغم أن كلماته بدت كأنها مزحة، ثم نهض ببطءٍ من مكانه.
حاولت إيفيريا أن تنهض معه، لكنه أوقفها بيده، وأجلسها برفق، ثم اكتفى بالنظر إليها بصمتٍ عميقٍ لا يُقرأ.
لماذا لا يدعها تنهض؟ ولماذا يكتفي فقط بالنظر إليها؟
حين ارتسمت الدهشة والحيرة على وجه إيفيريا، انحنى إيرميت ببطء نحوها.
و انزلق الرداء الخارجي الداكن الذي كان يرتديه عن كتفيه بهدوء، لكنه لم يأبه بالأمر، ووضع كفيه على الطاولة أمامها. فأخذت رؤيتها تمتلئ به تدريجيًا.
في الحقيقة، لم تكن حركاته بطيئةً إلى هذا الحد، لكنها بدت لإيفيريا كما لو كان يتقدّم ببطءٍ شديد، كأن الزمن نفسه قد تباطأ.
ثم، وبصوتٍ خافت، لامست شفتاه جبينها للحظة قصيرة، قبل أن تبتعدا ثانية.
حبسَت إيفيريا أنفاسها دون وعيٍ منها، وما إن افترقت شفتاه عنها حتى أطلقت زفيرًا متقطعًا.
غير أنه قبل أن يبتعد تمامًا، طبع قبلةً أخرى على جبينها. وعندما عاد يقترب، أغمضت عينيها بإحكام.
مرر إيرميت أصابعه برفقٍ على أطراف شعرها، ثم تراجع شيئًا فشيئًا حتى خفَّ حضوره الطاغي عنها.
و قد استغرق الأمر بعض الوقت حتى يعود نبض قلبها السريع إلى وتيرته الطبيعية. ثم فتحت عينيها ببطء، فرأت إيرميت وقد استقام في جلسته، يسألها بنبرة عادية كعادته.
“ستأتين غدًا أيضًا، أليس كذلك؟”
“نعم.”
كانت قد عقدت عزمها على البقاء إلى جانبه ما استطاعت. وعندما أجابت بثبات، ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ مائلة.
“حسنًا، إذاً إلى الغد.”
“أراكَ صباح الغد.”
لوّح لها بيده بوجهٍ مازح، ثم خرج من الغرفة بخفة.
وبمجرد أن غاب عن ناظريها، تلاشت ابتسامتها من على وجهها.
***
ذهبت إيفيريا لمقابلة سيد برج السحر. و استقبلها بابتسامةٍ توحي بأنه كان يتوقع قدومها.
كانت قد ترددت قليلًا قبل أن تأتي، رغم أنه قال لها سابقًا أن عليها إخباره بأي خطةٍ تفكر فيها، إلا أنها خافت أن تكون عبئًا عليه.
ومع ذلك، كانت خطتها تحتاج إلى مساعدته، ولو بطريقةٍ غير مباشرة. فوجوده في صفها كان ضروريًا.
“هل جئتِ لتخبريني بخطتكِ؟”
“…..نعم.”
اقترب سيد البرج منها قليلًا، مشيرًا إليها أن تبدأ بالحديث. فاستعادَت في ذهنها ما فكرت فيه مرارًا من خطواتها القادمة.
“…..أعتقد أنني سأُستدعى لمقابلة الإمبراطور.”
ابتسم سيد البرج بخفة بعد سماعها، وشعرت إيفيريا أنه ربما كان يتوقع هذه الإجابة سلفًا. وقبل أن تكمل حديثها، ردّ بهدوء،
“على الأرجح، إذا انتشرت الشائعات حول علاقتكِ بإيرميت، فسيستدعيكِ القصر الإمبراطوري.”
فوجودها داخل برج السحر يجعل من الصعب على أي جهةٍ الوصول إليها، لذا سيحاولون بأي وسيلة جرّها إلى الخارج.
وفي الظروف العادية، يمكن للبرج أن يمنع مثل هذا الاستدعاء، لكن هذه المرة كان لا بد أن يلتزم الصمت.
بدا أن سيد البرج يدرك مقصدها تمامًا. فأغمضت عينيها للحظة و أكملت بثبات،
“نعم، وهناك…..سأعرّض جسدي للأذى بطريقةٍ ما.”
“أوه، هذا تصرفٌ متهورٌ جدًا.”
قال سيد البرج ذلك بنبرةٍ هادئة تحمل دهشةً خفيفة. فابتسمت إيفيريا بخجل، ثم فسّرت سبب قرارها.
“أريد أن أستعيد ذاكرتي. ربما يبدو الأمر متهورًا، لكنه واقعيٌ إلى حدٍ كبير، أليس كذلك؟”
وكانت محقة. رغم المخاطر الكثيرة، فإن خطتها كانت ممكنةً التنفيذ في ظل ظروفها الحالية.
كانت بيئتها تحت السيطرة إلى حدٍّ ما، وبرج السحر قادرٌ على التدخل متى شاء، أما في القصر، فلم يكن هناك من يتسم بتلك النزعة المتطرفة سوى الإمبراطور الحالي.
ولهذا بدل أن يثنيها عن الفكرة، اختار سيد البرج أن يمنحها معلومةً قد تفيدها.
“…..الإمبراطور بارعٌ في استخدام السم.”
خفض بصره، وشبك يديه بإحكام.
“غالبًا لن يستخدم شيئًا يقتلكِ فورًا…..فهو دائمًا يترك لنفسه مخرجًا للإنكار.”
كانت نبرته منخفضة، محمّلةً بثقلٍ لا يوصف. و لم تعرف إيفيريا ما تقول، فاكتفت بالإصغاء وإيماءةٍ صغيرة تدل على الفهم.
“عليكِ أن تكوني حذرة، رغم أن لديكِ نظامًا عقليًا يحميكِ.”
لم تكن تعرف كيف تكون حذرةً وهي تنوي تعريض نفسها للخطر عمدًا، لكنها أومأت رغم ذلك.
فابتسم سيد البرج ابتسامةً متكلفة ثم سألها،
“سؤالٌ خطر ببالي فجأة، لمَ لا تشترين السم بنفسكِ وتشربيه؟”
لم يكن يسأل بدافع الفضول، بل أراد أن يفهم كيف وصلت إلى هذا القرار.
والحقيقة أن شراء السم لم يكن أمرًا صعبًا، لو كان لديها الوقت والمال الكافيان. بل إن تلك كانت فكرتها الأولى حين بدأت تفكر في استعادة ذاكرتها، ولم تتخل عنها تمامًا بعد.
“صحيح، كنت سأفعل ذلك إن لم تنجح هذه الطريقة.”
عضّت على شفتيها قليلًا قبل أن تتابع كلامها.
“لكنني خفت أن يلاحظ السيد نيسبيروس الأمر. إن علم أنني أحاول الحصول على سمٍّ…..و قد يقرر حبسي.”
كانت تلك مشكلةً حقيقية. فإيرميت يتمتع بحدس خارق.
وهما يقضيان معًا معظم أوقات اليوم، لذا كان من شبه المستحيل أن تتحرك من دونه أن ينتبه.
ما لم تحصل على السم دفعةً واحدة، فإن الإجراءات المعقدة والمتكررة ستثير شكوكه لا محالة.
_______________________
ضحكت صدق فاهمته اكثر من نفسه😂
بس ما توقعت ايفيريا اىْتحاريه وش الي بتشرب السم من عندها على كيفها؟
بعدين ايرميت لو درا انها راحت للقصر الامبراطور والله مايخليها😭
التعليقات لهذا الفصل " 109"