سيد برج السحر ظل يوصيها بإصرار حتى اللحظة التي كانت فيها إيفيريا على وشك مغادرة غرفته بأن تخبره بكل شيءٍ بنفسها.
كان قد أدرك طبيعتها التي تجعلها لا تطلب المساعدة بسهولة، وتعتبر الكلام العابِر مجرّد مجاملةٍ إن لم يُكرر.
انتقلت إيفيريا إلى غرفتها. و كان وجه سيد البرج نادرًا ما يبدو جادًا كما بدا عندما أصرّ أن تُخبره بخطتها.
شعرت بشيءٍ من الإحراج لأنها بدت وكأنها كُشِفت، ومع ذلك راودها إحساسٌ بالطمأنينة.
وبينما تستند إلى دعمه الصلب، بدأت الخطة تتكوّن في ذهنها بوضوحٍ وتفصيلٍ أكبر.
لم تكن تعرف كيف ستؤول أحوال إيرميت بالضبط من الآن فصاعدًا. لكنها كانت متيقنةً أنه إن تدخلت بنفسها، فستقلّ السهام الموجهة نحوه على الأقل.
وإذا سارت الأمور كما تأمل، فربما تستطيع أن تصنع من خلال انشغالها بالعالم الروحي فرصةً مناسبة لتستعيد ذاكرتها.
لحسن الحظ، كانت سمعتها قد ارتفعت عما كانت عليه سابقًا، وصارت محطّ حديثٍ بين الناس. والكلام الذي يُقال عنها كان، على الأقل، أكثر احترامًا وإيجابيةً من ذاك الذي يُقال عن إيرميت.
وفوق ذلك، لم يكن إيرميت يمانع أن يعرف الآخرون بعلاقته مع إيفيريا، بل إن من كان يشعر بالحرج الدائم في الماضي هي إيفيريا نفسها.
أما الآن، فقد قررت أن ترتبط به على نحوٍ جادّ وحقيقي.
***
في صباح اليوم التالي، زارت إيفيريا المكان الذي يُقيم فيه إيرميت.
كانت تنوي أن تبدأ بخطوةٍ بسيطة، وهي أن ترافقه إلى موقع عمله حيث يتعامل مع طلاب أكاديمية لاكانيل.
وقبل أن تطرق الباب جيدًا، فتحه إيرميت بنفسه، وكأنه شعر بوجودها.
“أوه، إيفيريا، ما الأمر في هذا الصباح الباكر؟”
“…..أردتُ أن أذهب معكَ.”
تقدّمت إيفيريا خطوةً داخل الغرفة.
رغم أنه الصباح، كان وجه إيرميت يبدو في حالةٍ جيدة، بل أفضل من المعتاد، أكثر راحةً وهدوءًا.
تأمّلته إيفيريا. و لم يكن مختلفًا كثيرًا عن المعتاد سوى بشيءٍ بسيط من الارتخاء، لكنه بدا في حالٍ تسمح له بالخروج دون مشكلة.
نظرت إلى خصلات شعره الفضي المبعثرة قليلًا، ثم التقت عيناها بعينيه.
“هل أنهيتَ استعدادكَ؟”
“نعم، كنتُ على وشك الخروج..…”
“إذًا فلنذهب معًا.”
حتى عندما أمسكت إيليريا بيده بخفة، كان إيرميت ما يزال متفاجئًا بعض الشيء.
إن خرجا الآن، فسيصلان في الوقت الذي اعتاداه. فأمسكت إيفيريا بيده ومضت بخطواتٍ خفيفة. و كان إيرميت يسير خلفها أولًا، ثم سرعان ما صار يسير إلى جانبها.
ضغط على يدها بإحكام. و انعكست عيناها الزرقاوان المنحنيتان بخجل في نظرته، وشعر برجفةٍ في قلبه من دفء يدها ولمستها وقوة قبضتها المعتدلة.
كانت خطوات إيفيريا أكثر ثقةً من المعتاد. فنظر إيرميت إلى جانب وجهها الذي بدا مفعمًا بالحيوية، وقد احمرّت وجنتاها قليلًا.
لكن ما إن وصلا إلى طابقٍ مختلف عن الذي يقيمان فيه، حتى سحب إيرميت يده من يدها. عندها شدّت إيفيريا قبضتها عليه.
حاول إيرميت أن يسحب يده ثانيةً، لكنه لم يستطع أن يفعل ذلك بقوةٍ كافية. عندئذٍ أمسكت إيفيريا بكلتا يديها يده ونظرت إليه.
“يدي باردة.”
وكان معنى كلماتها: ألا يمكنني أن أمسكها إذاً؟
نظرت إليه بثباتٍ كأنها تنتظر موافقته. وعندما التقت عيناه بعينيها المتلألئتين على نحوٍ مدهش، حاد ببصره قليلًا عنها.
“…..أظن أنه من الأفضل أن نُبقي علاقتنا مخفيةً في الوقت الحالي.”
بدلًا من الرد الواضح، ابتسمت إيفيريا بخفة.
لم تكن تجهل السبب وراء قوله هذا.
صحيحٌ أنهما الآن في برج السحر، لكن هذا المكان ليس خاليًا من العيون. قد تكون الشائعات أقل انتشارًا مما هي عليه في الخارج، لكنها في النهاية تنتشر. وذلك بالضبط ما كانت إيفيريا تسعى إليه.
وصمتها عن الإجابة كان دليلًا على أن في ذهنها أمرًا ما. فتجمّد وجه إيرميت بشيءٍ من القلق حين شعر بخطرٍ غامضٍ ينبعث منها.
لو تحدّث معها الآن فسيكشف كل ما تفكر فيه. لذلك شدّت إيفيريا على يده قليلًا ثم أفلتتها وتابعت السير بخفة.
ومن بعدها، تجنبت إيفيريا الحديث معه، كما أنه لم يطرح عليها أي سؤالٍ إضافي.
و كان غارقًا في التفكير حين نظرت إليه بطرف عينها.
ثم ظهر الباب أمامهما، وحين نظرت إلى الوقت، وجدت أنهما تأخرا قليلًا عن موعد وصولها المعتاد.
في هذه الساعة لم يكن هناك الكثير من الناس، لكن بعد وقتٍ قصير ستمتلئ الممرات بالطلاب.
وقبل أن تفتح الباب، التفتت إيفيريا إليه وسألته،
“سيد، هل يمكنني أن أضعكَ في موقفٍ محرجٍ قليلًا؟”
“…..يمكنني أن أتحمّل الإحراج، لكن لا تفعلي ما يجعلكِ أنتِ في موقفٍ صعب.”
وكان الفراغ الذي سبق كلماته كفيلًا بإظهار اضطرابه الشديد. و لم يستطع إيرميت، لعدة أسباب، أن يسألها عمّا تفكر فيه بالضبط.
اتسعت عينا إيفيريا قليلًا، ثم انحنت أطرافهما بابتسامةٍ رقيقة. وكما في المرة السابقة، لم تُجب إجابةً صريحة، بل فتحت الباب بقوة.
وكما توقعت، لم يكن في الداخل طلابٌ كُثر.
توجهت إيفيريا إلى المقعد الذي كان مخصصاً لها منذ بداية فترة التدريب وجلست. وجلس إيرميت إلى جوارها، لكنه بدا وكأنه يتعمّد أن يترك بينهما أكبر مسافةٍ ممكنة.
منذ البداية كانا دائمًا يُجلَسان جنبًا إلى جنب، ولم يكن هذا الوضع جديدًا عليهما، لكن المسافة الفاصلة بينهما هذه المرة كانت الأبعد على الإطلاق.
نظرت إيفيريا إلى ذلك الفراغ بينهما بعينٍ يختلط فيها شيءٌ من الحيرة، ثم انغمست في الحسابات أمامها.
شعر إيرميت بالارتياح حين لاحظ أنها لا تحاول تضييق المسافة. فلم يُرِد أن تُزَجّ في أموره الشخصية أو تسمع ما لا ينبغي لها سماعه.
مرّ الوقت بهدوءٍ دون أي حدثٍ يُذكر. وكان إيرميت يشعر في الوقت نفسه بالاطمئنان والخذلان من برود تصرفاتها المعتادة.
فقط تلك الدقائق القصيرة التي قضياها معًا في الصباح كانت كافيةً ليُحسّ بالسعادة.
وفي الآونة الأخيرة، كان يتجنب زيارتها بنفسه، لذلك لم يتسنَّ لهما قضاء وقتٍ مشتركٍ سوى أثناء الأعمال المتعلقة ببرج السحر.
حين تُجري إيفيريا حساباتها، كانت في غاية التركيز، فلا مجال للحديث الطويل حتى عندما يكونان معًا.
و لو لم تكن الظروف كما هي، لكان أقنعها منذ زمن بإعلان علاقتهما علنًا، لكن الوضع الذي افتعله بنفسه أصبح الآن قيدًا يمنعه.
ومع ذلك، لم يندم، فقد فعل ما كان عليه فعله في التوقيت المناسب، وهو لم يكن جاهلًا بما قد يترتب على كسر وعده مع الأميرة.
أغمض إيرميت عينيه ببطء ثم فتحهما ثانيةً، وقد استعاد رباطة جأشه.
وبينما همّ بالعودة إلى حساباته، أحس بيد إيفيريا تُمسك بيده ببطء. فالتفت إليها بدهشةٍ لم يستطع إخفاءها. و كانت أذناها متورّدتين بلونٍ خافت.
شبكت أصابعها بأصابعه بإحكامٍ كي لا يتمكن من سحب يده بسهولة. و تقلّصت أنامل إيرميت لا إراديًا، ثم استرخت مرارًا، مما جعل حركتها تُثير في قلبها رغبةً بالضحك، فابتسم بخفوت.
شعرت بحرارةٍ لطيفة في موضع التلامس بينهما، حرارةٍ كادت تكون رائعة.
نبضاته كانت قويةً ومتلاحقة حتى كادت تتردد في كفّها. وكأن تلك الخفقات تسللت إلى جسدها، فصارت ضربات قلبها تتسارع أيضًا.
رفعت يدها الأخرى التي كانت تمسك القلم، وضغطت بها بخفة على صدرها في محاولةٍ لتهدئة ذلك الارتجاف.
ثم أعادت تشبيك أصابعها بيده، ووضعت يدهما المتشابكة بهدوءٍ فوق سطح الطاولة.
كان المكان الذي يجلسان فيه منفتحًا، يمكن للجميع أن يرى بعضهم بسهولة.
صحيحٌ أن هناك فواصل صغيرة بين الطاولات، لكنها لم تكن سوى حواجز منخفضة لمنع اختلاط الأوراق، بالكاد ترتفع شبرًا فوق المكتب، والمسافات بين المقاعد متقاربة.
وفوق ذلك، كان الطلاب في هذا المكان يراقب بعضهم بعضًا دومًا، أو بالأحرى يراقبون من أنهى عمله ومن لم يفعل بعد.
لذلك، كان من السهل جدًا أن يلحظ أحدهم يدًا موضوعةً علنًا فوق الطاولة.
تتابعت نظرات الدهشة من حولهم، تصعد إليهما ثم تهرب بخجلٍ أو صدمة.
ومضى الوقت مرة أخرى. و حاولت إيفيريا أن تُمسك بأعصابها وأنجزت أعمالها بسرعةٍ غير معتادة.
ثم، دون أي تردد، عادت إلى غرفتها.
فكرت قليلًا فيما لو كان من الأفضل أن تمنح الآخرين فرصةً للاقتراب منها وسؤالها عما جرى، لكنها ترددت في التحدث عن الأمر بنفسها الآن.
فما فعلته كان دون إذنٍ واضحٍ من إيرميت — وهو في حد ذاته تصرفٌ متهور…..رغم أنها كانت تدرك في أعماقها أنها تجاوزت الحد فعلًا.
جلست أمام مكتبها وأخذت تراجع بدقةٍ كل الاحتمالات لما قد يحدث لاحقًا.
وبعد قليل، سُمِع طرقٌ خفيف على الباب. وقفت وفتحته. وكما توقعت، كان هو الواقف أمامها.
بدا وجه إيرميت معقدًا، مزيجًا من مشاعر متداخلة. فأخفت إيفيريا توترها بابتسامةٍ هادئة، وحيّته بلطف.
“مرحبًا.”
“…..مرحبًا، إيفيريا.”
هل كان غاضبًا؟
لم يكن صوته مرحًا أو مازحًا كعادته، لكن ذلك وحده لم يكن كافيًا لمعرفة إن كان غاضبًا فعلًا. فهي لم تره يومًا يُظهر غضبًا صريحًا من قبل.
ترددت قليلًا، ثم سمحت له بالدخول.
وقف إيرميت أمامها صامتًا للحظة. بينما احتست إيفيريا رشفةً من الشاي الذي أعدّته مسبقًا، ر كان مذاقه أفضل من السابق بقليل.
لم تجرؤ على النظر مباشرةً في عينيه، فحدّقت في سطح الشاي بدلًا من ذلك.
كانت تدرك تمامًا أنها تصرفت بتهور. لكن إن أرادت أن تسير الأمور كما خططت، فعليها أن تُبقي إيرميت بعيدًا عن تفاصيل خطتها.
لو أخبرته بما كانت تنوي فعله، لكان أول ما فعله هو محاولة إقناعها بالعدول عنه، وإن لم تنجح محاولاته، لابتعد عنها تمامًا.
والآن بدأت تفهم قليلًا سبب اضطرابه الدائم من الشائعات التي كانت تُحيط بها، وحتى تصرفاته وكلماته القديمة باتت أكثر وضوحًا لها.
التعليقات لهذا الفصل " 108"