كادت قوى الروح التي تقرأ تقلبات مشاعرها أن تهتز، لكنها، على خلاف السابق، تركت كل ذلك يتلاشى برفق.
ثم تفحصت تلك القوى حالتها مرورًا خفيفًا، وحين تأكدت من أنها بخير، عادت لتستقر بهدوء.
حاولت إيفيريا تهدئة انفعالها المضطرب. و كانت مؤخرة عنقها تبرد باستمرار، وحتى حين ضغطت بأصابعها بإحكام، كانت القوة تتسرب من ذراعها بأكملها.
مدّت إيليريا ذراعها ببطء وأمسكت بإحدى يدي إيرميت الموضوعة على الطاولة، فتوجه بصرها إلى السوار الرفيع الذي يطوق معصمه.
ابتسم إيرميت بخفةٍ حين رأى إيفيريا تمسك بيده، ورفع حرارة الغرفة بصمت.
وسرعان ما التقت حرارة جسديهما بين مفاصل أصابعهما، فانكمشت أصابعها للحظة، ثم شدّت قبضتها على يده المتشابكة معها.
مدّ إيرميت يده الأخرى ليغلف يديها كلتيهما، وسرعان ما دوّى صوته الدافئ في أرجاء الغرفة التي غمرها الدفء.
“كان الأمر يثقل قلبي منذ مدة، ولأن الفرصة سنحت، أنهيتُ كل شيءٍ بنظافة.”
“…….”
لم تستطع إيفيريا أن ترد، كأن شيئًا غير مرئي كان يخنق حنجرتها. فتحدّث إيرميت بنبرةٍ هادئة وهو يستحثها،
“امدحيني.”
“…….”
“ولا تتركيني.”
يا لها من معضلة، ما الذي يمكن أن تفعله مع هذا الرجل؟
انتقت إيفيريا كلماتها ببطء، لأنها إن فتحت فمها بعجلة، لخرجت منها إما إجابةٌ قصيرة جدًا أو كلامٌ مبعثر بلا ترتيب.
كان من الصعب للغاية أن تصوغ المشاعر التي لا شكل لها في كلماتٍ ملموسة.
فمرّت بضع دقائق أخرى قبل أن تتمكن أخيرًا من النطق بجملة واحدة بصوتٍ خافت،
“……لن أترككّ. فأنا لا أستطيع ذلك.”
عضّت شفتها برقة. لم تكن تريد أن تفرّط بشخصٍ يغمرها بعاطفةٍ أثقل مما تطيق.
“حتى لو حاول أحدهم أن يأخذكَ، فلن أسمح له.”
وفي الوقت نفسه، شعرت بالأسف لأن مشاعره كانت مختلفةً تمامًا عن مشاعرها.
رغم أن إيرميت اكتفى بذلك مبتسمًا كمن نال كفايته، إلا أن إيفيريا لم تستطع أن تلتقي بعينيه.
فما يمكنها أن تقدمه له ضئيلٌ للغاية مقارنةً بما منحها هو. لطالما مدّ لها يد العون في كل مأزق وقعت فيه، وهي لم تُحسن رد الجميل قط، مما أثقل صدرها.
داعبت يد إيرميت الممسكة بيدها، ثم تحدّثت بهدوء،
“ألا يوجد شيءٌ يمكنني فعله لأساعدكَ؟”
كانت متأكدةً أن هناك ما يمكنها المساعدة فيه. فحتى لو استثنينا المسؤوليات الرسمية والمبررات الظاهرة، فإن إيرميت كان في موقفٍ غير مريح من ناحية الرأي العام.
فوجود عشيقٍ للأميرة يختلف كليًا عن ارتباط إيرميت بشخصٍ ما، إذ إن ذلك أشبه بإلغاء خطوبة، وهو أمرٌ جلل.
في المجتمع الأرستقراطي، وجود عشيقةٍ أمرٌ شائعٌ نسبيًا، لكن الخطوبة والزواج شأنٌ بين العائلات، أما إيرميت فقد نسف هذا الترتيب الآن.
تأملها إيرميت للحظة، ثم تحدّث بهدوء،
“إيفيريا، لا داعي لأن تتدخلي. جلالة الإمبراطور-”
“هل سلطة العرش أقوى من برج السحر؟ أعني في الوقت الحالي.”
قاطعته بحدةٍ دون تردد. وحين رأت في عينيه شيئًا من الارتباك، شعرت بالأسف، لكنها لم تتراجع، فالأمر مهم.
فما دام إيرميت كان على ارتباطٍ بالإمبراطورية، وكان من المفترض أن تكون الإمبراطورية الآن أكثر من يغضب منه، وجب عليها أن تفهم بدقة.
ومن خلال ما تراه من أوضاع البرج والإمبراطورية، كانت متأكدة أن سلطة العرش لا تفوق سلطة البرج. بل على العكس، منذ أن فشلت الإمبراطورية مؤخرًا في محاولة كبح البرج، اتسعت الهوة أكثر.
ولم يخب ظنها، إذ هزّ إيرميت رأسه نفيًا.
“……هكذا إذًا. شكرًا لكَ.”
رغم أنها كانت تعلم الجواب مسبقًا، شكرت تأكيده لذلك.
تذكرت قوله أنها لا ترسم للمستقبل أي ملامح، وتساءلت: أيمكن أن يكون ذلك نتيجةً لتأثير ماضٍ مُمحى؟
وإن كانت مشاعره الثقيلة وقلقه الدائم ينبعان من ذلك الماضي أيضًا، فربما يمكنها أن تجد طريقةً لتفك كل العقد التي تثقل علاقتهما.
وفي سبيل ذلك، ربما يمكنها أن تستغل مشاعر الآخرين تجاه إيرميت، كالعائلة الإمبراطورية والإمبراطور نفسه.
استعادت في ذهنها وصف الأميرة للإمبراطور. قالت أنه يُزيح كل ما يثير ضيقه من طريقه، فربما كانت تلك السجية نافعةً لها إن وُجهت بحكمة.
ثم إن بقية أفراد العائلة الإمبراطورية، كالأميرة وولي العهد، بدوا وكأنهم لا يشاركون الإمبراطور ذاته الرأي، وربما أمكنها الاستفادة من ذلك أيضًا.
كانت أفكار إيفيريا جريئةٌ إلى حد أن إيرميت لو علم بها لأوقفها على الفور، لكنها بالنسبة إليها كانت واقعيةً بما يكفي لتجربتها.
واصلت الحديث معه دون أن تفصح عن شيءٍ مما يدور في ذهنها.
ومضى الوقت حتى أدركت أنه قد تأخر. فصافحته بنظرةٍ هادئة وغادرت غرفته.
***
وبعد أيام قليلة، زارت إيفيريا المكان الذي يقيم فيه سيد برج السحر.
خشية أن يختلّ الوقت ولو قليلًا، كانت قد حجزت موعدها مسبقًا. ولتتفرّغ لهذه الجلسة تحديدًا، اضطرت إيفيريا إلى إنجاز كمٍّ من المهام خلال الأيام الماضية يفوق المعتاد بكثير.
فمن أجل أن تضفي على خطتها –التي لا تزال أقرب إلى فكرةٍ متهوّرة– شيئًا من الواقعية، كان لا بدّ أن تجمع مزيدًا من المعلومات.
وإن سارت الأمور كما تتمنى، فستتمكّن من حلّ كل ما يؤرقها دفعةً واحدة. لذا، كان هذا القدر من الجهد والتعب أمرًا تستحقّه الخطّة.
جلست إيفيريا قبالة سيد برج السحر، وعلى وجهها ملامح جدّية لم يُرَ مثلها من قبل، وسألته بصوت هادئ وواضح،
“سيدي، لو أُلقيَ القبض على أحد أفراد البرج من قِبل العائلة الإمبراطورية، هل يمكن للبرج التدخل؟”
“……ليس لأنه ارتكب جريمة، أليس كذلك؟”
سيد البرج رمقها بنظرةٍ فيها فضولٌ ومزاح خفيف. وحين هزّت رأسها نفيًا، تابع قائلًا أنه حتى لو كان قد ارتكب جريمة، فبإمكان البرج إخراجه بسلطته الخاصة.
أي أن للبرج دائمًا قدرًا من النفوذ داخل البلاط الإمبراطوري ما دام أحد أفراده متورطًا بالأمر.
كانت تلك أنباءٌ سارّة. فدوّنت إيفيريا المعلومة في ذهنها كأنها تحفظ سطرًا من تعويذة، وبدأت تعبث بأطراف أصابعها.
و رآها سيد البرج تفعل ذلك فرفع حرارة الغرفة بصمت.
دفءٌ لطيف عمّ المكان، فخلع رداءه الخارجي، وفهمت إيفيريا أنه فعل ذلك من أجل راحتها. و شكرتْه بصوتٍ منخفض وواضح، ثم سألت سؤالًا آخر،
“إذاً، إلى أي حدٍ يمكن للعقل الباطني أن يتدخل؟”
“لا يستطيع إعادة توليد الجسد، لكن……يمكنه أن يمنع القطع من أن يكون مميتًا، إلى حدٍّ ما.”
كما توقعت تمامًا.
استعادت إيفيريا ما تعلمته عن السحر العقلي حتى الآن.
كانت تعرف أن هذا النوع من السحر يتدخل عند استشعاره خطرًا مباشرًا يهدد صاحبه. غير أن حدود ذلك الخطر مبهمة، وتختلف باختلاف الساحر نفسه، لذا لا يمكن تحديدها بأرقامٍ أو قواعد دقيقة.
لكن إن قُطع جزءٌ من الجسد، فذلك وضعٌ لا يختلف عليه اثنان من حيث الخطورة، ما يعني أن تدخل السحر العقلي سيكون مبرَّرًا.
أما إن لم يفعل حتى في مثل هذا الظرف……فوجوده وعدمه سواء.
بينما كانت غارقةً في تفكيرها، واصل سيد البرج الحديث،
“لكن السحر العقلي الذي تمتلكينه شديد الحساسية، وقد يتصرّف قبل أن تُصابي بجروحٍ حقيقية……ربما يُغمى على خصمكِ قبل أن يصل السيف إليه.”
كانت عبارته طريفة، لكنها واقعيةٌ في الوقت ذاته.
فابتسم سيد البرج بعينيه وهو يمازحها،
“على كل حال، لا تقومي بشيءٍ قد يجعلكِ تُفقدين رأسكِ، اتفقنا؟”
“نعم، سأتذكر ذلك.”
أجابته بنبرةٍ هادئة ثابتة.
و مدّ سيد البرج يده فمرّرها على شعره، مستشعرًا الطاقة العقلية الخافتة التي تدور حولها.
كانت تلك الطاقة حادّة الطباع وسريعة الغضب حتى من مجرد محاولة قراءتها. و جعلته يتساءل إن كانت درجة لطف الساحر تحدد بدورها مدى ليونة طاقته العقلية.
ثم أدار حواسه ليتتبع الطاقة التي تجري في جسده هو نفسه؛ كانت هادئة تمامًا، منسابة كجدول ناعم. ولهذا لم يجد صعوبةً في تعلّم التحكم بها.
وقبل أن يغوص في ذكرياته، قطعت إيفيريا حبل أفكاره بسؤالٍ آخر،
“هل يمكنها إزالة السموم؟”
“ربما. لكنها لا تزيل السم بعد انتشاره، بل تمنع تأثيره وتحطم عناصره السامة بسحب المانا حولها، أقرب إلى التحصين منها إلى العلاج.”
نظر إليها بعينيه السوداوين اللتين التقطتا ضوء الشموع.
كانت كلماته تعني أنه لا بدّ أن يتعرض الجسد للسم أولًا حتى يشعر السحر العقلي بالخطر ويبدأ بالحماية.
فهمت إيفيريا ذلك، وارتسمت على وجهها ملامح جدّية عميقة.
الركون إلى السحر العقلي وحده بدا مخاطرةً كبيرة.
و انحرف بصر سيد البرج قليلًا كأنه يحدّق في الفراغ وراءها، ثم،
“لكن من يدري؟ كما أقول دائمًا، طاقتكِ العقلية حساسةٌ لدرجة أنها قد تتفاعل بمجرد أن تتعرف على الشيء كسمّ.”
“.……”
“وأنا شخصيًا أظن أنها قادرة على معالجة السم أيضًا إن لزم الأمر. لكن لا تجربي ذلك طبعًا، هذا مجرد حدس.”
ضحكت إيفيريا بخفة على مزاحه، فضحك هو الآخر بوجهٍ أكثر انشراحًا.
ثم رمشت ببطء وهي تنظر إلى ملامحه المضيئة بابتسامةٍ صافية كابتسامة طفل، حينها تحدّث بنبرةٍ صادقة ودافئة،
“ثم إنني لا أريد أن أفقد موهبةً نادرةً مثلكِ. لذا، إن كنتِ تنوين فعل أي شيء……أخبريني أولًا.”
“……نعم.”
ازدحمت ملامحها بمزيجٍ من الامتنان والارتباك.
لم يسألها عمّا تفكر فيه، ولم يحاول منعها من تنفيذ ما يدور في ذهنها. وربما، كانت كل أفكارها وخططها هذه جزءًا من المستقبل الذي يرسمه سيد البرج بنفسه.
كان دائم الابتسام، ابتسامةً هادئة متوازنة. وأحيانًا، كان يبدو نقيًا بشكلٍ لا يليق بدهائه، كأنه يريها قلبه كما هو، لكن في اللحظات التي تهمّ حقًا……يستحيل قراءة ما في أعماقه.
التعليقات لهذا الفصل " 107"