كما اعتادت دائمًا، لم تُلحّ إيفيريا بالسؤال على إيرميت.
فإن كان أمرًا يجب أن تعرفه، فستعلمه عاجلًا أم آجلًا، وإن لم يخبرها به حتى بعد ذلك، فسيعني أنه من الأمور التي لا ينبغي لها معرفتها.
و بعد بضع أحاديث متفرقة، تحدّث إيرميت بصوتٍ رقيق وعينين منحنية الطرفين بابتسامة خفيفة،
“أعتقد أن برج السحر مكانٌ رائع.”
“وأنا أيضًا، أحبه كثيرًا.”
لم تكن تعلم سبب هذا المديح المفاجئ للبرج، لكنها جارت نبرته مؤقتًا. فإيرميت لم يكن من النوع الذي يهدر كلماته عبثًا، لذا أيقنت أن وراء هذا تمهيدًا لحديثٍ أكثر أهمية.
ثم تابع ببطءٍ شديد، وبملامح أكثر كمالًا من أي وقتٍ مضى،
“ما يعجبني فيه أكثر، أنني لستُ مضطرًا إلى معالجة الفوضى التي أتسبب بها بنفسي.”
“….…”
كانت كلماتٍ غير مألوفة على لسانه، خفيفةً لكنها تنبض باللامسؤولية، جعلت إيفيريا تصمت لحظة.
الآن فهمت سبب ابتسامته الجميلة قبل أن ينطق بها، فقد كان يدرك أن مظهره هذا يضعف مقاومتها، ومن المؤكد أنه استغل ذلك عمدًا.
لكنها لم تملك سوى حدسٍ ضعيف، فابتلعت ريقها وسألته، وهو لا يزال يبتسم بهدوء،
“……سيد، هل فعلتَ شيئًا ما، ربما؟”
“……كيف عرفتِ؟”
لم تكن تتمنى أن يصيب حدسها هذه المرة.
يا تُرى، ما الذي حدث هذه المرة؟ وما الذي يخطط له مجددًا؟
بدت ملامح الارتباك جليةً على وجه إيفيريا، ولم تحاول حتى إخفاءها.
أطال إيرميت النظر إلى وجهها الممتلئ بتضارب المشاعر، ثم ابتسم ابتسامةً صغيرة وتابع بهدوء،
“سيحدث أمرٌ ما قريبًا.”
“….…”
صمتت إيفيريا، وقد بدأ الخوف يتسلل إلى أعماقها لمجرد سماع عبارة “سيحدث أمرٌ ما”.
فسارع هو ليتابع كلامه،
“لكن عائلتي لن تتضرر مباشرةً.”
“……حسنًا.”
أجابت بفتورٍ وهي تفكر مليًا. إن كان يحرص على التأكيد أن عائلته، دوقية نيسبيروس، لن تُصاب بأذى، فلا شك أنه متورطٌ في الأمر بطريقةٍ ما.
وما دام اختار أن يخبرها به، فربما هي أيضًا ستكون معنيةً بالأمر بصورةٍ غير مباشرة.
فتساءلت في نفسها: ما الذي يجري بالضبط؟
نظرت إلى إيرميت بطرف عينها، فرأت ابتسامةً منضبطة على وجهه، كأنها درعٌ يحجب كل ما خلفه. وفي نهاية تلك الابتسامة، لاحَ عنادٌ خافت.
بدت محاولة معرفة المزيد منه عبثًا، فهي تعلم أنه حتى لو سألته، فلن يجيب. لذا لم تُلح.
وحين تنهدت إيفيريا تنهيدةً صغيرة، ارتجف جسده للحظة، ثم أضاف بنبرةٍ أكثر جدية،
“إنه أمرٌ لا بد أن أفعله.”
“……وهل الآن هو الوقت الأنسب؟”
“نعم.”
أجاب بسرعة، فابتسمت ابتسامةً قصيرة تحمل خليطًا من السخرية والاستسلام.
ربما لا داعي للقلق، فكرت بذلك. فهو ذكي بما يكفي ليعرف متى وكيف يتحرك دون أن يؤذي نفسه.
و لعلها فقط تُبالغ في الخوف كعادتها.
***
في الشهر الأول من التدريب العملي، كان من القواعد الأساسية أن يعمل جميع الطلاب في مكانٍ واحد ويتولوا المهام نفسها.
وفوق ذلك، وُجدت داخل برج السحر صحيفةٌ داخلية، بل وكان يُسمح بمراسلة أشخاصٍ من خارج البرج بعد التحقق منهم، مما يعني أن البرج لم يكن مؤسسةً منقطعة تمامًا عن العالم الخارجي.
صحيحٌ أن نسبة الأبحاث فيه كانت أعلى بكثيرٍ من غيره، لكن الأهم أنه لم يكن مكانًا مغلقًا كما يظن البعض.
وفي صباح اليوم، تجمع الطلاب حول الصحف الموضوعة أمامهم، وهم يتبادلون الأحاديث بقلقٍ وحيرة.
“يقولون إنه ألغى خطوبته؟”
“نعم، يبدو ذلك.”
“مستحيل! ما الذي حدث؟”
ملأت الدهشة والفضول وجوه الجميع، فكلهم سمعوا الخبر نفسه. و إيفيريا كانت تدرك تمامًا ما يتحدثون عنه.
لقد فسخ إيرميت خطوبته بالأميرة!
ففي برج السحر، بمجرد أن تنتسب إليه، تسقط عنكَ كل مكانة سابقة ويُعدّ الفرد منتمياً إليه وحده.
و أدهشها إدراكه الذكي لهذه الثغرة واستخدامه لها بهذه الطريقة. كيف أمكنه أن يُلقي بتبعات هذه الفضيحة على البرج نفسه؟
فإن ادّعى أن إلغاء الخطوبة قرارٌ شخصي كعضو في البرج، وتكفّل البرج بحمايته، فلن تملك العائلة الإمبراطورية سوى القبول بالأمر.
ومع أن الأمر يظل أقل سوءًا من أن يفسخها بصفته وريث دوقية نيسبيروس، إلا أن الحيلة بحد ذاتها كانت مذهلة. لم تكن لتخطر ببال إيفيريا أبدًا مثل هذه الفكرة.
نظرت إلى الطلاب المحيطين بها، الذين لا يزالون يتهامسون بدهشة، ثم عادت بهدوء إلى مهامها اليومية، لتؤديها بصبرٍ وتركيز.
رغم الصخب من حولها، استطاعت أن تركز على عملها بسهولةٍ غريبة، كأن الفوضى لم تكن سوى ضجيج بعيد لا يعنيها.
واصل الطلاب أحاديثهم المتفرقة بينما حاولوا في الوقت نفسه التركيز على عملهم.
وبينما بدأ الهدوء يسود القاعة تدريجيًا، دخل إيرميت إلى المكان بخطوات هادئة.
و في لحظة واحدة، تبخّر كل الهدوء الذي كان قد استقرّ بصعوبة. حتى إيفيريا نفسها التفتت نحوه دون قصد.
وكعادته، بدا إيرميت شامخًا وواثقًا، إلى درجة يصعب معها تصديق أنه الشخص الذي أشعل أرجاء الإمبراطورية بخبرٍ واحدٍ فقط.
جلس إلى جانب إيفيريا، كما كان محددًا منذ البداية. فنظرت نحوه بطرف عينها، ولم يكن في ذلك ما يثير الانتباه، فمعظم الموجودين كانوا يحدّقون فيه أيضًا.
لكنها شعرت بوخزةٍ خفيفة في صدرها، فلم تستطع الاستمرار في النظر إليه. و أنزلت عينيها إلى دفترها.
أمسكت القلم جيدًا بعد أن كان مسترخيًا في يدها، وبدأت تكتب بسرعةٍ في دفتر التمارين المخصص للحسابات السحرية.
[هل ستكون متفرغًا بعد الانتهاء؟]
[نعم.]
[إذًا، هل يمكنني المجيء إلى غرفتكَ بعد الدرس؟]
رفعت رأسها تنظر إليه وكأنها تطلب تأكيدًا بعينيها. فأومأ برفقٍ دون أن ينبس بكلمة.
فأعادت نظرها إلى المعادلات أمامها. إن أرادت أن تملك وقتًا كافيًا للحديث معه، فعليها إنهاء ما كُلّفت به بسرعة.
وبعد جهدٍ صبور، تمكنت من إنهاء الحسابات أسرع من المعتاد.
كان النظام يقضي بأن يُسجَّل الإنجاز باستخدام السحر على اللوح المخصص عند المدخل، لتُمنح بعد ذلك فترة راحة حرة.
ثم ألقت نظرةً أخيرة نحو إيرميت قبل أن تتجه إلى غرفتها. و قررت أن تبقى فيها قليلًا، ثم تزوره.
انشغلت بالتفكير طويلًا، حتى أرخى الليل سدوله، فغادرت الغرفة بهدوء.
كانت غرفتها وغرفته في طابقٍ مختلف عن بقية الطلاب، مما منحها قدرًا أكبر من الحرية، ومع ذلك سارت بحذرٍ في الممر الخالي.
رنّت طرقاتٌ خفيفة على الباب، وسرعان ما فُتح. و كان إيرميت واقفًا أمامها مباشرة، فتنحّى قليلًا ليفسح لها الطريق.
لم تكن قد دخلت غرفته من قبل، فنظرت حولها بفضولٍ وهي تمشي ببطءٍ نحو الداخل.
قادها إلى الطاولة والكرسي عند الجدار، فجلست بهدوء وأكملت جولتها البصرية في المكان.
كانت الغرفة قريبة الحجم من غرفتها، وربما أوسع قليلًا. و بدت مرتبةً على نحوٍ مفرط، تكاد تخلو من أي لمسة زائدة.
ورغم أن إيفيريا لم تكن ممن يملأون غرفهم بالأشياء، إلا أنه فاقها في البساطة. فلم تجد ما تنشغل بمراقبته طويلًا.
جلس إيرميت في المقعد المقابل، يراقب حركاتها بصمت. و انتبهت إلى نظراته فابتسمت بخفة،
“مرحبًا.”
“مرحبًا.”
ترددت قليلًا في كيفية بدء الحديث. كانت تعلم أنه فكر مليًا قبل أن يُقدِم على ما فعله، لذا لم ترد أن يبدو وكأنها جاءت لتوبّخه.
وبنبرةٍ خفيفة، تحدثت وهي تتفقد الغرفة مجددًا،
“غرفتكَ……منظمةٌ جدًا.”
“لأني ببساطة لا أحتاج إلى أكثر من هذا.”
أسند ذراعيه على الطاولة، وانحنى قليلًا نحوها، ثم أمال رأسه وهو يسأل بابتسامةٍ جانبية،
“هل جئتِ لتوبّخيني؟”
“كيف عرفتَ؟”
اتسعت عيناها دهشة، فيما حرك هو رموشه الفضية التي أخفت عينيه البنفسجيتين ثم كشفتها في ضوء الغرفة.
فابتسمت بخفة وأجابت،
“كنتُ أمزح فقط. جئت لأنني أردتُ أن أعرف ما الذي حدث بالضبط……وكنت قلقةً عليكَ أيضًا.”
ارتسمت على وجهه ابتسامةٌ دافئة، فاطمأنّت قليلًا. بدا أن حديثها لم يكن ثقيلًا كما ظنت.
ثم صمتت، تنتظر أن يبدأ هو بالكلام. وقد خيّم سكون قصير، قبل أن يخفض نظره قليلًا، وكأن الكلمات تتزاحم في ذهنه وهو يختار منها ما سيقوله.
“ليس هناك شيءٌ كبير……فقط شعرت أنه لم يعد هناك داعٍ لأن أتمسك به أكثر.”
“….…”
“لم أعد بحاجة لأن أحميكِ بعد الآن. هذا كل ما في الأمر.”
ارتجف صوته قليلًا عند النهاية. و فهمت إيفيريا المعنى على الفور. بل لعلها كانت قد خمنت السبب منذ لحظة سماعها خبر فسخ خطوبته بالأميرة.
فقد قدم لها الكثير خلال تلك الفترة، خصوصًا وهي التي لا تحب أن تكون موضع اهتمام أو حديث. بل وحتى شائعة خطوبته بالأميرة كانت في الأساس وسيلةً لحمايتها.
لقد تحمّل خسائر كثيرة بسببها، وهذا ما جعلها مؤخرًا تكره أن تتسبب له في أي أذى.
رفعت نظرها إليه بعينين مضطربتين، تحدق في وجهه الذي بدا أكثر بعدًا عنها من أي وقتٍ مضى.
________________________
طيب وش فيها لو قلت عشان ما اكون مرتبط بأحد غيرس؟😀
احب انه مايهتم وش يسوي وعلى طول يرمي بس ياخي تقدموا في علاقتكم شوي اخطبهااااااااااا
التعليقات لهذا الفصل " 106"