وبالطبع، بقدر ما أصبحت إيفيريا أكثر أمانًا من التهديدات القوية، ازداد أيضًا ما يتوجب عليها حمله في حياتها اليومية.
وحين نأخذ في الاعتبار أن قدرات الروح عمومًا تميل إلى شيءٍ من البلادة واللامبالاة، فإن ما تملكه إيفيريا منها كان فريدًا للغاية.
ولعل بيئتها في طفولتها هي ما جعلت قدراتها الروحية تتشكل على هذا النحو.
الشيء المؤكد أن القدرات الروحية لدى سيد البرج لم تكن حساسةً كتلك التي لدى إيفيريا. لكنه، بدلًا من التصريح بذلك، أخبرها بمعلومةٍ مفيدة واحدة.
“القدرات الروحية التي تمتلكينها ستُظهر قيمتها الحقيقية حين تواجهين الخطر. ربما إن أحسنتِ استغلال تلك اللحظة، ستتمكنين من استعادة ذاكرتكِ.”
“…….”
“لكن قبل ذلك، يجب أن تتقني التحكم في قدراتكِ أولًا.”
وكان ذلك في الواقع أمرًا جيدًا.
فمن أجل إيرميت، ومن أجل نفسها، ومن أجل مستقبلٍ أفضل وآثار الماضي العالقة، بدا وكأن هناك أملًا جديدًا يمكن التمسك به.
لقد شعرت بالامتنان لأنها تملك ما يمكنها فعله في سبيل مستقبلها ومستقبل إيرميت.
ومنذ ذلك الحين، كانت إيبفيريا تتعلم من سيد البرج فن التحكم في قواها الروحية كلما سنحت لها الفرصة.
الاختلاف الوحيد عما سبق هو أنها كانت تنزع الخاتم دائمًا أثناء التدريب.
وبناءً على نصيحة سيد البرج بألا تكبت قواها الروحية حين تنفلت تلقائيًا بعد نزع الخاتم، لم تعد إيفيريا تحاول قمعها بعنف كما في السابق.
فقد كانت محاولاتها القديمة لكبح تلك القوى نابعةً من رغبتها في ألا تؤثر على الآخرين في أكاديمية لاكانيل. لكنها الآن في برج السحر، حيث لا يوجد سوى القليل من طلاب الأكاديمية، فلم يعد هناك داعٍ لإخفاء طبيعتها كساحرةٍ روحية.
لذلك كانت تقضي معظم وقتها في البرج دون أن ترتدي الخاتم. ومع مرور الوقت، بدأت تعتاد على ذلك الإحساس العارم الذي ينبعث من أعماقها.
حين نزعت الخاتم لأول مرة، شعرت وكأن شيئًا عظيمًا سيجتاحها، لكن سيد البرج أوقفها قبل أن تعيد الخاتم إلى إصبعها.
ولحسن الحظ، لم يتجاوز ذلك الشيء حدودها، بل بدا وكأنه يدور حولها متفحصًا إياها بعين المراقبة.
كان سيد البرج بجانبها يتحكم في مدى ظهوره، بينما كانت إيفيريا تتشبث به لتتحمل الموقف.
وعلى خلاف ما كان سابقًا حين كادت تفقد وعيها، استطاعت الآن أن تصمد. فقد ساعدها سيد البرج، وكانت حالتها الجسدية أفضل بكثيرٍ من ذي قبل.
وبعد أن طاف حولها ووجد مكانه، هدأ ذلك الكيان ولم يعد يعيث حولها بفوضى حتى دون أن ترتدي الخاتم.
و سرعان ما أدركت إيفيريا أن التحكم الجيد في القوى الروحية لم يكن يعني السيطرة المطلقة كما كانت تظن، بل تركها تتدفق بحريةٍ مع توجيه إرادتها بوضوحٍ نحوها.
كان هذا هو الأسلوب الذي اكتشفته بنفسها في التعامل مع قدراتها.
وحين أوشكت السنة الدراسية الرابعة على البدء، وتحديدًا قبل وصول طلاب أكاديمية لاكانيل إلى البرج من أجل تدريبهم العملي، منحها سيد البرج تقييمًا مطمئنًا حول استقرار سحرها الروحي.
بل إنه قال أنه حتى هو، سيد البرج نفسه، لم يعد يشعر بطاقة قواها الروحية بوضوحٍ ما لم يركز تركيزًا شديدًا.
وأكد أن إيفيريا يمكنها التجول دون الخاتم دون أن يدرك أحدٌ طبيعتها كساحرة روحية.
ورغم أنها بلغت ذلك المستوى المتقن من التحكم، إلا أنها لم تستطع العثور على أي خيطٍ يتعلق بذكرياتها المفقودة.
‘يا لها من ضيق خانق.’
حدقت إيفيريا في الخارج حيث ما تزال طبقات الثلج المتراكمة لم تذب بعد. فمن غرفة سيد البرج كانت الرؤية واضحة، وكان يمكنها أن ترى من يأتي إلى البرج بسهولة.
و فجأة، شعرت بتدفقٍ غريب، مألوفٍ وغريب في آن، من الطاقة السحرية عند مدخل البرج.
وما لبث أن ظهرت خلف الجدار مجموعةٌ كبيرة من الطلاب. وبالنظر إلى زيهم الرسمي ومعاطفهم، بدا أنهم طلاب السنة الرابعة من أكاديمية لاكانيل جاؤوا لأداء تدريبهم العملي.
ومن بينهم، برز رجلٌ ذو شعر فضي. بدا أن إيرميت أيضًا جاء مع طلاب الأكاديمية إلى البرج.
كانت تظن أنها تعودت على البقاء بعيدةً عنه، لكنها ما إن رأت وجهه حتى انفجرت في داخلها مشاعر شوقٍ غريبة لم تستطع كبحها.
لكنها في الوقت نفسه أدركت أنه لا ينبغي أن تضعه في موقف محرج دون تخطيط. و فكرت بسرعة في عذر يمكن أن يسمح لها بالاقتراب من مجموعة الطلاب القادمين لتوهم.
ثم تذكرت ما قاله لها سيد البرج مؤخرًا: أنه سيجري جلسة تدريب إضافية حين يصل طلاب الأكاديمية.
صحيحٌ أنها لم تكن بحاجةٍ فعلية لذلك التدريب، بحكم خبرتها في البرج، لكن وجود ذريعةٍ كان كل ما تحتاجه.
فأعدّت إجابةً جاهزة إن سألها أحدٌ عن سبب نزولها، ثم أسرعت إلى الطابق الأول حيث تجمع الطلاب.
في المقدمة كانت تقف ساحرةٌ تعرفها منذ العطلة السابقة، وهي التي تولت الإشراف على الطلاب. فانحنت إيفيريا بتحية مهذبة، ثم انضمت بخفة إلى الصف.
ولحسن حظها، استطاعت أن تتسلل في التوقيت المناسب لتقف بجانب إيرميت.
ورغم أنها كانت قد تبادلت معه بعض الرسائل والتقت به مراتٍ قليلة أثناء العطلة، إلا أن ابتعادهما الطويل جعل قربه الآن يوقظ في صدرها حنينًا دافئًا كانت قد كادت تنساه.
بينما كانت إيفيريا تمشي، لم تستطع منع نفسها من إلقاء نظراتٍ خفية على وجه إيرميت دون أن يبدو الأمر مقصودًا. وفي إحدى تلك اللحظات، التقت عيناها بعينيه اللتين كانتا تراقبانها من حين لآخر، فابتسمت له بخجلٍ خفيف.
كان البرد ما يزال قاسيًا، فارتدت عدة طبقاتٍ من الملابس. و كان معنى ذلك أن أي تماسٍّ جسدي، حتى لو كان مقصودًا، سيبدو للآخرين وكأنه مجرد احتكاكٍ عرضي بسبب سماكة الثياب.
فحرّكت إيفيريا خطاها بخفة، ومررت أطراف أصابعها على ظهر يده بخفةٍ تكاد لا تُلحظ.
وحين التقت عيناهما للحظة، ارتسمت على شفتيهما ابتسامةٌ متشابهة، قصيرة كنسمة دعابة عابرة.
لكن سرعان ما انتهت تلك اللحظة حين بدأ الدرس الذي تلا الانتقال مباشرة، فانشغلا تمامًا بالاستماع إليه.
ركز المشرفون من برج السحر على فكرة أن المكانة والنسب لا قيمة لهما داخل البرج، وأن البرج نفسه يتكفّل بتحديد دور كل شخصٍ بعيدًا عن ماضيه الاجتماعي، مشيرين أيضًا إلى أن كثيرًا من الحوادث السابقة كانت بسبب تجاهل هذا المبدأ.
و استعادت إيفيريا في ذهنها ما كانت عليه من قبل، فقد كانت مكانتها الأصلية بلا جدوى تُذكر، ولم يكن هناك ما يمكن تطبيقه عليها من تلك التحذيرات. فكل ما كانت تملكه هو سجلّها الجيد في الأكاديمية حيث احتلت المركز الأول بضع مرات، ليس أكثر.
أما الرجل الجالس بجانبها الآن……
قطع تفكيرها دفترٌ تسلل بخفةٍ إلى حدود مساحتها الخاصة، وكان أسلوب خطّه مألوفًا جدًا لدرجة أنها لم تستطع كبح ابتسامةٍ صغيرة.
و على الصفحة كانت هناك جملةٌ قصيرة،
[كيف كنتِ؟]
فكتبت بخطٍ سريع في دفترها دون أن ترفع رأسها،
[سيد، أظن أن عليكَ التركيز في الدرس أكثر من ذلك.]
و ما إن قرأ إيرميت تلك الكلمات حتى علت وجهه ملامح استياءٍ طفيفة، لكنها لم تكترث، بل تبادلت النظر بينه وبين المادة المعروضة أمامها وكأنها تؤكد له أن عليه متابعة التعليمات جيدًا.
فأومأ برأسه على مضض، ودفع شفته السفلية إلى الأمام في استسلامٍ مضحك.
ومن تلك اللحظة، أخذ إيرميت يركّز على الدرس بجديةٍ مدهشة، حتى أنه كفّ عن النظر إليها بين الحين والآخر، مما جعلها هي نفسها تشعر بشيءٍ من الارتباك.
وبعد انتهاء الحصة، مُنح الطلاب وقتًا حرًا ليتأقلموا مع أجواء البرج قبل بدء التدريب الفعلي.
وكانت غرفة إيرميت قريبةً جدًا من غرفة إيفيريا، ما يعني أنه يمكنه زيارتها بسهولة خلال فترات الراحة.
قبل بضعة أشهر، كان وجوده في غرفتها مشهدًا مألوفًا للغاية، أما الآن فشعرت بغرابةٍ خفيفة حين رأته يدخل.
فأخفت ارتباكها بعناية، ودعته إلى الجلوس على الكرسي أمام الطاولة بجانب الجدار. ثم حيّاها إيرميت بنبرةٍ مألوفة تحمل دفئًا أكثر من المعتاد.
“مرّ وقتٌ طويل، إيفيريا.”
“حقًا، يا سيد.”
استخدمت إيفيريا سحرها لتحضير الشاي كما كان يفعل سيد البرج والأميرة من قبل.
كان نوعًا من الشاي المخصص للزينة أكثر من كونه للشرب، لا يُسمم من يشربه، لكنه بالتأكيد لم يكن لذيذًا.
راقبها إيرميت بابتسامةٍ صافية، ثم تناول الكوب الموضوع أمامه بخفة.
فاتسعت عيناها في قلق. هل عليها أن تنتزعه منه بالسحر؟ لم تكن قد أعدّته ليُشرب فعلاً، فماذا لو فعل؟
لكن إيرميت رفع الكوب إلى شفتيه دون تردد، وأخذ منه جرعةً كبيرة. فنظرت إليه إيفيريا بارتباكٍ واضح، وهي تشعر بتوترٍ غير مبرر.
كانت تدرك تمامًا أن مهارتها في إعداد الشاي سيئةٌ للغاية. تستخدم نفس كمية الماء ونفس الحرارة ونفس الوقت في كل مرة، ومع ذلك تأتي النتيجة دائمًا غريبةً وغير متوقعة.
ومن المؤكد أن سحرها لن يجعل الطعم أفضل فجأة. فتملّكها شعورٌ بالذنب تجاه ذوقه الراقي.
راقبت وجهه بانتباهٍ لتقرأ أي علامة انزعاج، لكن ملامحه بقيت كما هي تمامًا.
“……لذيذ.”
“……حقًا؟ شكرًا لكَ.”
حتى وإن كانت مجاملة، فقد شعرت بالارتياح، وابتسمت ابتسامةً صغيرة.
ولو قال أن الطعم سيئ، لكانت على وشك أن ترد عليه بجرأة قائلة أن على الإنسان أن يكون سيئًا في شيءٍ ما على الأقل.
لم تكن من النوع الجريء أصلًا، لكنها لاحظت أنها بدأت تشبهه أكثر فأكثر في ذلك.
وفي لحظةٍ من الوعي بتغيرها، أبعدت كوب الشاي بعيدًا عنه مستخدمةً السحر، فتابع إيرميت حركة الكوب بعينيه حتى اختفى عن متناول يده، بينما ظهرت على شفتيه ابتسامةٌ خفيفة.
ثم سألها بنبرة دافئة،
“كيف كنتِ في الآونة الأخيرة؟”
“أنا؟ كما أنا دوماً، أعيش الأيام كما هي. لا أكثر ولا أقل……تمامًا مثل البرج نفسه.”
كان في عينيه ما يوحي بأنه فهم تمامًا ما تعنيه بتلك العبارة، وبما أن حدسه كان مصيبًا، لم تجد حاجةً لتوضيحها.
بعدها سألته كيف كانت أيامه هو خلال العطلة، فأجابها بإجمالٍ يشبه تمامًا جوابها.
وكما تجنبت هي الحديث عن سحرها الروحي، فعل هو الأمر نفسه.
_________________________
وش ذا الكياته راحت ركض عشانها اشتاقت وفي الاخير بلا قاعده توزع ابتسامات😭🤏🏻
بس خساره حسبت ذكرياتها قربت 😔 كله من المؤلفه يعني ورينا الذكريات من وجهة نظر ايرميت وايفيريا بعدين تتذكر
التعليقات لهذا الفصل " 105"