اتجه إيرميت نحو قصر الدوق نيسبيروس.

لقد كان يؤجل ذهابه إلى هناك طوال الوقت ليبقى بجانب إيفيريا. و الآن كان الشتاء قد حلّ، وسيد البرج موجودٌ بجانبها، مما جعله مطمئنًا. 

ثم إنّه عندما يبدأ عامه الرابع ويقيم في برج السحر، سيكون من الصعب عليه أكثر أن يجد وقتًا للعودة إلى القصر.

خلال أيامه في الأكاديمية، كان يزور القصر من حين لآخر، لكنه نادرًا ما تمكن من مقابلة الدوق نيسبيروس، وإن حدث، فلم يتجاوز الأمر تبادل بضع كلماتٍ قصيرة. 

وهكذا، لم تتح له الفرصة ليسأل عما أراد معرفته.

صحيحٌ أن الدوق لم يمكث طويلًا في القصر عادةً، لكن بدا أيضًا وكأنه يتعمّد تجنب إيرميت، كما لو كان يلهو بإزعاجه عمدًا. لذلك اختار إيرميت هذا الوقت بالذات، حين لم يكن أمام الدوق خيارٌ سوى البقاء في القصر.

الشيء الوحيد الذي كان إيرميت يعرفه يقينًا هو أن رعاية إيفيريا تتم باسم عائلة نيسبيروس. 

و كان الدوق عادةً يمضي فصل الشتاء في إقطاعيته أو في القصر، وإيرميت كان يعلم أن السبب وراء ذلك هو ذكريات تتعلق بوالدته الراحلة.

حين وصل إيرميت إلى المكان الذي يقيم فيه والده، لم يعترضه أحد. فشعره الفضيّ وعيناه البنفسجيتان كانتا كافيتين لإثبات انتمائه لعائلة نيسبيروس.

دون تردد، فتح باب مكتب الدوق. وكما توقع، كان والده هناك. فتقدم نحوه بخطواتٍ واثقة، ولم ينتظر إذنًا للجلوس، بل اختار مقعدًا قريبًا من الطاولة وجلس. 

كانت عينا الدوق تتابع كل حركةٍ له. و دون أن يظهر على وجهه أي انفعال، بدأ إيرميت مباشرةً بالكلام،

“أن تقوم العائلة برعاية إيفيريا…..ما المقصود بذلك بالضبط؟”

كان هناك سببٌ وراء تمسكه بهذا السؤال.

فعادةً ما تُقطع علاقة الراعي بالمستفيد بمجرد بلوغ الآخر سن الرشد، أما حين تكون الرعاية باسم عائلةٍ بأكملها، فالأمر يختلف كليًا.

في هذه الحالة، تبقى العلاقة قائمة حتى بعد بلوغ المستفيد، إذ تُسجل الرعاية باسم العائلة رسميًا.

قد يبدو ذلك للوهلة الأولى أمرًا عاديًا، لكن من يعرف تاريخ “الرعاية العائلية” بين النبلاء يدرك معناها الحقيقي.

منذ القدم، كانت العائلات تستخدم هذا النظام لتقييد الموهوبين وضمهم إليهم قانونيًا. فالمقصود بالرعاية لم يكن دعمًا كريمًا، بل طريقةً أنيقة لربط الشخص بالعائلة إلى الأبد.

وحين يحين الوقت ليقرر المستفيد وجهته أو انتماءه، تكون إرادة العائلة أسبق من إرادته الشخصية.

وإن لم تتدخل العائلة في قراراته، فهو محظوظ، لكن إن أرادت التدخل، فبوسعها فعل ذلك متى شاءت.

إنها تُسمّى “رعاية”، لكن حقيقتها أشبه بالسيطرة. فامتلاك الحق في التأثير في مستقبل إنسانٍ أكثر من تأثيره هو ذاته—ذلك ما كان النبلاء يعرفونه جيدًا ويتجاهلونه عمدًا.

تذكّر إيرميت تفاصيل هذا النظام جيدًا، حتى كاد صرير أسنانه يُسمع وهو يغلق فمه. حتى سؤاله كان حادًا يملأ الغرفة توترًا.

“بأي فكرٍ قمتَ بهذا؟”

لم يُجب الدوق على الفور. فنهض إيرميت من مكانه وتقدم بخطواتٍ ثابتة حتى وقف أمامه مباشرة.

التقت نظراتهما. فقد رفع الدوق بصره ببطء نحو عينيه، ثم أجاب بهدوءٍ ثقيل،

“لكي تكون بجانبها. فذلك وحده يجعل أي شيءٍ ممكنًا.”

“هل هذا بسبب ما حدث مع والدتي؟ لأنها هربت؟”

بمجرد أن نطق إيرميت بتلك الكلمات، خيّم في الجو توترٌ حاد، كأن سكينًا مرّت بينهما. لكن سرعان ما خمدت الحدة، وإن بقيت عينا الدوق تلمعان ببرودةٍ غريبة.

شدّ إيرميت قبضته بقوة. بينما تأمل الدوق ملامح وجه ابنه للحظة، ثم ردّ بنبرةٍ منخفضة،

“ليس في الأمر ضررٌ عليكَ، يا بُني.”

“….…”

“إنه حقٌ قانوني. مجرد ممارسةٍ مشروعة للسلطة.”

لو أن إيفيريا سمعت هذا، كيف كانت ستتفاعل؟

ابتسم إيرميت ابتسامةً باهتة وهو يتخيلها. ربما كانت ستقشعرّ، ثم تهرب من المكان في الحال. وربما كان والده سيعتبر ذلك دليلًا على أن قراره بربطها بالعائلة كان “صائبًا”.

الآن فهم إيرميت أصل هوس والده بإيفيريا.

كان الدوق يرى فيها انعكاسًا لذاته، وكان يُسقط مشاعره القديمة على ابنه دون وعي.

متى بدأ يُدرك ما يكنّه لإيفيريا؟ لم يعرف إيرميت. لكنه أدرك أن ما أمامه لم يكن إلا جنونًا متقن المظهر.

لم يعلّق إيرميت، فتابع الدوق بنبرةٍ أكثر هدوءًا،

“إن كنتَ تريد ذلك، فسأُنهي الأمر. كسر العلاقة ليس مستحيلًا.”

كان كلامه صحيحًا، إذ يمكن إلغاء عقد الرعاية إذا وافق جميع أفراد العائلة عليه.

في تلك اللحظة، التقت نظرات الأب والابن في صمتٍ طويل، أشبه باختبارٍ خفيّ. فقبض إيرميت على أسنانه بقوةٍ، ولم يردّ.

***

حينها فقط أدركت إيفيريا سبب ترددها في سؤال سيد البرج.

فهو لم يكن يملك حلًّا مباشرًا لما يتعلق بذكرياتها، بل يمكنه فقط أن يرشدها ويعينها خلال المسار، بينما إدراك الحقيقة واستعادتها يقع على عاتقها وحدها.

قال لها سيد البرج أن ذاكرتها مرتبطةٌ بسحر العقل نفسه. وربما، فقط ربما، كانت إيفيريا تعرف ذلك في أعماقها منذ البداية.

تذكّرت حوارهما، فوضعت يدها على رأسها بقوة. عادت إلى ذهنها أعراضٌ معينة بقيت فيها كندوبٍ من الماضي، كأنها صدى لصدمةٍ لم تندمل بعد.

كلما باغت الظلام إيفيريا دون إنذار، كان جسدها يتصلب في مكانه. كان ذلك عرضًا ما زال يظهر حتى وقتٍ قريب. و لو لم يكن إيرميت معها في تلك الغرفة المظلمة يومها…..

سرعان ما قطعت تسلسل أفكارها. لم يكن من المجدي استحضار ذلك الموقف الآن، فكل ما بقي في قلبها منه هو الامتنان لإيرميت.

كانت تدرك أن أرواح العقل وُجدت لحمايتها أساسًا. وبربط ذلك بما تعرفه مسبقًا، لم يكن من الصعب تخمين أنهم، من تلقاء أنفسهم، دفنوا ذكرياتها الماضية ظنًا منهم أن في ذلك خيرًا لها.

لكن…..ما الذي حدث حقًا في الماضي؟

ذلك التباين الغامض الذي يطرأ أحيانًا على علاقتها بإيرميت. حذره الغريب كلما تعلق الأمر بذكرياتها.  تصرفاته التي توحي وكأنه يعرف شيئًا عنها تجهله هي نفسها. 

ثم موقف سيد البرج المشابه له. وصولًا إلى اسم عائلة نيسبيروس الذي برز فجأةً من حسابها البنكي.

كانت تشعر، يقينًا، أن كل تلك الخيوط متشابكةً بخفاء.

“مجرد قصةٍ عادية. لا أظن أنكِ تحتاجين إلى معرفتها.”

قصة عادية—هكذا وصف سيد البرج ماضيها. 

إن صدق قوله، فلابد أن قصتها لا تختلف كثيرًا عن تلك الحكايات القاسية التي يعيشها عامة الناس.

ومع ذلك…..لم تتذكر شيئًا على الإطلاق.

هل ستستطيع استعادة ذاكرتها إن أتقنت التحكم بعقلها أكثر؟

نظرت إلى الساعة. كان هذا هو الوقت المعتاد الذي تزور فيه سيد البرج منذ قدومها إلى البرج. 

وقفت من مكانها، تتأمل ما تنوي سؤاله اليوم. و فُتح الباب بخفة. سارت بخطواتٍ مألوفة في الممر الهادئ حتى بلغت الغرفة التي يقيم فيها سيد البرج.

لكن هذه المرة، فُتح الباب تلقائيًا قبل أن تطرقه. فاتسعت عيناها بدهشة قبل أن تدخل بهدوء.

كان سيد البرج جالسًا على الأريكة المعتادة، رفع رأسه مبتسمًا حين رآها.

“مر وقتٌ طويل، إيفيريا.”

“مرحبًا، سيد البرج.”

بادلت التحية وسارت نحوه بسرعة. وحين اقتربت، استخدم سحره لإغلاق الباب خلفها، ثم تحدّث بابتسامة خفيفة،

“هل صفّيتِ أفكاركِ الآن؟”

“نعم، شكرًا لك.”

وكعادته، لم يسألها أولًا عن سبب مجيئها. 

ثم تناولت فنجان الشاي الذي دفعه نحوها وارتشفت منه بهدوء.

“هناك أمرٌ أود سؤالكَ عنه، هل لي بذلك؟”

“بالطبع، اسألي ما شئتِ. وإن كان سؤالًا لا أستطيع الإجابة عليه الآن، فسأتجاوزه بطريقةٍ لطيفة.”

كانت دعوةً منه لأن تتحدث براحة. فنظرت إليه بحذر، ثم تحدَثت بصوتٍ مفعم بالتردد،

“هل يمكنني استعادة ذاكرتي إن تعلمت التحكم بعقلي أكثر؟”

“……لتستعيدي ذاكرتكِ، لا بد أولًا أن تتقني السيطرة على عقلكِ.”

صمت لحظة، بينما بقيت تحدق فيه بصمت. 

كانت رغبتها في استرجاع تلك الذكريات تكاد تفيض من عينيها. حتى لو لم تتمكن من استعادتها كلها، لعلها تظفر ببعض شظاياها.

ثم رن صوته الرتيب المليء باليقين في أذنها،

“لكن السيطرة على العقل وحدها لا تضمن استعادة الذكريات.”

كان يعني أن دورها ينتهي عند التحكم بالعقل، أما الباقي فيتوقف على إرادة تلك الأرواح ذاتها. 

أمرٌ معقد وغامض.

أغمضت عينيها لحظة، ثم شعرت بتدفق هادئ داخلها، و تفقّدت حالة عقلها الداخلي. بدا مستقرًا، وبفضل الخاتم الذي ترتديه، كان السكون يسود كيانها تمامًا.

رغم كثرة الشروط، كانت قادرةً على التحكم الكامل بعقلها في ظروفٍ محددة. على الأقل، لن يتكرر ما حدث في بطولة العام الماضي. 

فأطرقت برأسها قليلًا، ثم سألت من جديد،

“هل يجب أن أتحكم به أفضل مما أنا عليه الآن؟”

“نعم. يجب أن تصلي إلى درجةٍ يمكنكِ فيها السيطرة على عقلكِ حتى من دون ذلك الخاتم. حينها فقط يمكنني الوثوق بكِ تمامًا.”

ابتسم سيد البرج كما لو كان يعلم أنها تفقدت حالتها الداخلية قبل لحظات.

لم يكن صعبًا عليها أن تفهم أن الثقة التي يقصدها لا تخصه هو، بل تخص أرواح العقل نفسها. فأومأت ببطء.

ثم أضاف بترددٍ خفيف، كأنه يحاول تخفيف وقع كلماته،

“لكن حتى بعد ذلك، لا أحد يعرف متى سيقرر عقلكِ أن يعيد إليكِ ذكرياتكِ.”

“…….”

بقيت صامتة وقد غابت الكلمات عنها. و في تلك اللحظة، شعرت أن ما يسمونه “النعمة” لم يكن سوى سخرية.

لقد استولى أولئك على جزءٍ كبير من طاقتها السحرية، حتى لم يعد يكفيها لتشغيل تعاويذها، ثم أخذوا ذاكرتها أيضًا. أما ما تبقى من ذكرياتٍ في ذهنها، فلم تعد متأكدةً إن كانت حقيقيةً أصلًا.

كيف يقررون ما هو “ضار” لها وما ليس كذلك؟

مرّرت أصابعها في شعرها بانزعاج، فقرأ سيد البرج ضيقها و تحدّق بنبرةٍ هادئة،

“معاييرهم تختلف كثيرًا عن معاييرنا..…”

كان هو أيضًا يدرك ذلك. فالأرواح المرتبطة بإيفيريا كانت شديدة الحساسية، إلى حدٍّ بدا معه وكأنها تتعامل معها ككائنٍ هشّ، قد يموت من مجرد لمسةٍ خفيفة.

________________________

الكائنات ذي خايفه على ايفيريا اكثر من هوف ايرميت عليها 

اجل حاجبين عنها ذكرياتها عشانهم خايفين عليها؟ كيوت ويروعون بنفس الوقت🥰

وابو ايرميت غريب بعد ماسك ايفيريا عشان ولده 🌝

بس شكله حنون وغبي مايعرف يعبر 😔

Dana