كان سيد البرج رجلًا سريع التنفيذ إلى درجةٍ مذهلة، لذا استطاعت إيفيريا أن تلتقي بإيرميت في اليوم التالي مباشرة.
كانت تظن أن استدعاءها مجددًا في الغد يعني أن هناك أمرًا صعب الحديث فيه، لكنها لم تتوقع أن يكون ذلك الأمر هو لقاء إيرميت نفسه.
قال سيد البرج ببساطة: “تحدثا براحة.” ثم اختفى تاركًا الاثنين في صمتٍ قصيرٍ يثقل الجو بينهما.
ولحسن الحظ، كانت إيفيريا هذه المرة في حالةٍ هادئةٍ تمامًا، بعيدةً عن التوتر والانفعال اللذين سيطرا عليها في شجارهما السابق.
حدّقت في وجه إيرميت الجالس أمامها. و بدا كما عهدته، وإن كان قد فقد بعض الوزن. لكن المؤكد أن حاله أفضل مما تخيلت.
اعتدلت في جلستها بعد أن مالت قليلًا للأمام و تحدّثت بتحفظ،
“مرحبًا.”
“مرحبًا.”
ثم عاد الصمت من جديد.
كانت صامتةً لأنها لم تثق بقدرتها على ترتيب أفكارها والتعبير عنها كما ينبغي، لكنها تساءلت إن كان هو صامتًا لأنه لا يجد ما يقوله أصلًا.
ثم سألته بصراحة،
“ألديكَ ما تريد قوله؟”
“….…”
لم يُجب، بل ظل ينظر إلى وجهها بتركيزٍ صامتٍ وعنيد.
كان من الصعب مواصلة الحديث مع شخصٍ لا يُبدي أي رغبة في الحوار. فأمالت رأسها قليلًا و تحدّثت بتردد،
“هل نحن…..سننفصل؟”
“لا. ليس هذا ما أريده.”
قاطعها قبل أن تُكمل، فتجمدت الكلمات على شفتيها.
بدا وجهه في تلك اللحظة مفعمًا برجاءٍ صادقٍ جعلها تعجز عن الرد. فزفرت بخفة،
“في الحقيقة، كنت أود أن نتحدث منذ فترة.”
“.……”
“لكنني لم أركَ. وقد ذكّرني ذلك بأوقاتٍ سابقة…..لذلك ظننت أنكَ تقصد الانفصال.”
ارتجفت نظرات إيرميت، ونظرت هي مباشرةً إلى عينيه، إلى أن كان هو أول من صرف بصره عنها.
خفض رأسه قليلًا ثم تحدّث بصوتٍ هادئٍ متحفظ،
“لماذا تُكررِين دائمًا كلمة (انفصال)؟”
“لأنكَ أنت من قالها أولًا، يا سيد.”
كان كلامه غريبًا من وجهة نظرها. أياً كانت الأسباب، فهو الذي بدأ الحديث عن الانفصال. لكنه لم يجد ما يرد به، وظل صامتًا يحرك فمه دون أن يخرج منه صوت.
انتظرته قليلًا، وعندما رأت أنه لا ينوي الكلام، تابعت بصوتٍ خافتٍ وصادق،
“بصراحة…..كنتُ أشعر بالأسف. كنتُ قلقةً جدًا من أن تتضرر أنتَ أو من حولكَ بسبب ما حدث، رغم أنني كنت أعلم أنه سيُحَلّ في النهاية.”
“.……”
“ولم يكن بوسعي أن أحمل الأذى عنكم أو أعيده كما هو، لأن الأمر ببساطة ليس شيئًا يمكن تعويضه.”
بدت كلماتها كأنها اعترافٌ بالعجز، فشعرت بمرارةٍ في فمها وابتلعت ريقها بصعوبة.
ثم رفع إيرميت نظره إليها أخيرًا، وانعكس الضوء على خصلات شعره الفضي المتلألئة.
و دوّى صوته في الغرفة بنغمةٍ هادئةٍ أكثر مما ينبغي،
“هل تفكرين عندما تعطينني شيئًا، بما ستأخذين مقابله؟”
“لا، بالطبع لا. ثم إني لم أعطِكَ الكثير أصلًا.”
“لكنني أنا…..تلقيت منكِ الكثير.”
مرر يده في شعره، فبان السوار الفضي الرقيق حول معصمه — السوار الذي كانت إيفيريا قد أهْدَتْهُ له.
ذلك السوار كان أحد الأشياء القليلة التي ردّت بها إحسانه عليها بطريقتها الخاصة. فأغمضت عينيها للحظة، ثم فتحتهما بهدوء.
و تنهد إيرميت بعمق، وكأنه يستجمع شجاعة الكلام الذي ظل يثقل صدره طويلًا.
“في الحقيقة، كلما أنظر إليكِ أشعر أنكِ لا ترين مستقبلًا لنا.”
“أنا؟ لا أرى مستقبلًا؟”
رفعت حاجبيها بدهشة. كيف يمكن أن يقول ذلك؟ هذا غير منطقيٍ أبدًا.
لقد اختارت طريق برج السحر بوعيٍ كامل، بعدما كان مجرد فكرةٍ غامضة، فقط لأنها أرادت أن تقترب أكثر من إيرميت نيسبيروس.
كان هو أكثر شخصٍ أثّر في حُلمها وحياتها، في حاضرها ومستقبلها على السواء.
ابتسم ابتسامةً باهتة،
“أعرف ما تفكرين به.”
ثم أكمل بصوتٍ أكثر جدية،
“لكن، لو لم أكن موجودًا…..هل كنتِ ستذهبين إلى برج السحر أصلًا؟”
تجمدت الكلمات في حلقها، وبدت ملامحها مرتبكة.
لم تستطع أن تجزم بأنها لم تكن لتذهب من دونه، لكنها كانت تعرف أن وجوده كان السبب الأوضح والأقوى الذي دفعها إلى ذلك القرار.
لكن كيف يمكن شرح دافعٍ كهذا؟ لا يمكن البرهنة عليه، وحتى لو حاولت، فلن يصدقها إن لم يُرِد ذلك.
ولم تحاول حتى البحث عن إجابة. بينما تابع إيرميت كلامه بنبرةٍ تفيض بالحزن،
“أشعر أنه إن قلتُ الآن أننا انتهينا، فلن تُبدِي أي أسف…..وسترحلين ببساطة.”
“ذلك لأنني…..أختلف كثيرًا عنكَ يا سيد..…”
تابعت إيفيريا حديثها بتردد، غير قادرة على إنكار ذلك تمامًا.
هل يمكن لشخصين مختلفين منذ البداية أن يكون لهما مستقبلٌ معًا؟ من وجهة نظرها، لم يكن ذلك ممكنًا.
لذا كانت تفكر دائمًا بطريقةٍ متطرفة: إما أن تعيش الحاضر والمستقبل القريب بكل قوتها، أو أن تتطلع إلى مستقبل بعيد جدًا لا يتحقق إلا بعد نجاحها الكامل.
وكان الخيار الأول أكثر واقعيةً إلى حد ساحق.
أما إيرميت فحاول أن يعبر عن مشاعره بأكبر قدر من الهدوء. فهو يعلم أن تحويلها إلى “حقيقة” صريحة بدلاً من “شعور” سيقودهما حتمًا إلى شجارٍ آخر.
“أشعر أنكِ لا تقلقين بشأن مستقبلنا معًا، بل بشأن المستقبل الذي سيأتي بعد افتراقنا.”
“….…”
لم تستطع إيفيريا الرد، لأن ما قاله كان صائبًا جزئيًا. فمعظم قلقها كان يدور حول ما سيحدث بعد أن ينفصلا.
و عند رؤيتها لا تنكر، ارتسمت على شفتي إيرميت ابتسامةٌ باهتة.
ما قاله لم يكن كله صحيحًا، لكنه لم يكن بعيدًا عن الحقيقة أيضًا.
كانت إيفيريا من النوع الذي يقول بوضوح أن شيئًا ما “ليس كذلك” عندما لا يكون، ولهذا كان من السهل فهم حدود كلامها.
شعر إيرميت بمزيجٍ من الإحباط الخفيف والراحة، وكأنه أخرج أخيرًا ما كان يخفيه في صدره منذ زمن.
وبعد لحظة صمت، تابع ببطء،
“أنا مرتبطٌ بحاضركِ، وكنتُ مرتبطًا بماضيكِ، وسأظل مرتبطًا بمستقبلكِ بعناد.”
“….…”
“سأتداخل في حياتكِ للأبد، لذا أريدكِ فقط أن تستخدِميني كما تشائين، دون أن تفكّري أو تحسبي شيئًا.”
ابتسم حينها وكأنه قال كل ما أراد قوله.
***
انتهى حديثهما دون أي نتيجة واضحة. وأدركت إيفيريا أنها حتى لم تغضب كما ينبغي من إخلافه لوعده، لكنها فكرت أن لا فائدة من ذلك الآن.
كانت جالسةً داخل غرفة سيد برج السحر، وإيرميت يجلس إلى جوارها.
استدعاها السيد ليقلب الشائعات السيئة التي انتشرت عنها رأسًا على عقب.
أما سبب وجود إيرميت، فلم تكن تعلمه، لكنها فكرت أن وجود المزيد من العقول قد يساعد في إيجاد فكرةٍ جيدة.
نظر سيد البرج إلى إيفيريا وإيرميت بالتناوب ثم ابتسم، وأخرج الفكرة التي كان قد خطط لها مسبقًا.
“سأكون أنا الضامن لكِ.”
“فكرةٌ رائعة.”
“أليس هناك طريقةٌ أخرى أقل عبئًا..…؟”
وافق إيرميت بحماس، بينما حاولت إيفيريا أن تجد طريقةً لا تثقل كاهل سيد البرج.
“أو يمكنني فقط أن أقول أنكِ كنتِ تتعلمين السحر على يدي.”
“هذا أيضًا ممتاز.”
حينها فهمت إيفيريا سبب وجود إيرميت. فلم يكن يفعل شيئًا سوى تأييد كل ما يقوله سيد البرج بجانبه.
حتى عندما نظرت إليه، لم تتلقَ سوى نظرةٍ وقحة مليئة بالثقة.
كانت ممتنةً لتدخل سيد البرج في كسر إشاعة خطبته بالأميرة، لكن كلما رأت تلك النظرة في عيني إيرميت، شعرت بالضيق.
وبينما كانت تراقب الاثنين يتبادلان الأفكار، خطر لها سؤالٌ فسألته،
“آه، بالمناسبة…..ماذا عن مسألة زيادة كمية السحر أو استخدامي لسحر العقل؟”
كانت قد نسيت الأمر وسط انشغالاتها الأخيرة، لكن أصل المشكلة كان هناك. فكل شيءٍ بدأ من الشكوك حول ازدياد طاقتها السحرية.
فأجاب سيد البرج بصوتٍ لطيف كأنه كان ينتظر هذا السؤال،
“سأحاول ببساطة تشتيت الانتباه عن جوهر المسألة.”
“….…”
“ففي الأوقات الحرجة، يجب على المرء أن يحتفظ دومًا بورقةٍ خفية يمكنه استخدامها ضد خصومه.”
وحين فكرت بالأمر، بدا كلامه منطقيًا بالفعل. فارتسمت على وجهها ملامح تفكيرٍ عميق.
ثم تابع سيد البرج،
“كما تعلمين، هناك علاقةٌ وثيقة بين كمية السحر وسحر العقل، لذا سيكون من الصعب تقديم تفسيرٍ مباشرٍ الآن. لكن، إن رغبتِ، يمكننا فعل ذلك.”
توجهت أنظار الاثنين نحو إيفيريا، وبعد لحظة تفكير أجابت ببطء،
“لا، طالما لن تثار مشكلةٌ الآن، يمكننا تأجيل الأمر قليلًا. شكرًا لكَ.”
“لا داعي للشكر. وسأضمن بنفسي أن ازدياد طاقتكِ السحرية أمرٌ طبيعي تمامًا، فلن تحدث أي مشكلة. لا تقلقي.”
وبعد أن أجابها، عادوا إلى تبادل الآراء من جديد.
وفي النهاية قال سيد البرج بجدية تامة كلامًا كفيلًا بإثارة القارة بأسرها،
“لو قلنا أنكِ قادمةٌ إلى البرج لتصبحي خليفة سيده القادم، فلن يجرؤ أحدٌ على الاعتراض.”
“أظن أن هذه أفضل فكرةٍ حتى الآن.”
“أنا…..لستُ واثقةً من هذا حقًا.”
مهما كان، فلا ينبغي نشر الأكاذيب هكذا.
أجابت إيفيريا وهي ترفع خصلة شعرٍ جانبية وتضعها خلف أذنها.
أما إيرميت وسيد البرج فاستمرا في الحديث بحماس عن “روعة الأفكار”، بينما لم تستطع إيفيريا الموافقة الكاملة على معظمها.
‘…..يبدو أن الأمر خرج عن السيطرة أكثر مما تخيلت.’
_____________________
يعني تقريباً نقدر نقول تصالحوا؟ احب نشبة ايرميت كذا بيتصالحون وهم مايدرون😂
وسيد البرج يحليله وهو يجمع راسين بالحلال🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 100"