الفصل 159
أملت رأسي بارتباك.
لبرهةٍ ظننت أنني سمعت خطأً.
“خطوبة؟”
“أجل، خطوبة.”
أعاد ماركيز ريمناديس كلامه وكأنه يؤكد أنني لم أسمع خطأ.
اجتاحني شعور بالذهول.
“……هل يمكن أنني كنت نشطةً في المجتمع المخملي من قبل دون أن أدري؟”
“……إن لم يكن لديك مثل هذه الذكريات، فالأرجح أنها غير موجودة، أليس كذلك؟”
هز ماركيز ريمناديس كتفيه بلا مبالاة.
“أم أنك مارست بعض الأنشطة تحت اسم آخر؟”
“لم أتورط كثيرًا مع نبلاء البلاط على أي حال.”
“إذًا فدوق ألفيون لم يرك من قبل أيضًا.”
كان هذا موضع جدل.
هل رآني من قبل؟ أم لم يفعل؟ لم أجب.
ما الذي يدفع رجلًا لم يلتقِ بامرأة قط إلى التقدّم بطلب زواج منها؟
هل عرف شيئًا ما؟
هل يمكن أن يكون هيليوس قد سمع شيئًا من مدير السجن؟
بما أنني خرجت من السجن، فلا ولاء يُتوقّع من المدير بعد الآن.
ثم إنّ هيليوس بات الآن صاحب سلطة، زعيمًا جديدًا، وفي الخارج هو حتى نجل نبيل.
دخل السجن ظلمًا، وتبعًا لكلام هاديس، كان الأمر نتيجة رهان بين الإمبراطور ووالده.
لذا فهناك احتمال كبير أن يكون المدير قد أفشى بكل شيء على أمل التقرب من القوة الجديدة.
ربما كشف عن اسمي الحقيقي، أو عن سجلي الجنائي.
فليكن، لنفترض أنه اكتشف اسمي الحقيقي.
لو كان قد بحث عني بالاسم بعد خروجه، فلا بد أنه اطلع على قصص “أصغر سفاحة متسلسلة في التاريخ”.
وربما لم يكتفِ بما هو مكتوب في سجلات السجن، بل سمع روايات حية أيضًا.
أنا نفسي، حين أصبحت رئيسة نقابة المعلومات، بحثتُ عن تلك القصص واطّلعت عليها.
“إذًا، في النهاية، أنت لا تعرف السبب الحقيقي، أليس كذلك يا أخي؟”
“……أجل. لكن على سيرة الألقاب، يبدو أنك تعودتِ على مناداتي بهذا الشكل.”
“عليّ أن أعتاد، أليس كذلك؟ لا بد من التكيّف مع الخلفية التي صنعتها بنفسك.”
عندما قلت إنني سأكون ابنة غير شرعية، قال ماركيز ريمناديس إنه على الأقل سيجعل الأمر وكأن العائلة ترحب بي.
أي أنني سأكون أختًا غير شرعية، لكن محبوبة ومفضّلة لدى الأخ الأكبر، الماركيز.
قال ذلك وهو يراقب ردّة فعلي، فاكتفيت بهز رأسي على نحوٍ مبهم وكأنني أوافق.
“قلت إننا كنا على تواصل منذ زمن، حتى قبل أن أدخل منزل العائلة.”
“……قلتُ ذلك فعلًا، لكن…”
حكّ الماركيز مؤخرة عنقه بشيءٍ من الحرج.
“لم أظن أنك ستوافقين فعلًا…….”
“أنت زبون خاص، لا بد من إرضائك.”
“…….”
“ولستَ بالضبط من يمكن اعتباره فريسة سهلة.”
أشرت برأسي نحو الغرفة، فتوقف الماركيز للحظة، ثم انفجر ضاحكًا.
معذرة، لكن ملامح وجهه في تلك اللحظة كانت تبدو… غبية نوعًا ما.
“حسنًا، استغلي الفرصة كما تشائين. فالأمر سيستمر على هذا الحال.”
“لا تلقِ مثل هذه العبارات عبثًا. أنا طمّاعة،
فماذا لو استغللت كل شيء فعلًا؟”
“حسنًا، حسنًا.”
راقبته وهو يرد بعبارات مبتهجة، بينما لامست أذني بتأمل.
“وماذا عن الرد على الخطوبة؟ هل رفضته للدوق؟”
“رفضته مباشرة. ولكن…….”
ارتسمت الجدية على ملامحه، ثم تابع شارحًا.
لقد رفضوا الخطبة من طرفهم، لكن نظرًا للفارق الطبقي، لم يكن من الممكن رفضها بجفاءٍ تام.
دوق ألفيون الحالي، هيليوس، قام بحلّ كل النزاعات مع الدول المجاورة خلال تجواله في أرجاء المملكة، وارتقى اسمه عاليًا.
شخص لا يبالي بالمصالح الشخصية، عادل، حاسم، ومنطقي.
وفوق ذلك، قدراته الخارقة في فنون “كيا” لا يُستهان بها.
“خاصةً ما فعله مؤخرًا حين قضى على عصابات اللصوص في الأرض القاحلة. كان ذلك إنجازًا ضخمًا.”
“آه، هل تقصد عند عودته الأخيرة؟”
لا عجب أن المدينة كانت تضجّ بالألعاب النارية حينها.
كان قد حلّ واحدة من القضايا التي أنهكت الإمبراطورية طويلًا.
لم يكن إرسال جيش خيارًا واقعيًا، ولكنها كانت مشكلة تؤذي المواطنين بشكل مستمر.
لذلك، أصبح بطلاً قوميًا في نظر الشعب.
يليق به الدور فعلًا.
بالفعل، أن يكون قائدًا في ساحة المعارك أنسب بكثير من كونه زعيمًا على السجناء.
منذ ولادته، بدا وكأن العالم قد خُلق لأجله.
“رُفضت الخطوبة، لكن الدوق طلب لقاءك
شخصيًا؟”
“……أجل.”
عقدتُ ذراعيّ وفكرتُ للحظة.
طلب زواج، هاه؟
“أريد أن أعيش مع أستاذتي طوال حياتي.”
مرت ذكرى في خاطري، ولم يكن ذلك مصادفة.
“تزوجيني.”
قالها هيليوس ذات مرة، ولا زال صدى صوته يتردّد في ذاكرتي.
هل عرف مكاني يا ترى؟
أم ربما…
همم.
“هناك أمر يثير فضولي يا أخي.”
“كم هو جميل أن أسمعك تنادينني هكذا بكل طبيعية.”
“أما أنت، فابتسامتك المصطنعة تجعلك تبدو مقززًا.”
“…….”
“أمزح فقط. على أي حال، هل هناك ما يجب علي الالتزام به كابنة ماركيز ريمناديس؟ أخبرني الآن.”
فتحت أصابعي وعدّدت: رصانة، تهذيب، عفّة، حياء… وبدأت أسرد كل ما خطر ببالي.
هزّ الماركيز رأسه نافيًا.
“لا، لا يوجد شيء عليك الالتزام به.”
قالها بوجه أرستقراطي لا يمت بصلة لضحكته الساذجة قبل قليل.
“أيًا يكن ما تفعلينه، فإن بيت الماركيز سيتحمّل تبعاته ويدعمه. افعلي ما تشائين.”
هل كان هذا الكلام موجّهًا إلى “مينتي”
الحقيقية؟
حدّقت فيه للحظة، ثم فتحت فمي.
“في هذه الحال، ماذا لو تعاملنا مع الخطوبة على النحو التالي؟”
هيليوس… لم تكن نيتك ذلك، لكن ما يحدث يبدو كأنه لعبة حقًا.
مطاردة… أو لعبة غميضة.
من يكون المطارد يا ترى؟ أنت؟
ابتسمت ابتسامة خفيفة.
لن يكون الأمر ممتعًا إن وقعتُ بين يديك بهذه السهولة.
كانت العاصمة الإمبراطورية “هارفييم” مركز البلاد، ومهد كل الفنون والثقافات.
ولأنها نشأت في قلب دولة متعددة الأعراق، فقد امتزجت فيها حضارات شتى، لتغدو لوحة زاخرة بالألوان.
حتى أساليب البناء، كانت تختلف من حي إلى آخر، ما جعل منها مصدر فخر للإمبراطورية.
في الحي A، حيث يقيم كبار النبلاء، تهيمن المباني البيضاء ذات الأسقف الزرقاء بدرجاتها المختلفة.
ومن بعيد، يبدو المشهد وكأنه صورة للسماء أو البحر.
وفي أحد أكثر القصور فخامة في ذلك الحي، كانت حفلة على أشدّها.
“هل سمعتم؟ الأمير الثاني قد عاد!”
“حقًا؟ أليس قد مضت ثلاثة أشهر على غيابه؟”
“إنه السيد هاديس……!”
قالت إحدى السيدات بعينين حالمتين.
“يقال إنه أنهى المفاوضات مع دولة كانيمان بنجاح.”
“أمر طبيعي، أليس كذلك؟ قوته ليست بالهينة.”
اجتمع النبلاء في زمر صغيرة، رجالًا ونساءً، يتبادلون أحاديث اليوم الساخنة.
لكنهم جميعًا، وبينما يتكلمون، كانوا يرمقون زاوية واحدة بنظرات خاطفة.
كأنهم ضباع تتربص بالحظة المناسبة للانقضاض.
وفي مركز كل تلك الأنظار، جلس رجل وحيد على الأريكة بكسلٍ ظاهر.
اقتربت منه سيدة بابتسامة رقيقة، وكانت هي مضيفة الحفل.
لذلك وجب عليها أن ترحب بأهم ضيوفها بنفسها.
جالت عيناها في أرجاء الصالة، ثم توقفت عنده.
“يا له من شعور… كأن الأنظار كلها تحترق من فرط التركيز. الجميع يسعى لفرصة الحديث معك.”
خفضت مروحتها عن وجهها قليلًا، وهي تحدّق في الرجل الجالس بجانبها، الذي سرق الأضواء من صاحب الحفل نفسه.
“ما رأيك بهذا، يا دوق ألفيون؟”
“…….”
لم يردّ دوق ألفيون، هيليوس.
طالت خصلات شعره على مدى ثلاث سنوات، حتى غطّت حاجبيه.
رغم أن فرقه كان مصففًا بعناية، إلا أن الخصلات المنسدلة بعفوية كانت تسحر الناظرين.
جبينه الأملس، أنفه المتناسق، شفاهه المعتدلة…
رجل يجسّد الكمال.
كأنه تحفة صنعها فنان كرّس عمره لها.
هيليوس، الرجل الذي بدا وكأن لا شيء في العالم يهمّه، نظرته الهادئة تلك لم تكن تدرك كم توقظ القلق والفضول في قلوب من يراه.
─── ・ 。゚✧: *. ꕥ .* :✧゚. ───
التعليقات لهذا الفصل " 159"