الفصل 127
في تلك الأثناء، كان “هيليوس” في موقفٍ بالغ الحرج.
«إلى أين ذهبت المعلّمة بالضبط؟»
كانت المعلمة قد حذّرته مسبقًا من احتمال أن يتفرّقوا، لذا لم يكن من الغريب أن يفتح عينيه ولا يجدها بجانبه.
لكن ما أوقعه في الحيرة لم يكن اختفاء
المعلّمة…
“إذاً، ما الذي تريد قوله بالضبط؟”
كانت فتاة مألوفة تجلس أمامه، وإلى جانبها وجهٌ آخر يعرفه جيدًا.
لقد رآها من قبل… تلك الفتاة التي ظهرت في فضاء الكيا النفسي الذي دخله مع معلمه.
وكانت، حسبما يبدو — بل حسبما يجزم — نسخة من معلمته في طفولتها.
المشكلة، أنها في المرة السابقة لم تترك أثرًا واضحًا في ذاكرته، وهذه المرة بات وجهها يبدو مشوشًا.
يمكنه تمييز تعابيرها، ولكن كلما حاول استحضار ملامحها في ذاكرته… تتلاشى، ولا يثبت منها شيء.
حتى لون شعرها وعينيها… يراهم، لكن لا يستطيع تذكّرهم.
أشبه ما يكون بتشوش إدراكي.
ما زاد دهشته أن الفتاة بدت أكثر نضجًا هذه المرة مقارنة بالمرة السابقة.
أما المرأة متوسطة العمر التي كانت تجلس بجوارها، فقد تعرف عليها فورًا — رآها أيضًا في الفضاء السابق.
هي تلك التي كانت المعلّمة تناديها بـ”ماما”. زعيمة السجينات.
“ماما.”
لكن الفارق هذه المرة، أن الفتاة تنادي المرأة بـ”ماما” بلا حرج، بعكس المرة السابقة حين أبدت نفورًا من التسمية.
وبينما يراقب، وقعت عينه على مشهد عجيب آخر:
لون الشعر، الذي لم يكن يستطيع تمييزه سابقًا، بدأ يتغير تدريجيًا حتى غدا أسودًا قاتمًا.
وكذلك ملامح الوجه بدأت تتضح شيئًا فشيئًا.
«هذا الوجه…»
هو ذاته الذي رآه أثناء أول اختبار خاص خضع له.
هيليوس لم يفهم ما يجري. كانت المعلّمة قد قالت من قبل إنه قد لا يكون هو “البطل”، وربما هناك “بطل” آخر.
لا بد أن أحد هذين الشخصين هو المقصود.
“يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي! صغيرتي، هناك شيءٌ ما على خدّكِ!”
“……ما هذه المهزلة مجددًا؟”
“تـتـن! إنها اللطافة! لطافةٌ علقت على وجهك!”
أزاحت الفتاة يد “ماما” التي كانت تعبث بشعرها بشراسة. في الواقع، من منظور “هيليوس”، لم يكن يعلم إن كانت تلمس شعرها بلطف أم تحاول اقتلاعه من جذوره.
وفهم أخيرًا لمَ كانت لمسات المعلمة على رأسه دائمًا قاسية بهذا الشكل.
هكذا تعلّمتها، إذًا.
“لا أعلم كم مرة عليّ تكرار الأمر حتى تفهمي، لكنني لست صغيرة كما أبدو.”
“أجل، أجل. الكل يظن ذلك. وأنا أيضًا كنت أظنه قبل العشرين، وحتى بعدها.”
كان المشهد أمامه غريبًا ومثيرًا للفضول.
الفتاة، التي كانت أصغر عمرًا وأشد عدوانية حين رآها في الفضاء العقلي من قبل، تبدو الآن أكثر هدوءًا، أقل حدّة… بل وكأنها وُضعت على وسادة ناعمة.
نعم… بدت مرتاحة.
“إذاً، ماذا حصل لصديقتك؟”
ركّز “هيليوس” على هذا المشهد الهادئ. فمن غير المعقول أن يكون قد وصل للطابق 90 ويظل الوضع ساكنًا بهذا الشكل.
قد يحدث شيءٌ مفاجئ في أي لحظة.
أو قد يهاجمه أحدهما.
بدأ القلق يرتسم على وجهه.
ماذا لو هاجمته المعلّمة حين كانت طفلة؟ هل سيقدر على ضربها؟
لكنها جميلة جدًا… لطيفة جدًا…
غطّى وجهه بيده وهو يشعر بحرارة في أذنيه.
ولهذا السبب، لم يلاحظ النظرة الخاطفة التي رمقتها “ماما” نحوه من طرف الحديث.
كانت مجرد لحظة.
أما هو، فقرّر البقاء في محيطهما ومراقبتهما.
“كان لديّ صديقة عزيزة في الماضي. هل سبق أن قلت لكِ ذلك؟”
“شيء من هذا القبيل… لا أعلم لماذا تهتمين بهذه الأمور أصلًا.”
قالت الفتاة وهي تسند ذقنها بكفّها، تعبث بخصل شعرها الأسود الذي لم يعد غريبًا على “هيليوس”.
“اسمها ‘جيهو’. أقول لك ذلك فقط لكي تتوقفي عن السؤال.”
“جي… أوه؟”
“جيـ ـهو.”
رغم أنها كررت الاسم مرارًا، لم تستطع “ماما” نطقه بشكل صحيح.
تابع “هيليوس” المشهد بصمت، وبدأ يتمتم بالاسم: جيهو. وبعد تكرارٍ بسيط، بدأ ينطقه بشكلٍ أقرب للدقة.
وهنا، بدأت نظرة الفتاة — والتي تُدعى “مينت”، واسمها الحقيقي “باي ها” — تتعمق.
منذ الطفولة، أظهرت “باي ها ” ميولًا غير مألوفة، مما دفع أهلها إلى استشارة مختصّين أكدوا أنها تمتلك ميولًا معادية للمجتمع.
“هل هذا يعني أن ابنتنا لن تستطيع النمو كإنسانة طبيعية؟”
“ليس بالضرورة. بعض الأطفال يولدون بهذه السمات… وفي حالة ابنتكم، فإن الميول موجودة لكن ليست على درجة خطيرة.”
تم تشخيصها بضعفٍ شديد في القدرة على التعاطف، لكنها في الوقت نفسه أظهرت معدل ذكاء مرتفع.
وهكذا، بعد عودتها من المستشفى، أدركت “باي ها” شيئًا مهمًا:
منذ ذلك الحين، إما أن والديها تخلّيا عنها، أو… لفظوها روحيًا.
فالنبذ لا يتم دومًا عبر مؤسسات الدولة. أحيانًا، يكفي أن تصبح “غير مرئية” في وسط العائلة.
“يا عزيزي، كلما نظرتُ إليها أشعر بالقشعريرة!”
لكن “باي ها” لم تكن تدرك أنها ليست بخير.
كانت تظن أن الوضع طبيعي، أو ربما… لم تهتم بما يعنيه “أن لا تكون بخير”.
على العكس، ارتاحت حين لم تعد مضطرة لمقابلة غرباء باسم “العلاج” أو “الاستشارة”.
كان والدها ووالدتها يعملان في مناصب اجتماعية مرموقة، لذا لم يكن ينقصها شيء ماديًّا.
دخلت الروضة، ثم المدرسة، ومع الوقت، تخلّت الأسرة عن فكرة العلاج، وبدأت ميول “باي ها” تتفاقم تدريجيًا.
لحسن الحظ، لم تكن اندفاعية بشكل ملحوظ. وهذا ما جعلها تبدو — ظاهريًا — طبيعية.
لكن الأطفال الذين اقتربوا منها ما لبثوا أن ابتعدوا عنها، واحدًا تلو الآخر.
ومع الوقت، فهمت “باي ها” أنه بمراقبة الآخرين، يمكنها أن تقلّدهم، أن تعيش مثلهم، أو حتى بشكل أكثر دهاء.
لكنها لم تفعل.
فقد طلب والداها منها ألّا تجلب العار إليهما. وكانت هي تعلم أنها لا تزال “غير ناضجة” لتتقن التمثيل.
ثم… التقت بـ”جيهو”.
صديقة فريدة في طبعها.
كانت تقترب منها مرارًا، رغم نظرات الناس المحذّرة، ورغم والديها اللذين لم يتوقفا عن توبيخها والتشنيع عليها.
“باخا، كيف يكون كل شيء بخير معك دائمًا؟”
“…؟ لأنه بخير، إذاً هو بخير.”
في نظر “باي ها”، والتي كانت تفتقر لمخيلة حقيقية، كانت “جيهو” مثل غزل البنات.
ناعمة، هشة، سريعة الذوبان أمام أي لمسة، لكنها تمنحك حلاوة وسعادة.
عائلة “جيهو” كانت نقيضًا تامًا لعائلة “باي ها”.
كأنهم خرجوا من دراما تلفزيونية: دافئون، محبّون، مستقرون.
ولا شك أن نزعتها لمساعدة الآخرين ونفورها من الظلم مصدرها تلك البيئة.
أما “مينت”، فلم تكن تعرف الحب، ولا تفهم مفهوم “العدالة”.
لكنها بدأت تتعلّمه… من “جيهو”.
بدأت تسأل نفسها: كيف أكون الطفلة المحبوبة في عيون أقراني؟
وبنفس المبدأ، بدأت تُقلّد ما تحبّه “جيهو”.
إن أحببتُ كل ما تحبّه، فلا بد أنها ستحبني.
“جيهو” لم تكن تعلم شيئًا… وكانت تحب “باي ها”
بصدق.
“باي ها، أنتِ لستِ غريبة أبدًا. والداك هما الغريبان. لا بأس إن لم تضحكي، ولا بأس إن لم تبكي. ما زلتِ بخير!”
“…”
لأنها كانت تقول دومًا: “أنت بخير”، بدأت “باي ها” تشعر وكأنها كذلك فعلًا.
ومع مرور الوقت، أصبحت تشبه الأطفال الطبيعيين في تصرفاتها.
حتى جاء يوم أدركت فيه أنها تُحب “جيهو” كفاية… لتكسر كرسيًّا على رؤوس المتنمرين الذين نبذوها.
─── ・ 。゚✧: *. ꕥ .* :✧゚. ───
التعليقات لهذا الفصل " 127"