الفصل 122
أرخيت عنقي بهدوء، كأنني أسلّمه طوعًا.
إن أراد، بإمكانه أن يبتر معصمي هذا في الحال، ومع ذلك… كان يراقبني فحسب.
عيناه الحمراوتان، اللامعتان ببريق موحش، كانتا ماثلتين أمامي.
“لماذا؟ لماذا تفعلين هذا بي فقط؟”
صوته، وقد تخلّى عن كل ألقاب وتكلفات، خرج خامًا، عاريًا، نابضًا بالوجع. كان صوتًا سمعته من قبل.
في الحقيقة، علاقتي به قد تشابكت وتعفّنت منذ زمن طويل. وإن أردت تتبّع خيوطها، فعلي أن أعود في الزمن سنوات وسنوات.
على الأقل، إلى ذلك الوقت حين كانت “ماما” لا تزال على قيد الحياة.
لكن… تلك العينان المتقدتان لم تختلفا يومًا، لا في الماضي ولا الحاضر.
لطالما فكرت: ما كان يجب أن ألتقي بهذا الـ”اللعين”، ولا أن يلتقيني هو.
“يا صغيرتي، تعلمين ماذا؟”
أظن أنني كنت حينها في الرابعة عشرة… أو ربما الخامسة عشرة.
كان السجن يعجّ بالفوضى.
أما أنا، فقد كنت في حالة هياج، أحاول أن أزحف صعودًا إلى القمة، فعيني كانت محمرة من التحديق في الأعلى، فلم يكن لدي أي اهتمام بما يجري حولي.
على الأكثر، كنت أسمع بضعة كلمات من “ماما” وهي تزعجني بزياراتها المتكررة، أو من رفيقتَي الزنزانة “رامونا” و”ديريل” حين يثرثرن بقلق.
فقط حينها كنت أشعر: “آه، حتى هذا المكان يسير بنفس السخف المعتاد.”
“لقد دخل سجين جديد، بنفس عمرك تقريبًا! ألا ترغبين في رؤيته؟ هممم؟ ناديني بماما
وسآخذك إليه.”
“اخرسي وارحلي! بفضلكِ تعطّلت تجربتي من جديد!”
“آآآه، يا لها من مراهقة! مخيفة جدًا، أرتجف من الرعب~”
“…سأقتلكِ فعلًا.”
في ذلك الوقت، كنت أعيش في دوامة من الغضب والكراهية.
لو أردت وصف تلك المرحلة من حياتي، لقلت إنها اللحظة التي احترقت فيها أسرع من أي وقت مضى، قبل أن أتلاشى كرماد.
ولهذا السبب، كنت قاسية مع “ماما”، بل ومع الجميع.
أو بالأحرى، كنت “الطفلة الخطيرة والمزعجة” بالنسبة إلى جميع السجناء… ما عدا “ماما”.
“حسنًا حسنًا، فهمت. سأرحل!”
لكنها كانت تكرر بحماسة أن هناك طفلًا آخر دخل السجن، مما جعل تجاهله أمرًا مستحيلًا.
ولم يمضِ وقت طويل حتى التقيت بذلك “الطفل” الذي تحدثت عنه.
مكان الاستراحة المخصّص للسجناء لم يتغيّر كثيرًا منذ ذلك الوقت.
لكن، حينها… كانت هناك معارك ومؤثرات نفسية وعقاقير غريبة تتجول في الزوايا.
لم تكن “ماما” إنسانة سيئة، لكنها لم تكن طيبة إلى حد التدخل لفضّ تلك المعارك.
وسط السجناء المطروحين أرضًا بدمائهم، وقف أحدهم، ثابتًا في مكانه.
“زي رسمي.”
كان يرتدي زيًّا خاصًا بحراس السجن، لكنه بدا صغيرًا… أطول قليلًا من معدل طول السجناء الذكور، لكنه بملامح ناعمة لم تكن مألوفة في هذا المكان.
عرفت في الحال… أن هذا هو “الطفل” الذي تحدثت عنه “ماما”.
حول جسده كانت تتراقص “كِيّا” سوداء مشؤومة، تتلوّى كالضباب الحالك.
“…اتّسخت.”
قالها بصوت ناعم، كأن النسيم همس بها.
نظراته التفتت إليّ. والتقت أعيننا.
بدت الحيرة على وجهه للحظة، ثم ذابت داخل ابتسامة غامضة.
كان طويلًا بشكل مزعج، وبشرته شاحبة كأنها لم تتذوق الطعام يومًا.
كان جميلًا، لكن وجهه بدا كدمية مهجورة في مقبرة منسية.
“نحس.”
كنت قد جئت لأرتاح، لكن كل ما فهمته أن عليّ المغادرة فورًا.
كيّا نفسية.
تخلصت منها بسهولة، ثم صرخت، نافثة غيظي:
“يا ابن الـXX، من تظن نفسك؟ اختفِ قبل أن أقتلك!”
فزززززز!
سيف برق خاطف، شكّلته بيدي، خدش وجهه الناعم.
يده، المغطاة بقفاز أبيض، امتدت ببطء نحو الخد النازف.
“آه… إذًا أنتِ.”
حين نظر إليّ، أدركت.
هذا الـX سيجلب لي المتاعب.
“سمعت عنك الكثير. أصغر قاتلة متسلسلة في التاريخ، أليس كذلك؟”
بدأ يتحرّك دون تردد، فيما صوته ظل يلاحقني.
“كيف كان شعورك عند أول جريمة قتل؟”
كانت “ماما” تهذي دومًا بأن هذا الشاب هو أميرٌ نُفي إلى هنا بعد أن خسر صراع العرش الملكي.
لكنني كنت أعلم الحقيقة.
هذا الـX كان أول شخصية رئيسية التقيتها من الرواية الأصلية.
“هاديس”. اسم محفور في نسيج العمل الأصلي، بدور محوري.
صحيح أنني سمعت كثيرًا من الكلمات الوقحة من السجناء، وحتى أسوأ منها.
لكن وقتها، كنت أكره ذلك العمل الأصلي بكل كياني.
أيامٌ كثيرة لم أكن أستطيع التنفس فيها إلا بالاحتقار، بالكراهية. استغرق الأمر عشر سنوات لأصبح باردة المشاعر تجاه كل شيء.
“وما شأنك؟ أتريد أن أضمن لك مكانًا في القبر التالي؟”
“ككك…!”
“يا حثالة. كل ما تملكه هو لسانك الطويل.”
كنت أكره العمل الأصلي… العالم الذي أيقظني فيه، هذا السجن، هذا المصير.
كنت أكره كل شيء: نفسي التي تكافح لتعيش، والقيود التي لا أستطيع التحرر منها.
حتى “ماما”، التي كانت تظن أنها فقط فترة مراهقة، لم تفهم أنني كنت في دوامة لا مخرج منها.
ولا “هاديس”. لم يفهم أيضًا.
كنا نعيش في إعصار، وقد التقينا كسكاكين تجرح بعضها.
حين أفقت لنفسي، كنت أدوس على صدره.
“كك…”
حتى في تلك اللحظة، كان وجهه يلمع بجمال مخيف، وهو يمسك بكاحلي، دامٍ، يبتسم.
“أنتِ… تشبهينني.”
“…”
“تعجبينني.”
في ذلك اليوم، عوقبت بكسر ضلوع الحارس الجديد وذراعه، وسُجنت في زنزانة انفرادية ثلاثة أيام بلا ماء، وعشرة بلا طعام.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت المواجهة الحقيقية بيني وبين “هاديس”.
أغمضت عينيّ، ثم فتحتهما، فوجدت وجهه على بُعد أنفاس.
بشرته الشاحبة لم تتغيّر قط.
كان يعرف، لأنه يشبهني.
كان يعلم تمامًا كيف يستفزّني. كيف يستخرج مني ردة الفعل، وأنا أتسلق البرج ملوّثة بالكراهية.
“أيعجبك؟”
كان يلقي أمامي بجثث فئران. أدهسها وأركلها بلا مبالاة.
وحين لم يجد فيها ما يستفزني، بدأ يستهدف سجناء كنت أعرفهم قليلًا.
رآيتهم يتعثرون أو يسقطون أمامي. ولم أكن أبالي.
كنت أقاتل لأعيش، لا لأهتم بغيري.
كنت أؤمن أنه لو أصبحت زعيمة، فسيمكنني لقاء مدير السجن… علّني أفتح قضية “مينت” من جديد.
لكن في اليوم الذي انهارت فيه “رامونا” –رفيقتي في الزنزانة– أرضًا.
انكسر ذراع “هاديس” مجددًا.
“لماذا؟ لقد تحدثت عنها بسوء، فقررت معاقبتها بدلًا منك.”
كان يبتسم. لا أثر للذنب في عينيه.
لوّح بذراعه الملفوفة بالجبيرة.
“أنتِ من كسرتها. فلو جُبّرت بشكل خاطئ، ستظل آثارك بي إلى الأبد، أليس كذلك؟”
بات “هاديس” رمزًا للعمل الأصلي.
عالمٌ كنت أحبّه يومًا، ثم أدركت كم هو مريض، قاسٍ، مشوّه بالهوس والاضطهاد.
ربما لو كنت أعيش حياةً جيدة، لما اهتممت به كثيرًا.
لكنه لم يتوقف عن الظهور. لم يتوقف عن استفزازي.
“تدّعين اللامبالاة، لكنك وحدي من تثورين في وجهي، وتكرهينني بهذا الشكل. دائمًا ما تهددينني، فقط أنا.”
“…”
“لماذا؟ أأنا أبغض إليك من أولئك الذين خانوك؟”
الكراهية بيننا كانت تتراكم طبقة فوق طبقة. على الأقل من ناحيتي.
أما هو، فعرفت في لحظة الحقيقة أن مشاعره لم تكن كراهية فقط.
وتلك اللحظة… أثار اشمئزازي.
لقد حوّلني العمل الأصلي إلى هذه النسخة من نفسي… فلماذا أضطر إلى التحمّل أيضًا؟
كنت أنانيّة، وكان هو كذلك. لكنه كان أسوأ من السجن ذاته.
في ذلك الزمن، لم أحتمل هذا الخلل.
حتى بعد أن أصبحت باردة تجاه كل شيء، ظلت كراهيتي له كجذر نبت في صدري.
لكن إن أردت تقييم الأمر بصدق… فقد نلت ما استحققت.
فـ”هاديس” قضى ثمانية أعوام وهو يغذي غضبي.
“لو لم تفعل شيئًا، لما فعلت أنا شيئًا.”
“سخيفة أنتِ، أيتها الصغيرة. بهذا المنطق، لكنتِ لا شيء بالنسبة لي.”
قبضته شدّت على عنقي.
“لن أسمح بذلك.”
كانت يده ترتجف.
ووجهه، الذي اعتدت رؤيته يبتسم برقة، تشوّه بحدة.
“اللعنة.”
شتم حتى بطريقة أنيقة، ثم حدّق بي.
“قالت لي تلك المرأة قبل أن تموت…”
“…”
لم أعد كمن كنت يوم التقيته، غارقة في كراهية العالم.
“قالت إننا من نفس النوع، لذا بدل أن نتناحر، فلنتعامل كرفاق ونبني علاقة طبيعية.”
أنا الآن أقبل كل شيء، وأسير إلى الأمام.
“سخافة ما بعدها سخافة.”
لكن “هاديس”، بقي كما كان في لقائنا الأول، الفتى المشوّه، بالوجه نفسه.
كان يرمي الناس في الهاوية، يُعبد كقديس، ومع ذلك، كإنسان ناقص، ظلّ يطلب مني شيئًا… بإلحاح، بجنون.
“إذن، يا آنسة… ما هي العلاقة الطبيعية برأيكِ؟”
“على الأقل، ليست شيئًا يمكن أن نكوّنه أنا وأنت.”
أمسكت بمعصمه بشدة. لا بد أن “ماما” هي تلك المرأة التي تحدث عنها.
“وما الذي سيصنعه كائنات مكسورة مثلنا؟”
همست بذلك بلا تعبير، ضاغطة على معصمه.
“إن كنت تنوي قتلي، فافعل. وإن لم تستطع، فارحل، أيها الـXX.”
ضحكت بسخرية من جمود ملامحه.
“تافه، لا تقدر حتى على ذلك.”
في اللحظة التي ترك فيها يدي، بووم! اخترقت كيّاه الأريكة إلى جانبي مباشرة.
تنفيس عن الغضب.
ولم أرفرف حتى بجفني، بل قلت:
“من الآن فصاعدًا، لن أكون أنا المُهدَّدة. بل أنا من سيُهدد.”
─── ・ 。゚✧: *. ꕥ .* :✧゚. ───
التعليقات لهذا الفصل " 122"