خفّت نظراته، ثمّ التفت نحو ولي العهد للحظة، قبل أن ينظر إلي مرّةً أخرى.
“أليس لديكِ شيءٌ تريدين قوله؟”
أملتُ رأسي بحيرة. بدا على وجهه بعض القلق.
“هل هذه … أوّل مرّةٍ ترين وليّ العهد فيها؟”
“بلى، يمكنكَ قول ذلك. ما الخطب؟”
“لا … لا شيء.”
تسائلتُ إن كان منزعجًا أن محاميته تخوض معركة نظراتٍ حادّةٍ مع وليّ العهد. بالتأكيد ليس لأنّه يعتقد أنني سأخسر. لستُ تلك النوعيّة من الأشخاص، لقد أخطأتَ في تقييمي.
“رأيتُ مدى روعته، لكنه ليس بشيءٍ يُذكَر. لذا لا تقلق، سأسحقه في المحاكمة.”
لطمأنة عميلي، صرفتُ نظري عن ولي العهد وابتسمتُ له، مشجّعةً إيّاه على الاسترخاء. مهما حاول أن يتظاهر بالهدوء، كان من الطبيعي أن يكون متوتّرًا دون خبرةٍ في المحاكمات. عندها فقط، ارتسم على وجهه بصيصٌ من الارتياح.
بعد بُرهة.
“سنبدأ الآن محاكمة المُدّعى عليه بنديكت ريتشارد بتهمة قتل البارون ديفون هايدين.”
مع إعلان القاضي الرسميّ، بدأت المحاكمة، وبدأ رئيس قسم الشرطة ببيانه أوّلًا.
“تمّ العثور على الضحيّة، البارون هايدين، مقتولًا في حديقة قصره الخاصّ، وقد طُعِن في ظهره الأيسر بخنجرٍ حادّ.”
أنهى رئيس الشرطة كلامه، ثمّ رفع قبّعته بندمٍ وانحنى احترامًا نحو فيفيان التي تنظر إلى أسفل القاعة بنظرةٍ صارمة. إلّا أن وجهها الجميل كان خاليًا من أيّ تعبير بشكلٍ غريب.
“كان ذلك اليوم مأدبة احتفالٍ بنجاح شركة الضحيّة في التجارة مع مملكة غريس. وحتى صاحب السموّ الملكيّ ولي العهد وصاحبة السموّ ولية العهد حضرا المأدبة.”
“هل كان المُتّهم مدعوًّا إلى المأدبة؟”
“نعم. وبحسب شهادات الحاضرين في قاعة المأدبة، اختفى في منتصف المأدبة.”
“تابِع.”
أومأ القاضي برأسه واستمع إلى بيان رئيس الشرطة. أشار رئيس الشرطة إلى الأرشيدوق ريتشارد بوجهٍ صارم.
“في اللحظة التي اختفى فيها المُتّهم، اكتشفت خادمة القصر الضحيّة، مطعونًا حتى الموت، في الحديقة. بشكلٍ أكثر دقّة، كان المُتّهم يقف، مغطّى بالدماء، بجانب جثّة الضحيّة.”
دوى تأوّهٌ من الرعب بين الحضور. ارتعش فكّ الأرشيدوق من بين أسنانه المشدودة. ثم تابع القاضي.
“هل شَهِد أحدٌ المُتّهم وهو يطعن الضحيّة؟”
“نعم. نطلب استدعاء البستانيّ هيسبيرانو، الذي كان يعمل في قصر الضحيّة آنذاك، كشاهِد.”
رفع رئيس الشرطة يده بثقةٍ لاستدعاء الشاهِد. ثمّ دخل رجلٌ أشيب الشعر إلى قاعة المحكمة.
“ا- ا- الشاهد … أ- أنا هنا ..”
قرأ القَسَم متلعثمًا، وهو يعقد حاجبيه. أخيرًا انتهى القَسَم، والتفت القاضي إلى الشاهِد وسأله.
“هل شاهدتَ المُتّهم، بنديكت ريتشارد، يطعن الضحيّة، ديفون هايدين، بالخنجر؟”
رمش الشاهد هيسبيرانو بعينيه الغائرتين عدّة مرّات، ونظر إلى القاضي.
“في ذلك اليوم، رأيتُ صاحب السعادة الأرشيدوق واقفًا في الحديقة المظلمة وفي يده خنجر.”
أثار جواب الشاهِد دون تردّد طنين الحضور من جديد. نهض رئيس الشرطة، ربما وقد شعر بأنه قد حان دوره للظهور مجددًا، من مقعده بابتسامة انتصارٍ ووجهٍ متعجرف.
“رأى الشاهِد هيسبيرانو المُتّهم يتجوّل ممسكًا بالسلاح، عازمًا على الارتكاب الجريمة تحت جُنح الظلام الدامس. لذلك أعرضُ الخنجر، سلاح الجريمة، كدليل.”
كأنّه يثبت أقواله، رفع رئيس الشرطة الخنجر عاليًا في الهواء. وقف بعض الحاضرين لرؤية الخنجر.
“هذا الخنجر منتجٌ يُورَّد إلى الجيش الإمبراطوريّ، وكان المُتّهم، وهو قائد الجيش الإمبراطوريّ السابق، يمتلكه بطبيعة الحال.”
ضيّقتُ عينيّ وتفحّصتُ الخنجر. كان أهمّ دليلٍ في هذه القضيّة بالتأكيد. السلاح المستخدم في قتل الضحيّة، وكان مرتبطًا بالأرشيدوق، أحد أفراد الجيش الإمبراطوريّ.
“كان الخنجر مغروزًا بعمقٍ في ظهر الضحيّة من ا لجهة اليسرى. لو كان المهاجم من الخلف يمينيًّا، لكان طعن الظهر من الجهة اليمنى. طعن الضحية في الجانب الأيسر يعني أنّ الجاني أعسر.”
توقّف رئيس الشرطة للحظة، ثمّ تحدّث بصوتٍ منتصر.
“ومن المعروف بلا شكّ أن الأرشيدوق ريتشارد أعسر.”
في لحظة، تصاعدت أجواء قاعة المحكمة. وسُمع الجمهور وهم يتمتمون ‘هذه حقيقةٌ لا يمكن إنكارها!’ و’استنتاج رئيس الشرطة كان سليمًا!’ حتى أولئك الذين زعموا سابقًا أن الأرشيدوق يستطيع العيش بنزاهةٍ دون قانون هزّوا رؤوسهم باتّفاق. تابع مفوض الشرطة كلامه بغطرسة.
“علاوةً على ذلك، لو كان المُتّهم بريئًا، لكان قد قدّم خنجره الخاص. ومع ذلك، حاول التهرّب من التُّهَم بالكذب، مُدّعيًا أنه سُرِق قبل أيامٍ قليلةٍ من الحادث.”
نهضتُ بسرعةٍ واعترضتُ على كلام رئيس الشرطة.
“سعادة القاضي، الادّعاء يُدلي الآن بأقوالٍ مبنيّةٍ على حقائق غير مؤكدة. لا يوجد أيّ دليلٍ يثبت أنّ كلام المُتّهم عن سرقة خنجره كاذب.”
أومأ القاضي برأسه بتعبيرٍ خالٍ من العاطفة
“مقبول.”
مع وجود شهودٍ وأدلّةٍ كافية، بدا أنه يرى هذا المستوى من الاعتراض مقبولاً.
“شكرًا لك.”
عند ابتسامتي، انقلبت ملامح رئيس الشرطة قليلاً، كما لو كان مستاءً. ثم شخر، كما لو أن الضربة لم تُصِبه إطلاقًا. ثم، بصوتٍ عالٍ وواضح، أنهى مُرافعته.
“قتل المُتّهَم البارون ديفون هايدين بطريقةٍ وحشيّة. كان نبيلاً، ووالد صاحبة السموّ ولية العهد. هذه جريمةٌ شنيعة، وتطلب إدارة الشرطة بموجب هذا وجيه تُهمة القتل للمُدّعى عليه وطلب أشدّ عقوبة، الإعدام.”
اندلع التصفيق المتقطّع من القاعة. نظر القاضي إلى ولي العهد وزوجته، الجالسين على رأس الطاولة. بدا واضحًا للجميع أنّه يراعيهما كثيرًا.
ثم ألقى نظرة ارتيابٍ عليّ وعلى الأرشيدوق. بالمقارنة مع قاعة الادّعاء الباذخة، برئيس شرطتها ومحقّقيها الكثيرين، كانت طاولة المُتَّهم، حيث جلستُ أنا والأرشيدوق ريتشارد فقط، بسيطةً للغاية.
“جانب الدفاع، هل ستقدّمون ردّكم؟”
تحدّث بتفاؤلٍ ضئيل. بالنظر إلى هذه الأدلّة الواضحة، ربما ظنّ أنه من الصعب التوصّل إلى دفاعٍ يقلب الموازين.
“بالتأكيد. سيدي القاضي.”
قمتُ من مقعدي ببطءٍ وألقيتُ نظرةً خاطفةً حول قاعة المحكمة. قوبلتُ بنظراتٍ متشكّكة، متسائلين فيما إذا كان بإمكان عامّة الناس مثلي التحدّث بشكلٍ لائقٍ في المحكمة، وسخريةٍ لاذعة، متسائلين عمّا إذا كانت كلماتي ستكون مُقنعةً في مثل هذا الموقف الصعب
فتحتُ فمي ببطءٍ مع ابتسامةٍ هادئة.
“أنا إيلينا ريتشارد، المحامية الشرعيّة المُعيّنة من المُدّعى عليه. زوجة المُتَّهم.”
بينما عرّفتُ بنفسي، انفجر الجمهور ساخرًا ومُهلِّلًا. استمتعتُ بالاهتمام، فرفعتُ صوتي بنبرةٍ صارمة.
“في الواقع، قبل الدفاع، أريد تقديم اعترافٍ مهمٍّ جدًّا.”
اهتزّت القاعة مرّةً أخرى. ارتسم الفضول على وجوه الناس، متسائلين عن ماهية الاعتراف المهمّ الذي ستقدّمه محامية المُدّعى عليه. بالطبع، ظلّ الأرشيدوق ريتشارد هادئًا كعادته. لكنّني قرأتُ قلقًا خفيفًا في حدقته المهتزّة للحظة. هو أيضًا قلقٌ من أنّني قد أخونه فجأة.
اعتقد رئيس الشرطة الشيء نفسه، فارتفعت شفتيه بابتسامةٍ متغطرسة. يبدو أنّه يعتقد أنّني، مسحوقةً بحجج قسم الشرطة المثاليّة، سأعترف أخيرًا بجريمة الأرشيدوق.
“كما هو متوقّع، أنتُم تعترفون أخيرًا. إذا كان الأمر كذلك، يمكنني اعتباره طلبًا في النظر في تخفيف الحكم. ربما السجن المؤبّد بدلا من عقوبة الإعدام.”
جعلني صوت رئيس الشرطة المتغطرس أتجهّم. لقد حان وقتي للاستعراض. وضعتُ يديّ برفقٍ على صدري وانحنيتُ له بانحناءةٍ مبالغٍ فيها.
“يا لها من رحمةٍ منك، سيدي المفوّض. لكنّ الكلام الذي أريد قوله هو …”
مع تلك الكلمات، استدرتُ نحو الأرشيدوق ريتشارد بابتسامة. لمحتُ نظراته المذهولة، فبادلتُه النظرات، بنظرةٍ عميقةٍ ثاقبة. وأخيراً، ارتسمت أجمل ابتسامةٍ ممكنةٍ على شفتيّ، وبأنقى وأكمل تعبير، نطقتُ بأهم كلماتٍ تلك اللحظة بأوضح صوت.
“أُحبُّك، حبيبي.”
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"